السبت، 30 ديسمبر 2017

بورتريه أرمل
(إلى: منير حبّـابة. قبل موته أرسلت إليه هذا النص، والآن بعد موته لم يتغير شيء.)
الشاعر السوريّ
 محمد علاء الدين عبد المولى

قميص من أعشاب يابسة جسدي،
كنتُ كلّ يوم أخلعه ليلاً لأمدّد الهباءَ في سرير ضريرٍ
هوى عليه معولُ السرطان
رأيته قبراً مؤقّتاً لما تبقّى من جسد " السوسنة ".
سريرٌ من بقايا وليمةِ الصبّار جسدي،
أشلح في كل يومٍ ذكرياتي، وأنامُ كثعلبٍ مطعونٍ.
مقعدٌ صخريٌّ جسدي،
أتمرجحُ فيه بين هواءينِ يتناحران على امتلاكي.
في الخارج / عيونُ الفولاذ تنهشني، مكاتبُ أمراء الرّعب تقلب في وجهي
خرائطَ المعتقلات، وجبنةَ الطّوائفِ، مع أنّ رائحةَ العرق كانت تعلّق نجمتين
في طرفَيْ أذنيّ.
في الخارج / بيّاعو الفلافل يكوّرون هواجسَهمْ ويقذفونها في الزيت
لذلك ترى بعض الجبال الثقيلة تتدلى من بين أسنانكَ،
وأنت تقضمُ آخر لقمة من السندويشة
وربما يُهيّأ لك أن تمضغُ قليلاً من صرخات الذعر
الممزوجة مع بهارات الشيطان الهندي.
في الخارج / مراقص سوداء لأشباح عقولٍ تخجل من العراء حتى وهي وسط البحر
الأسماكُ الصغيرةُ أجّرتْ زعانفها للحيتان، وغلاصمها فتحاتٌ لنار مسمومة.
دعكَ من نوح، سفينته صارتْ صندلاً للقرصان الأكبر،
ربما أفادتنا خرافة حوت يونس.
ألا تتذكر أننا التقينا في الحوت كثيراً وكنا نحمل جدّاتنا على ظهورنا
ونصرّ على غسل خلاياهنّ المتفسّخة بزيت الزيتون وصابون الغار؟
ألا تتذكر كم نقشنا على أضلاع الحوتِ ما تخيلناه قصائد رعويةً؟
في حوت يونس يا صاحبي مرت علينا شعوب وقبائل بلا (تعارفوا)
مرة قطارات فئران وجرذان تلوّحُ لطوابير الحداثة
عرباتُ صخرٍ تقعقع للثورة
بياعو جرائد حزبية ويانصيب وعلكة محشوة بالويسكي،
كان يبيعها تحديداً الابنُ البائس لشيخ الحارة.
ضاق البحرُ على الحوتِ
قلّت أمواجه
ثمةَ من بلّطه أيضاً، واسألْ فقراء الساحل.
ضاق البَرُّ على من ينتظرُ خروجنا من الحوتِ
شرشرتْ أكياسُ المدينةِ حموضة اللبن المتخثّر منذ عهد " الحَجّاج ".
المدينة يا صاحبي خلخالٌ مهترىءٌ في قدمِ التراثِ، ونحن سكّانها ما علينا
إلا أن نميّلَ رؤوسنا ذاتَ " يزيد " وذاتَ " معاوية "، كلما رنّ الخلخالُ الخالدُ.
يا صاحبي! خسرتُ فقط ألفاً وأربعمائة عامٍ من عمري!
خلال ذلكَ، ربحني الفقيهُ والخليفةُ والمهديّ والرئيسُ والأمير والملكُ المفدّى... والفقرُ!
ربحني حارس الذاكرة، أثمرَ رصيده في بنكِ الأيديولوجيا.
ربحني القوميّ: لم يستطع بعثَ نملةٍ من جحرها.
