الأحد، 12 نوفمبر 2017

علم النفس والأدب

كارل جوستاف يونغ

Psychology and Literature

C.G.Jung

   ترجمة : سمير حمارنه ود.جمال مقابله



من الواضح أن علم النفس هو دراسة "العمليات النفسية "Psychic Processes، ويمكن حشد كل طاقاته لأداء مهمة دراسة الأدب؛ لأن النفس الإنسانية هي الرحم لجميع أشكال العلوم والفنون. وقد نتوقع من البحث النفسي، بالمقابل، شرح تشكّل العمل الفني وتفسيره، ومن ناحية أخرى، الكشف عن العوامل التي تجعل من الشخص فنّاناً مبدعاً. وبذلك يجابه عالم النفس مهمتين منفصلتين ودقيقتين، وعليه الاقتراب منهما بطرق مختلفة اختلافاً جذرياً.
في حالة العمل الفني علينا التعامل مع منتوج النشاطات النفسية والعقلية المعقدة – ولكن مع منتوج واضح يكون ذا هدف محدد وتشكّلات تتسم بالوعي والإدراك، وفي حالة الفنان علينا التعامل مع الأدوات العقلية والنفسية ذاتها. ومنذ اللحظة الأولى علينا محاولة استعمال التحليل النفسي لتحقيق فنّي واقعي ملموس، وأن يتم تحديده بشكل مؤكد، أمّا في الحالة الثانية فيجب أن نحلل الإنسان الحي والخلاّق بوصفه شخصية فريدة من نوعها.
ومع أن هذين التعهدين متصلان بعلاقة وثيقة ذات استقلال متداخل، فلا يمكن لأحدهما تقديم التفسيرات التي كان يبحث عنها الآخر أو منحها، ومن الممكن استنتاج الاستنباطات حول الفنان من العمل الفني وبالعكس، ولكن هذه الاستنتاجات لا تعتبر حاسمة أو نهائية. وفي أحسن الأحوال يمكن اعتبارها، على الأغلب، نوعاً من الحدس أو التخمينات والظنون. إن معرفتنا علاقة "غوته" الخاصة مع أمه تلقي بعض الضوء على هتاف "فاوست" التعجبي؛ "الأمهات ! الأمهات ! كم من الغرابة تبدو في هذه الأصوات"!
ولكن هذا الأمر لا يمكّننا من معرفة كيف استطاعت علاقته بأمه إنتاج مسرحية فاوست نفسها، ودون شك نستطيع أن نلمس في "غوته" الرجل اتصالاً عميقاً بين الاثنـين.
ولسنا أكثر نجاحاً في استنتاج الاتجاه المعاكس، فلا يوجد أي شيء في "خاتم النيبلونغز" The Ring of the Nibelungs، يمكّننا من التعرف على، أو الاستنتاج، أن "واغنر" كان يحب أن يلبس الثياب النسائية بين فترة وأخرى، مع أن الاتصالات المخفية موجودة بين الأبطال الذكور في عائلة "نيبلونغز"، وأن هنالك ميلاً مرضياً نحو الأنوثة والثخنت في شخصية الرجل "واغنر".
إن الوضع الحالي لتطور علم النفس لا يسمح لنا بإقامة تلك الاتصالات السببية العنيفة التي نتوقعها من العلم، إننا في حقل الغرائز والانعكاسات اللاإرادية النفسية – الجسمانية نستطيع فقط العمل والتأثير بثقة في فكرة السببية. وابتداءً من النقطة التي تبدأ بها الحياة النفسية والعقلية، أي في مستوى أكثر تعقيداً- يجب على العالم النفسي أن يشبع رغباته، وأن يمد نفسه بسلسلة واسعة من الأوصاف والأحداث والتصوير الحيوي للنسيج والخيوط المشكّلة للعقل في جميع تعقيداته المنهلّة والمثيرة. وبعمل هذا، عليه أن يحجم عن اختيار أو تعيين أي طريقة نفسية، وإذا لم تكن هذه هي حال الأمور، ويستطيع عالم النفس إقناع الآخرين بالاعتماد عليه في كشف الارتباطات السببية ضمن عمل فني، وبطريقة الخلق الفني، فإنه في هذه الحالة سيترك دراسة الفن دون أرض يقف عليها ويساعد على تقليصها لتصبح فرعاً خاصاً من علومه الخاصة. وحتى يكون عالم النفس متأكداً من ذلك عليه أن لا يتخلى عن مطالبته بالاستطلاع وتأسيس علاقات سببية في أحداث نفسية معقدة. ولعمل ذلك سيكون الأمر إنكار الحق لعلم النفس في الوجود. ومع ذلك لا يمكنه أن يجعل من هذه المطالبة أو الادعاء أمراً إيجابياً جدياً بالمعنى التام للكلمة؛ لأن المظهر الخلاّق للحياة الذي يجد أنقى التعبيرات من خلال عمل الفن يُحير ويُربك جميع المحاولات عند لحظات التشكّل العقلاني.
وأي ردة فعل للحوافز قد يتم شرحها من الناحية السببية. ولكن الفعل الخلاّق، الذي يعتبر التناقض أو التضاد المطلق لعملية ردة الفعل، سيحاول تجنب إدراك الفهم الإنساني أو معرفته، يمكن القيام بوصفها فقط من خلال تجلياتها وظهورها للعيان، ويمكن إدراكها والإحساس بها بشكل غامض، ولكن لا يمكن فهمها بشكل كامل.
إن علم النفس ودراسة الفن صنوان وتوأمان لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، ولا يمكن لأي منهما أن يُبطل الآخر أو أن ينسخه. ومن المبادئ المهمة في علم النفس أن الأحداث النفسية يمكن استنباطها باستمرار.
إنه مبدأ في دراسة الفن أن المنتوج النفسي بحد ذاته يعدّ أمراً مستقلاً بنفسه- بغض النظر عن العمل الفني أو الفنان أو الكاتب ذاته في عملية التساؤل، كلا المبدأين يعدان مجديين على الرغم من النسبية التي تكتنفهما.

1- العمل الفني:
هنالك اختلاف جوهري أساس في كيفية فهم الموضوع ما بين طريقة عالم النفس في دراسة عمل أدبي، وما بين تلك الدراسة التي يقوم بها الناقد الأدبي. فما يعتبر ذات أهمية وقيمة حاسمة بالنسبة للأخير – الناقد الأدبي، قد يكون خارجاً عن الموضوع وليس ذات أهمية بالنسبة للأول- عالم النفس. إن النتاج الأدبي الذي يتمتع بجدارة مشكوك بها، قد يحظى على الأغلب باهتمام بالغ لدى عالم النفس. فعلى سبيل المثال، إن ما يُسمى بـ"الرواية النفسية – Psychological novel"، تعد بكل المعايير بالنسبة لعالم النفس قطعة أدب مُجزية مثلها مثل تلك القطع الأدبية التي تخاطب العقل. وعلى وجه الإجمال، فإن رواية كهذه، تشرح نفسها، أنجزت عملها الخاص بها من التفسير السيكولوجي والنفسي، ويستطيع عالم النفس القيام بعمله النقدي والتوسع في عمله تجاه هذا المنحى. والسؤال المهم هنا هو؛ كيف أن مؤلفاً معيناً استطاع كتابة رواية ما؟ يبقى سؤالاً دون إجابة، ولكنني أرغب في الاحتفاظ بهذه المشكلة العامة للجزء الثاني من مقالتي.
إن الروايات الأكثر جدوى ذات الثمار الصالحة للقطاف بالنسبة لعالم النفس هي تلك الروايات التي لم يكتب بها المؤلف أي تفسيرات أو شروح نفسية لشخصياته، وبذلك يفسح مجالاً أمام التحليل والتفسير. الأمثلة الواضحة على هذا النوع من الكتابات هي روايات "بينويت" – Benoit، وفي الرواية الإنجليزية في نمط "رايدر هاغرد" - Rider Haggard أو أسلوبه، بما في ذلك المزاج الذي سُخِّر في عمل "كونان دويل" – Conan Doyle، والذي يستنتج منها  أن أكثر الروايات التي تبقى حية في الذهن الجماعي للجمهور، هي القصة البوليسية.
وأما رواية "موبي ديك" Moby Dick، للكاتب "ملفل" Melville، التي أعتبرها أعظم رواية أمريكية، فهي أيضاً تأتي ضمن هذا التصنيف من الكتابات. تعتبر رواية مثيرة، ومن الواضح أنها تخلو من العروض السيكولوجية النفسية، وهذا بالتحديد ما يهم عالم النفس في الأعمال الأدبية. إن حكاية كهذه مبنية على خلفية عملية من الافتراضات السيكولوجية الضمنية، التي لا يكون المؤلف واعياً إياها وعلى دراية بها، تكشف عن نفسها، نقية وغير مزيفة، وذات بصيرة نقدية.
وفي الرواية السيكولوجية، بالمقابل، فإن المؤلف نفسه يحاول إعادة تشكيل مادته الكتابية؛ ليرفعها من مستوى المادة الخام للأفكار الطارئة ذات الاحتمالات غير المتوقعة إلى المستوى المشع والمتألق لطريقة العرض السيكولوجية – وهو إجراءُ على الأغلب يغلف الأهمية السيكولوجية للعمل ويخفيها عن النظر. وبالنسبة لروايات من هذا النوع، يحاول العلماني أن يؤيد علم النفس بها، بيد أن الروايات من النوع الآخر تتحدى عالم النفس؛ لأنه الوحيد القادر على منحها المعنى الأعمق.
كنت أتكلم حول موضوع الرواية، ولكنني أتعامل مع حقيقة سيكولوجية غير مقيدة بهذا الشكل الأدبي أو الفني الخاص، ونقابل تلك الحقيقة أيضاً في أعمال الشعراء ونُجابه بها عندما نقارن بين الجزء الأول والجزء الثاني من مسرحية فاوست. إن مأساة – الحب لدى "غرتشن" تقوم بتفسير ذاتها، لا شيء هنالك يمكن لعالم النفس أن يضيفه إليها أكثر مما قد كان قاله الشاعر بأجمل الكلمات وأرق التعبيرات. وأما الجزء الثاني بالمقابل فهو بحاجة إلى الشرح والتفسير. إن الثراء المذهل في المادة الخيالية قد ساعد على إرهاق قوى الشاعر التشكيلية، بحيث يصعب إيجاد أبيات شعرية تفسر ذاتها، بل على العكس من ذلك فإن كل بيت من الشعر تقريباً بحاجة إلى تفسيرات متعددة يحتاج إليها القارئ. إن الجزأين كليهما من عمل "فاوست" يصوران النقيضين المذكورين كليهما أيضاً للتمييز السيكولوجي الموجود بين الأعمال الأدبية.
ولكي نستطيع توكيد هذا التمييز، سأحاول أن أدعو الأسلوب الأول من الخلق والإبداع الفني بـ "السيكولوجي"، والآخر بـ"الرؤيوي" – Visionary. أما الأسلوب السيكولوجي فيتعامل مع مواد مشتقة من حقل الضمير الإنساني- على سبيل المثال، من دروس الحياة، ومن الصدمات العاطفية، ومن خبرة العاطفة والانفعالات، ومن أزمات القدر الإنساني –بشكل عام- وجميعها تشكل حالات الوعي الإنساني، وأحاسيس الإنسان بشكل خاص، لقد جرى تمثُّل هذه المواد نفسياً لدى الشاعر، وقام برفعها من أماكنها العامة إلى مستوى الخبرات الشعرية، وأعطيت التعبير الذي يُرغم القارئ على طلب المزيد من الوضوح والعمق في النظرة الإنسانية، بمحاولة جلب ما أمكن لوضعه في ضميره، لأمور يتغاضى عنها ويتجاوزها، أو أنه يحس بها فقط بنوع من الشعور الباهت بعدم الارتياح.
ويتسم عمل الشاعر بأنه شرح وتفسير وإضاءة لمحتويات الوعي والإدراك، لخبرات الحياة الإنسانية التي يتعذر تجنبها، بكل أشكال الفرح والحزن المتواتر بشكل أبدي. وهو لا يترك شيئاً لعالم النفس، ما لم نتوقع من الأخير أن يشرح الأسباب التي جعلت "فاوست" يقع في حب "غريتشن"، أو تلك التي حدت بغريتشن لقتل طفلها، إن أفكاراً رئيسة كهذه هي التي تشكل بمجموعها خبرة الإنسان، وتكرر نفسها ملايين المرّات وتكون مسؤولة عن الرتابة المطردة في محكمة –الشرطة وعن قانون العقوبات الجزائية، لا يحيط بها أي نوع من الغموض؛ لأنها جميعاً تقوم بتفسير نفسها.