ربحني الشيوعيّ: تنتهي الحرية لديهِ عند جسد أخته.
ربحني الإخوانيُّ: اعتقدَ أنّ اللهَ مشغولٌ بأيّ قدمٍ سأدخل المرحاضَ.
ربحني الليبراليّ: جمع كل أولئكَ في بقجةٍ خبّأها في خزانة عقله.
ربحني العدميّ وطيّرني مع الصراصيرِ في حاوية القيامة.
أنا وحدي لم أربح شيئاً... وقفتُ أمام عربة الوقتِ على سفحٍ بعيدٍ،
مددت لساني لكل هؤلاء، ومضيتُ في مستقبلي.
الآن... زوجتي تمارس رياضة السرطان في قبرها.
أولادي عناقيدُ ثومٍ معلقّة في سقفِ الرعب.
تنزل على رؤوسهم أمثالُ دم فاسدٍ وأحلامُ وطنٍ بائد.
وأنا هناك خلف عربة الوقت، في سفح المنفى، ضيّعتُ مستقبلي.
الآن مُحِيَ دفتر العائلة،
هويّتي مدوّنةٌ مفتوحةٌ للقتلى،
أخبِطُ في أرضِ اللّغة ولا تورّثني شيئاً.
أحرقتُ خشبَ المغارة، أدفىءُ بها ما بقيَ من عظامي.
تعصفُ تحت جِلدي عواصفُ رمليّةٌ، لا كنتُ رَبْعاً خالياً
ولا رُبعَ ياسين، و لا رُبعيّةَ عرق ميماس، كلَّ مساءٍ أنصبُ
خيمةً أزخرفها بتوابيت بلاستيكية، وفناجين القهوة
وأرفعُ صوتَ البومِ
أقفُ في باب الخيمةِ مستقبلاً المعزّين بي.
كلَّ مساء يأتون وأغافلُهم بأنْ أغيّر ملامحي حتى يجدوا فيّ ميتاً جديداً،
مرةً اتخذتُ ملامحَ أحدهمْ، حين رآني سقطَ ميتاً،
مددتُ يدي إلى قلبه وأخرجتُ صديقتي التي سرقها مني.
الخيمة موجودةٌ، عزّينا به.
الآن... نوافير النساء المكسيكيات أمامي، وأنا ما زلتُ كالأبله
أحنّ إلى قطرةِ ماءٍ سرحتْ بين نهديْ صبيّةٍ سوريةٍ.
هنا في كذبة المنفى، لا مرايا إلا قليلاً في بيتي،
ما حاجتي لرؤية جثّةٍ تأكلُ وتشربُ وتحلق ذقنها باللّمس؟
يمرّ بي الوقتُ جاهلاً أسماء الأيامِ، كل مرة أسألُ ناطور العدم: ما اسم اليومِ؟
يقهقهُ ويتابع اصطيادَ أرانبِ الخلود من جُحور المَجرّات المنقرضةِ.
يمرّ بي شحّاذون كلَّ دقيقةٍ، عازفو قيثاراتٍ، عاهراتٌ قبيحاتٌ،
مثليّون ومثليّاتٌ، بناتٌ بسيقانٍ مغسولةٍ بحليب الزهر، وشورطاتٍ أميريكةٍ،
رجالٌ يلوكون علكةَ الحضارةِ فيما يسوقون كلابهم إلى جانب صديقاتهم الحديثات،
رجال بوليس مستعدّون لبيعِ أخواتهم برشوةٍ غير بليغةٍ،
مُدمنو مُخدّراتٍ رديئة،
لصوصٌ مكسيكيّون يخطفون اسمكَ وأنت لا تشعرُ.
يمرّ بي بلدٌ ملوّثٌ محمولٌ على ظهر ديناصورٍ فظّعَ به الغزوُ،
قضقضَ عظامَهُ ورماه ولائمَ للنّمل المعدنيّ.
يمرّ بي اسمي يناديني لا أعرفهُ.
ربما نسيت اسمي على شاهدةٍ في قبرٍ سوريّ لم يُحْفرْ بعد.

المكسيك 25 كانون أول 2013