هنالك أعمال أدبية لا تحصى ولا تُعد تخص هذه الطبقة؛ الروايات العديدة التي تتعامل مع الحب، والبيئة، والعدد الكبير من القصائد الشعرية الغنائية، والمسرح التراجيدي  والكوميدي، ومهما يكن شكلها فإن العمل الفني السيكولوجي يأخذ مادته دائماً من الحقول الواسعة لوعي الخبرة الإنسانية – من صور الحياة الأمامية، ولقد أسميت هذا النوع من الخلق الفني بالسيكولوجي؛ لأنه بحيويته هذه لا يسمو على حدود الجلاء والوضوح السيكولوجيين ولا يتجاوزهما ، كل ما يتضمنه –من الخبرات والتعبيرات الفنية- يعود إلى حقل المفهوم. وحتى الخبرات الأساسية نفسها، مع أنها غير عقلانية، فلا يوجد شيء غريب، بل على العكس، إنها تلك التي قد عُرفت منذ بداية الزمن – العاطفة ونتيجتها القدرية، خضوع الإنسان للقدر، وطبيعته الأبدية الخالدة بما فيها من جمال ومخاوف.
إن البون الشاسع والعميق بين الجزء الأول والثاني من "فاوست" يشير إلى الفرق بين الأسلوبين السيكولوجي والرؤيوي لجماليات الخلق والإبداع، الأسلوب الآخر يعكس جميع الشروط الموجودة في السابق. وأما الخبرة التي تقوم بتزويد المادة بالتعبيرات الأدبية فلم تَعُد مألوفة، إنها شيء ما غريب يشتق وجوده من المنطقة الخلفية لعقل الإنسان – وهذا يقترح حالة اللاّتكون الزمني التي يصعب سبر غورها، وهي التي تفصلنا عن عصور ما قبل الإنسان، أو تصور لنا عالماً إنسانياً خارقاً من المغايرة والتباين بين النور والظلام، إنها خبرة أصلية وبدائية تتفوق على الفهم الإنساني وتتجاوزه ، ولذلك فإن فهمه يتعرض لخطر الموت والاستسلام. إن قيمة الخبرة أو قوتها تبان من ضخامتها، تنشأ من أعماق لا يحدها الزمان، تتسم بالغرابة والبرودة، متعددة الجوانب ذات براعة عظيمة وخيال متنافر. وهنالك عيّنة من السخف والرعب تمثل هذه الفوضى الأبدية (الخيانة ضد الإنسانية) Treason against humanity، ونقتبس من كلمات "نيتشه" –"تنفرج متباعدة إرباً متجاوزة المقاييس الإنسانية للقيم وللأشكال الجمالية". إن الرؤية المزعجة للأحداث الوحشية الخالية من أي معنى، التي تتجاوز مفهوم الشعور الإنساني وإدراكه بكل الطرق، تجعل المطالب والرغبات الأخرى تؤثر في طاقات الفنان أكثر مما تقوم به الخبرات في طليعة الحياة. وهذه لا يمكنها أن تمزق أوتنزع الستارة التي تغلف الكون وتغطيه، وهي لا تتجاوز الحدود الإنسانية، ولهذا السبب تم تشكيلها وإعدادها لمطالب الفن، بغض النظر عن حجم الصدمة التي يمكن أن تحدثها على الأفراد، ولكن الخبرات البدائية تشق حجب المعرفة من الأعلى إلى الأسفل، على الستارة المرسوم عليها صورة لعالم منظّم، وتسمح لومضة تضيء في أعماق اللاّتكون الذي لا يُسبر غوره للأشياء التي لم تُصبح بعد. هل هي رؤية عوالم أخرى، أم هي من غموض الروح، أو من بداية الأشياء قبل وجود الإنسان، أو من أجيال المستقبل التي لم تولد بعد؟ لا نستطيع القول إنها أي واحدةٍ من هذه ولا نستطيع نفي ذلك.

التشكل – وإعادة التشكل
الروح الأبدية الخالدة هي الزمن الأبدي الذي مضى

نجد رؤية كهذه في "راعي هيرماس" The Shepherd of Hermas، في "دانتي"، في الجزء الثاني من فاوست، وفي وفرة الشهوة في "ديونيزيوس" لـ"نيتشه"، وفي "خاتم نيبلونغـز" لـ "واغنر"، ولدى "شبتلر" في "الربيع الأولمبي" Olympischer Fruhling، وفي شعر "ويليام بليك"، وفي كتاب "الأبثروثوماكيا للراهب "فرانسيسكو كولونا" Monk Francesco Colonna وفي كتابات "جاكوب بوهم" Jacob Boehme "تمتمات فلسفية وشعرية" Philosophic and poetic stammerings، وفي طريقة مشددة وأكثر تحديداً، تقوم الخبرة البدائية بتزويد المادة لدى "رايدر هاجرد" Rider Haggard في "حلقة –الرواية" Fiction Cycle التي يبحث فيها عن حقيقة كلمة "هي" She، ويفعل نفس الشيء بالنسبة لـ "بينويت" – Benoit،  بشكل رئيسي في "الأتلنتايد" L`Atlantide، وبالنسبة لـ"كوبن" Kubin- في كتاب "الصفحة الأخرى" Die Andere Seite، وبالنسبة لـ "ميرينك" Meyrink في كتاب "الوجه الأخضر" Das Gruene Gesicht، وهو كتاب علينا أن لا نقلل من أهميته أو قيمته البارزة – وبالنسبة لـ "غوتز" Goetz في كتاب "مملكة دون مكان" Das Reich ohne Raum، وبالنسبة لـ "بارلاخ" Barlach، في كتاب "اليوم الميت" Der Tote Tag. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى المزيد من الكتب والأسماء المشابهة.
وفي تعاملنا مع الأسلوب السيكولوجي لعملية الخلق والإبداع الفني، لسنا بحاجة لأن نسأل أنفسنا مم تتكون المادة أو ما الذي تعنيه لنا؟ ولكن هذا السؤال يفرض نفسه علينا في اللحظة التي نصلُ فيها إلى الأسلوب الرؤيوي للخلق والإبداع، نصاب بالدهشة، نرجع إلى الخلف، مرتبكين، نلبس أقنعتنا الواقية بحذر وربما أحياناً بقرف – ونطالب بمزيد من التعليقات والتفسيرات والشروح.
يتم تذكيرنا بأشياء يومية غير ذات أهمية، كالحياة الإنسانية، ولكن تكون أكثر ميلاً إلى الأحلام، ومخاوف الليل، وأعماق العتمة المنعزلة في عقولنا التي نحس بها أحياناً وندركها بهواجس الريبة والشك. إن جمهور القراء لمعظم الأجزاء يرفض هذا النوع من الكتابة – إذا كان مثيراً للإحساس بطريقة غير مصقولة، حتى إن الناقد الأدبي يشعر بالإحراج من جراء ذلك.
حقاً لقد ساعد "دانتي" و "واغنر" في تمهيد الطريق نحو فهم هذه الكتابة، ففي حالة "دانتي" تم حجب الخبرة الرؤيوية بالمقدمة حول الحقائق التاريخية. وبالنسبة لـ"واغنر" بالأحداث الأسطورية –بحيث أن التاريخ والأسطورة شكّلا أحياناً المواد التي كتب بها هذان الشاعران، ولكن لا أحد منهما يجعل القوة المحركة والأهمية العميقة تظهر بين خبايا كتاباته، هذه الأشياء تظهر في الخبرة الرؤيوية لديهما، وبالنسبة لـ"رايدر هاجارد" يعد، على العموم، مخترع الرواية، وحتى بالنسبة له فإن القصة بشكل رئيس هي وسيلة إعطاء التعبير لمواد كتابية ذات أهمية، ومهما بدت القصة أكبر حجماً من المحتوى، فإن الأخيرة تتفوق من حيث الأهمية على سابقتها.
ويبدو الغموض بالنسبة لمصادر المادة في أسلوب الإبداع الرؤيوي أمراً غريباً، والنقيض الدّقيق له هو ما نجده في الأسلوب السيكولوجي للإبداع، وأحياناً يقودنا الشك لنعتقد أن هذا الغموض يظهر عن سبق إصرار وتخطيط. ونعتقد بشكل طبيعي – وتشجعنا السيكولوجية الفرويدية على الاعتقاد بذلك- أن هنالك خبرة شخصية عالية المستوى تشكل أساس هذه الظلمة الهائلة. ونحن نأمل بذلك أن نفسر هذه الومضات الغريبة من الفوضى، وأن نفهم لماذا يبدو أحياناً كما لو أن الشاعر قد أخفى عنا خبرته الأساسية عن سبق إصرار وتخطيط، هنالك خطوة فقط تبعدنا عن هذه الطريقة في النظر إلى المسألة وهي طريقة العرض التي نتعامل معها بفنية تتسم بالمرض والعُصابية – وهي خطوة تم تسويغها على أنها مادة الخلق والإبداع الرؤيوي الذي يُظهر سمات معينة نجدها في خيالات المجنون الجامحة، والعكس أيضاً صحيح، غالباً ما نكتشف في النتاج العقلي لدى الأشخاص الدهاة ثروة في المعاني التي نتوقعها على الأغلب في أعمال العباقرة، إن عالم النفس الذي يتبع "فرويد" يميل إلى اعتبار الكتابات التي تطرح الأسئلة بوصفها مشكلة من مشكلات علم الأمراض، وعلى افتراض أن الخبرة الشخصية أو العزيزة، تشكل أساس ما أدعوه "بالرؤية الأصلية" – وهي خبرة لا يمكن قبولها بالوعي الاستشرافي – سيحاول عالم النفس أن يقيم وزناً لصور الرؤية الذهنية الغريبة بتسميتها الرموز –المخفية، وافتراض أنها تُمثل محاولات الإخفاء للتجربة الأساسية، وهذا الأمر حسب نظرته، قد يكون خبرة في الحب الذي قد تُعد الأخلاق والجمال متضاربة فيه مع الشخصية بشكل عام، أو على الأقل مع روايات معينة في العقل الواعي والمدرك، وليتمكن الشاعر ومن خلال "الأنا" Ego، من أن يكبت هذه الخبرة، حتى يتعذر التعرف عليها، إن جميع المستودعات التي تضم الخيال المرضي قد بدأ استعمالها، ومزيداً على أن محاولة إحلال الحقيقة في الرواية، وبما أنها ليست مقنعة، يجب أن تتكرر في مجموعة طويلة من المضامين الخلاّقة، وهذا يشرح انتشار الأشكال الخيالية؛ كل ما هو وحشي، وشيطاني، وضخم، ومنحرف، فمن جهة تعتبر هذه بدائل عن الخبرة غير المقبولة، ومن جهة أخرى تساعد على إخفائها.
ومع أن نقاش شخصية الشاعر ونزعته النفسية يخصص لهما وبشكل تفصيلي الجزء الثاني من مقالتي هذه، فإني لا أستطيع أن أتجنب اختيار نظرة فرويد هذه حول رؤيوية العمل الفني وخصوصاً في النقاش الجاري. فهي قد أثارت اهتمامات ذات قيمة واضحة، إذ تعتبر المحاولة الوحيدة المعروفة التي قد شُكلت لتعطي تفسيراً "علمياً" لمصادر المواد الرؤيوية، أو لتشكيل نظرية العمليات النفسية التي تشكل أساس هذا الأسلوب الغريب للإبداع الفني، أفترض أن نظرتي الخاصة للسؤال ليست معروفة بشكل جيد أو مفهومة بشكل عام، وهذه ملاحظة تمهيدية، وسأحاول الآن تقديمها بشكل مختصر.
إذا بالغنا في الإصرار على اشتقاق الرؤية من خبرة شخصية، فعلينا أن نعامل النمط السّابق بوصفه شيئاً ثانوياً – أو تعويضياً عن الواقع، والنتيجة تكون أننا ننزع الرؤية عن نوعيتها البدائية ولا نراها إلا أحد أعراض الظاهرة، وما تفتأ هذه الفوضى الحبلى بالتقلص إلى درجة الإزعاجات النفسية، وبهذا الإفصاح عن الأسباب والدوافع للمسألة نشعر بالثقة والتأكيد مرة أخرى، ونرجع ثانية إلى صورتنا نحو عالم متناغم في الدقة والتنظيم. وبما أننا نتسم بالعملية والعقلانية، فلا نتوقع من العالم أن يكون مثالياً متكاملاً، ولكننا نقبله دائماً ببعض الشوائب والعيوب التي لا يمكن تجنبها، ونحن نطلق عليها أحياناً أسماء كالأمراض والأمور غير الطبيعية، ونراها أمراً مسلماً به، وأن الطبيعة الإنسانية غير معفاة منها.
إن الإظهار المخيف لأعماق اللاّتكون ولججه التي لا يُسبر غورها، والتي تتحدى الفهم الإنساني، قد تم طردها واستبعادها بوصفها وهماً، واعتبر الشاعر ضحية الخداع، وحتى بالنسبة للشاعر، فإن خبرته البدائية كانت "إنسانية – جميعها مغالاة في الإنسانية"، إلى درجة معينة بحيث لم يستطع مواجهة معناها، ولكن كان عليه إخفاؤها عن نفسه.
وأعتقد أننا سنقوم بعمل إيجابي عندما نجعل الأمور جلية واضحة بالنسبة لجميع ما تضمنته طريقة تقدير الإبداع الفني الذي يتكون من خلال تقليله إلى عناصر شخصية. علينا أن نرى بوضوح الاتجاه الذي تقودنا إليه، الحقيقة – هي أنها تُبعدنا كثيراً عن الدراسة السيكولوجية للعمل الفني، وتجابهنا بالنزعة النفسية للشاعر نفسه. إن الأخير يقدم مشكلة مهمة، هذا الأمر لا يمكن نكرانه، ولكن العمل الفني يعدّ شيئاً يتسم بالحقيقة، ولا يمكننا إبعاده عن أذهاننا، وإن تساؤلات الشاعر الهامة حول شعره إذا ما كان عملاً خلاّقاً – أو أنه محض عمل تافه، أو غطاء، أو مصدر معاناة أو تحقيق لمنجزات معينة- هذه الأمور لا تعنينا كثيراً في هذه اللحظة، إن جُلَّ اهتمامنا يتركز على تفسير العمل الفني من الناحية السيكولوجية. ومن أجل هذا الضمان فإنه من الضروري أن نولي جلَّ الاهتمام للخبرة الأساسية التي تشكله- أي الرؤية، وعلينا على الأقل أن ننظر إلى المسألة بجدية واضحة بما يخص الخبرات التي تشكل الأساليب السيكولوجية للإبداع الفني، ولا يوجد أدنى شك لدى الجميع أن كليهما حقيقي وجاد، ويبدو الأمر كما لو أن الخبرة الرؤيوية كانت شيئاً بعيداً عن الإنسان العادي، وأنه لهذا السبب نجد صعوبة في تصديق أنها حقيقية، ويدور حولها اقتراح من الميتافيزيقا الغامضة، وهناك أيضاً إيمان بالقوى الخفية ومدى القدرة على إخضاعها للسيطرة البشرية، بحيث نشعر أن هناك من ينادينا ويدعونا للتدخل باسم حصافة التفكير التي تتسم بالنوايا الطيبة. واستنتاجنا في هذا المنحى أنه من الأفضل أن لا نأخذ مثل هذه الأمور بكثير من الجدية، ما لم يرجع هذا العالم مرة أخرى إلى جهل الخرافات، وبالطبع قد يكون لدينا ولع ونزوع نحو سحر الغموض، ولكننا نطرد الخبرة الرؤيوية بوصفها نتيجة للفنتازيا الثرية، أو للحالة الشعرية – أي بمعنى آخر، بوصفها نوعاً من الشهادة الشعرية المفهومة سيكولوجياً.
هنالك شعراء معنيون يشجعون هذا التفسير ليضعوا مسافة مأمونة بينهم وبين عملهم، و"شبتلر" Spitteler، على سبيل المثال، يصر بشكل جريء على أن الأمر سيّان فيما إذا قام الشاعر بغناء "الربيع الأولمبي" Olympian Spring، أو بالنسبة للفكرة الأساسية "أيار موجود هنا!" "May is here!"، الحقيقة هي أن الشعراء بشر، وأن ما يجب أن يقوله الشاعر حول عمله غالباً ما يكون بعيداً عن الكلمة الأكثر ألقاً وإشراقاً في الموضوع، والمطلوب منا إذن ليس أقل من الدفاع عن الخبرة الرؤيوية ضد الشاعر نفسه.
لا يمكننا أن ننكر أننا نمسك برجع الصدى لخبرة حب أولية في رواية "راعي هيرماس"  ، وفي "الكوميديا الألهية" Divine Comedy، وفي دراما "فاوست" خبرةً تم اكتمالها بالرؤية، لا يوجد هنالك سبب أو حجة لافتراض أن الجزء الثاني ينكر أو يخبئ الخبرة الإنسانية العادية من الجزء الأول، ولا مسوغ لنا لافتراض أن "غوته" كان عادياً عندما كتب الجزء الأول، ولكنه كان مصاباً في عقله بحالة عصابية عندما قام بتأليف الجزء الثاني.
يمكن اعتبار "هيرماس"، و "دانتي"، و "غوته"، ثلاث خطوات لسلسلة متعاقبة من الزمن تغطي قرابة ألفي عام من التطور الإنساني، وفي كل حالة منها لا نجد قصة الحب الشخصية متصلة بالخبرة الرؤيوية الأكثر وزناً حسب، إنها بصراحة تابعة لها كذلك. وفي قوة هذا الدّليل الذي زوّدنا بالعمل الفنّي ذاته الذي يطرح سؤال حالة الشاعر النفسية، علينا الاعتراف بأن الرؤية تمثل خبرة أكثر عمقاً وتأثيراً من العواطف الإنسانية.
وفي الأعمال الفنية التي تكون من هذه الطبيعة نفسها– علينا أن لا نخلط بينها وبين شخص الفنان- لا يمكننا الشك بأن الرؤية، خبرة بدائية حقيقية، بغض النظر عما يمكن أن يقوله تجار العقل. والرؤية ليست شيئاً ما مشتقاً أو ثانوياً، ولا هي من أعراض شيء آخر. وإنه لأمر حقيقي أن التعبير الرمزي هو تعبير عن شيء ما موجود بحد ذاته ولكنه معروف على نطاق محدود، إن قصة -الحب هي خبرة معاناة حقيقية، والفكرة نفسها تنطبق على الرؤية، لا حاجة بنا لتقرير إذا كان محتوى الرؤية مادياً، أو نفسياً، أو ذات طبيعة ميتافيزيقية، وتملك بحد ذاتها الحقيقة النفسية، وهذه ليست أقل واقعية من الحقيقة الجسمانية المادية، العاطفة الإنسانية تقع ضمن مجال خبرة الوعي والإدراك، بينما موضوع الرؤية يقع وراء ذلك، من خلال مشاعرنا نختبر ما هو معروف، ولكن حدسنا يشير إلى أشياء مجهولة ومخبأة- وبطبيعتها الخاصة تعد أسراراً. وإذا ما أصبحت هذه واعية، فإنها تتراجع وتختبئ عن سبق إصرار وتخطيط، ولقد دعيت منذ فترات زمنية بعيدة بالغامضة والخادعة. وهي تختبئ من تمعن الإنسان وكثرة تدقيقه، وهو أيضاً يخبئ نفسه منها؛ لأنه "يخاف من الشياطين" Deisidaemonia، ويحمي نفسه بترس العلم وسلاح العقل، لقد وُلدت استنارة الإنسان من الخوف، فهو يؤمن في وضح النهار بكون منظم، ويحاول تعزيز هذا الإيمان ضد مخاوفه من الفوضى المحيطة التي تزعجه أثناء الليل، فماذا لو كان هنالك قوة حية يكمن مدى فعلها خلف عالمنا اليومي؟ هل هنالك احتياجات إنسانية تعتبر خطيرة ولا يمكن تجنبها؟ هل هنالك شيء ما أكثر هدفاً أو غرضاً من الإلكترونات؟ هل نُضلل أنفسنا بالتفكير بأننا نستطيع أن نأمر أرواحنا ؟ وهذا الذي يسميه العلم "النفسي"، لا يعتبر فقط علامة استفهام تم حصرها بشكل عشوائي داخل الجمجمة، ولكنه باب يفتح على العالم الإنساني من عالم خلفه، يسمح للقوى والطاقات الغريبة التي يصعب الاستيلاء عليها، أن تعمل على الإنسان وعلى حمله على أجنحة الليل، من مستوى الإنسانية المشتركة إلى تلك التي تعتبر أكثر من نداء داخلي شخصي! عندما نأخذ بعين الاعتبار الأسلوب الرؤيوي للإبداع الفني، فإنه يبدو كما لو أن قصة الحب قد ساعدت بوصفها نوعاً من التخلي والانعتاق –كما لو أن الخبرة الشخصية لم تكن شيئاً مهماً سوى أنها عبارة عن مقدمة استهلالية للكوميديا الإلهية.
ليس خالق هذا النوع من الفن ومبدعه هو الوحيد الذي له علاقة بجانب الظلام في الحياة، ولكن أيضاً العرّافون والأنبياء، والقادة والمستنيرون. ومهما يكن معتماً هذا العالم الليلي، فإنه لا يعد غير مألوفٍ لنا بشكل كامل. لقد عرفه الإنسان منذ غابر الزمان- هنا، وهناك وفي كل مكان، وبالنسبة للإنسان البدائي في أيامنا هذه، تعد جزءاً بديهياً من صورته نحو الكون. نحن فقط الذين أنكرناه بسبب مخاوفنا من الخرافة والميتافيزيقيا، وكذلك لأننا نكافح من أجل بناء عالمٍ واعٍ يكون آمناً بحيث يسهل التعامل معه بقانونه الطبيعي ومصالحه المشتركة. ومن وقت لآخر يقع نظر الشاعر على عالم-الليل- الأرواح والشياطين والآلهة، وهو يعلم أن القصدية تتجاوز الغايات الإنسانية بإعطائه أسرار الحياة، والشعور الاستباقي بالحس الداخلي لأحداث يستحيل إدراكها، وبشكل مختصر، إنه يرى أشياء من عالم الغيب فيدب الرعب في نفوس المتوحشين والبرابرة.
منذ البدايات الأولى للمجتمع الإنساني وإلى ما بعد ذلك، فإن جهود الإنسان لإعطاء التلميحات الغامضة شكلاً ملزماً قد تركت آثارها، حتى في الرسومات الصخرية المنحدرة في "روديسيا" في العصر الحجري القديم، وجنباً إلى جنب مع صور مذهلة نابضة بالحياة لحيوانات مختلفة، ظهرت أنماط لصور تجريدية – صليبين داخل دائرة. ولقد ظهرت هذه التصميمات في كل منطقة حضارية، واليوم لا نجدها في الكنائس المسيحية حسب، ولكن في المعابد التبتية كذلك. إنها ما يُسمى بدواليب – الشمس، ويرجع تاريخها إلى زمن لم يكن يفكر أحد فيه بالدواليب بوصفها أجهزةً ميكانيكية، ولا يمكن أن يكون لها مصدر في أي خبرة من خبرات العالم الخارجي. وهذا أقرب إلى الرمز الذي يشير إلى أحداث خارقة للطبيعة، تغطي خبرة من العالم الداخلي، ودون أدنى شك تمثل نفس المشهد الحيوي الأقرب إلى الحياة مثل وحيد القرن الشهير والعصافير النقارة فوق ظهره.
لا يوجد حضارة بدائية لم تمتلك نظاماً سرياً من أنظمة التعليم، وفي العديد من الثقافات تم تطوير هذا النظام بشكل كبير. مجالس الرجال والطوطم الذي يرمز إلى العشائر أو المجموعات البشرية وهي تحتفظ بتدريس الأشياء المخبأة التي تبتعد كثيراً عن وجود النهار – أشياء منذ الأزمنة البدائية، التي كانت دائماً تشكل خبراته الحيوية. وتم نقل المعرفة إلى الأجيال الجديدة في طقوس المعرفة. وكان العالم الإغريقي – الروماني يمارس نفس الطقوس الشعائرية، وإن الأسطورة الثرية في العصور القديمة هي أثر واضح لخبراتٍ كهذه في المراحل المبكرة للتطور الإنساني.
ولذلك فإن الأمر المتوقع من الشاعر هو اللجوء إلى الأسطورة ليعطي خبرته التعبير الأكثر ملائمة. إنه من الخطأ الفاحش أن يفترض بأنه يعمل بمواد مستعملة بشكل مسبق. إن الخبرة البدائية الأولى هي مصدر إبداعه، ولا يمكن سَبْر غورها، ولذلك تتطلب خيالاً أسطورياً ليعطيها الشكل المناسب. وبحد ذاتها لا تقدم كلمات أو صوراً خيالية، لأنها رؤية تشاهد "كما في الزجاج، بالعتمة" إنها محض شعور سبقي لإحساس داخلي يحاول جاهداً إيجاد تعبير. إنه مثل الزوبعة الدوّامية التي تصل وتجرف بطريقها كل شيء، وتحمله عالياً بشكل يمكن رؤيته، ولذا فإن ذلك التعبير المعين لا يمكن أن ينضب من إمكانات الرؤية، ولكنه يظهر ثراءً في المحتوى، وعلى الشاعر أن يمتلك مخزوناً ضخماً من المواد إذا أراد أن يبوح ببعض من أحاسيسه الحميمة. وعلاوة على ذلك، عليه اللجوء إلى الخيال واللغة المجازية المتسمة بالصعوبة، والمليئة بالتناقضات؛ ليمكنه التعبير عن المفارقات القدرية العجيبة لرؤيته، إن الأحاسيس السبقية لدى "دانتي" قد تدثرت بخيالات تساعد على زخم التقدم لسلسة الأحداث في "الجنة والنار" Heaven and Hell.
وعلى "غوته" تفعيل "بلوكسبرغ" والمناطق الجهنمية السفلى في العصور الإغريقية القديمة، وأما "واغنر" فيحتاج إلى المجموعات البشرية الكاملة في الأسطورة الشمالية الجرمانية، وإلى رجوع "نيتشه" إلى الأسلوب التسلسلي الهرمي ليعيد خلق العرّاف الأسطوري في الأزمنة القديمة وتشكيله، وأما "بليك" فيخترع لنفسه أشكالاً يصعب وصفها، و "شبيتلر" يستعير أسماء قديمة لمخلوقات جديدة من صنع الخيال. ولم نلاحظ في هذه السلسلة الكاملة أي خطوة متوسطة مفقودة، ابتداءً من الأمور المهيبة الجليلة التي يصعب وصفها، وانتهاءً بالأمور المهينة ذات الطابع الرديء.
لا يستطيع علم النفس فعل أي شيء لتوضيح الخيال الملون باستثناء جمع المواد لغرض المقارنة وتقديم المصطلح لإثراء النقاش. وحسب هذا المصطلح، فإن كل ما يظهر في الرؤية هو اللاوعي الجمعي. وما نعنيه باللاوعي الجمعي هو تلك النزعة النفسيّة الخارقة للطبيعة التي تشكلت بوساطة القوى الوراثية، ومنها تطورت قوة الوعي. نجد في البناء المادي للجسم آثاراً لمراحل مبكرة من مراحل التطور، وقد تتوقع من الروح الإنسانية أن تنسجم في تشكلها مع قانون التطور الإنساني. والحقيقة أنه في حالة كسوف الوعي – كما في الأحلام، وفي حالات التخدير، وفي حالات الجنون – يظهر على السطح منتجات نفسية أو محتويات معينة تظهر جميع سمات المستويات المختلفة البدائية للتطور النفسي. الخيالات نفسها أحياناً تكون ذات صفة بدائية قد نفترض فيها أنها مشتقة من تعليم قديم ذي طابع سرّي. إن الموضوعات الأسطورية المتدثرة في لباس عصري تظهر لنا مراراً. وما يعد ذا أهمية خاصة في دراسة الأدب لهذه التجليات من حالة اللاوعي الجمعي أنها تعتبر تعويضاً عن موقف الإحساس بالإثم. أي بعبارة أخرى يمكن استحضار حالة من الوعي ذات جانب – أحادي، غير سوية، أو خطيرة، إلى حالة التوازن بطريقة هادفة بشكل واضح. نستطيع رؤية هذه الطريقة بأحلامنا بوضوح في مظهرها الإيجابي، وفي حالات الجنون فإن الطريقة التعويضية غالباً ما تكون واضحة، ولكنها تأخذ الشكل السلبي. هنالك أشخاص على سبيل المثال، أغلقوا أنفسهم عن العالم من حولهم ليكتشفوا يوماً ما أن أسرارهم الأكثر حميمية قد تم كشفها والتحدث حولها من الناس جميعاً.
وإذا أخذنا "فاوست" لـ"غوته" على سبيل المثال وتركنا جانباً إمكانية أنها تعد تعويضاً عن موقف الوعي لديه، فإن السؤال الذي علينا الإجابة عنه هو التالي: بأي علاقة يمكن أن نربطها بالنسبة لمفهوم الوعي في زمنه؟ الشعر العظيم يكتسب قوته من حياة الجنس البشري، وبالتالي فإننا نفقده معناه بشكل كامل إذا حاولنا اشتقاقه من عوامل شخصية. عندما تصبح حالة اللاوعي خبرة حية ويصار إلى استعمالها بوصفها نظرة في حالة الوعي في ذلك العصر، فالعمل الفني هو ذلك الذي يحتوي على ما قد يسمى حقيقة رسالة إلى الأجيال القادمة من الرجال. وهكذا، فإن "فاوست" يلمس منطقة معينة في روح كل ألماني. ولذلك فإن شهرة "دانتي" خالدة، بينما فشلت "راعي هرماس" في تضمين شرائع "العهد الجديد" وقوانينه. كل فترة زمنية لها نزعتها وانحيازها، أحكامها السبقية المعينة واعتلالاتها النفسية، العهود الزمنية تشبه الأفراد، لها حدودها في استشراف الوعي، ولذلك تتطلب تعديلاً تعويضياً. وهذا يتأثر بحالة اللاّوعي الجمعي، بحيث أن الشاعر والعرَّاف أو القائد يسمح لنفسه بأن يتم توجيهه بوساطة الرغبة غير المتوقعة في زمنه، ويدلنا على الطريق بوساطة الكلمة أو الفعل، لتلك المكتسبات التي يتلمسها ويتوقعها كل فرد، بغض النظر عن طبيعة تلك المكتسبات أكانت خيّرة أم شريرة، فيها شقاء ذلك العهد الزمني أو دماره.
إنه من الخطورة بمكان أن يتكلم المرء عن زمنه؛ لأن ما يمكن الرهان عليه في الحاضر يعتبر بعيداً عن الاستيعاب، ولذلك فالقليل من التلميحات لا بد أن تكون كافية في هذا المجال، إن كتاب "فرانسيسكو كولونا" "التأثير المغناطيسي" في الحب المتعدد Hypnerotomachia Polyphidi، ويسير مجرى أحداث الكتاب على شكل حلم، هو تمجيد للحب الطبيعي للعلاقة الإنسانية دون أي تأييد معنوي للانغماس الوحشي في الأهواء والرغبات، ويضع جانباً سر الزواج المسيحي المقدس. كُتب هذا الكتاب عام 1453م، أما "رايدر هاجرد" الذي تزامنت حياته مع ازدهار العصر الفيكتوري، فيتناول هذا الموضوع ويتعامل معه بطريقته الخاصة؛ ولا يروي الأحداث هنا على هيئة حلم، لكنه يسمح لنا أن نشعر بتوتر الصراع الأخلاقي. وأما "غوته" فيقوم بحياكة فكرة "غرتشن" –"هيلين"- "ماتر جلوريوسا" ويشبهه بالخيط الأحمر في نسيج "فاوست" المزدان بالرسوم والصور الملونة، وأما "نيتشه" فيعلن موت الإله، و"شبيتلر" يحوِّل الصورة الشاحبة والشمعية للآلهة إلى أسطورة الفصول. ومهما كانت أهمية أولئك الشعراء، فإن كل واحد منهم يتكلم بصوت الآلاف وعشرات الآلاف، متنبئاً بالتغييرات التي تطرأ على الوعي في عصره.

2- الشاعــر :
يشيد الخلق والإبداع الإرادة، التي تحتوي على سر، ويمكن لعالم النفس أن يصف كلاً من هذه التجليات الظاهرة بوصفها طرائق مختلفة، ولكنه لا يستطيع إيجاد حل للمشكلات الفلسفية التي تطرحها. ويعتبر الإنسان المبدع لغزاً أو أحجية يمكننا الإجابة عنها بطرق مختلفة ومتعددة، ولكن دائماً دون جدوى.
حقيقة لم يخترع علم النفس الحديث من العودة بين الفينة والأخرى إلى السؤال عن الفنان وفنِّه. اعتقد "فرويد" أنه وجد حلاًّ من خلال إجراء اشتقاق العمل الفني من خبرات الفنّان الشخصية، والحقيقة أن هنالك إمكانيات معينة تقع في هذا الاتجاه؛ لأنه كان هنالك إدراك بأن العمل الفني شكل عُصابي، والذي يمكن إرجاعه إلى تلك العقد الموجودة في الحياة النفسية التي نُسميها بالمركبات. لقد كان اكتشاف "فرويد" العظيم بأن العُصابية لها أصلها السبـبي في الحقل النفسي – إنها تكتسب أصلها ومنبعها من الحالات العاطفية ومن خبرات الطفولة الحقيقية أو الخيالية. وكان متأكداً من أتباعه، مثل "رانك" و "شتيكل"، فقد قاما بتبني خطوط استعلامية ذات علاقة، وبذلك حققا نتائج مهمة، ولا يمكننا إنكار أن نزعة الشاعر النفسية وميله يتخللان عمله ويخترقانه من الجذر إلى الفروع، ولا يوجد هنالك أي شيء جديد في الرأي القائل بأن العوامل الشخصية تؤثر إلى حدٍّ كبير في اختيار الشاعر وفي استعماله مواده. وعلى أي حال فإن السمعة الحسنة أوالثقة يجب أن تعطى لمدرسة "فرويد" لإظهارها كيفية المدى الطويل الذي وصل إليه ذلك التأثير، وكيفية الطرق الغريبة التي يتم بها التعبير.
يتخذ "فرويد" العصابية تعويضاً عن وسيلة الشكر والعرفان المباشرة. ولذلك فإنه يعدها شيئاً غير ملائم- إنها غلطة ومراوغة وعُذر وجهل إرادي متعمد. وبالنسبة إليه فإنه يعده مكمن ضعف ما كان يجب أن يكون. وبما أن العصابية بجميع مظاهرها، ما هي إلاّ حالة تشوش وانزعاج، وأكثر ما فيها من سلبية أنها لا عقلانية أو دون معنى، فقلّة من الناس تجازف بقول أشياء حسنة فيها.
ويمكن جلب العمل الفني إلى حالة التساؤل التقاربي مع العصابية عندما يعد شيئاً ما يمكن تحليله في حالات كبح الشاعر وقمعه. وبمعنى آخر تجد نفسها بصحبةٍ جيدة؛ لأن الدين والفلسفة يعاينان بالمنظور نفسه حسب علم النفس الفرويدي. ولا يمكن رفع اعتراض إذا ما تم الاعتراف بأن هذا الفهم لا يساوي شيئاً أكثر من توضيح تلك المحدّدات الشخصية التي لا يمكن تصور العمل الفني من دونها. إن الخصوصيات الشخصية التي تزحف نحو العمل الفني ليست جوهرية، في الواقع، فكلما كان علينا التأقلم مع هذه المزايا الخاصة غير المألوفة، كانت المسألة أقل من مسألة فنية.
ما هو جوهري في العمل الفني هو ارتفاعه فوق عالم الحياة الشخصية، وأنه يتكلم من روح الشاعر وقلبه بوصفه إنساناً إلى روح الجنس البشري وقلبه. في عالم الفن يعد المظهر الشخصي تحديداً – بل خطيئة-. وعندما يكون شكل "الفن" شخصياً بصورة خاصة، فإنه يستحق التعامل معه كما لو أنه كان عُصاباً. ويمكن أن يكون هنالك جدوى في الفكرة التي طرحت من قبل المدرسة الفرويدية التي تقول إن جميع الفنانين دون استثناء يعدون نرجسيين- أي بمعنى أنهم أشخاص متخلفون ذوو مزايا أو سمات طفولية تميل نحو الشهوة – الذاتية، هذا التعبير يعد ذا جدوى، بالنسبة للفنان بوصفه إنساناً، وهذا الأمر ليس له علاقة بالإنسان بوصفه فناناً، وضمن قدرته فناناً فهو لا يعد شهوانياً-ذاتياً، ولا هو متغاير/مختلف شهوانياً، ولا يعد شهوانياً بأي معنى. إنه موضوعي وبعيد عن الشخصنة – وحتى غير إنساني- لأنه بوصفه فناناً يساوي جوهر عمَلِه [الفني]، وليس مجرد كائن بشري.
كل فنان مبدع ينطوي على شخصيتين، أو هو توليفة وتركيبة من استعدادات وقابليات متناقضة، فمن جانب يعد إنساناً ذا حياة شخصية، ومن جانب آخر يعد عملية خلاّقة غير شخصية.
وقد يكون إنساناً سليماً أو مريضاً، فعلينا النظر إلى وضعيته النفسية لنجد المقررات لشخصيته. ولكن يمكننا فقط فهمه في قدرته بوصفه فناناً بالنظر إلى إنجازاته الخلاّقة. نقوم بغلطة مهمة إذا حاولنا شرح نمط حياة رجل إنجليزي (جنتلمان)، أو ضابط بروسي، أو كاردينال حسب شروط العوامل الشخصية، فالرجل الجنتلمان، والضابط، ورجل الدين يؤدون أدوارهم وأعمالهم ضمن أدوار غير شخصية، وإن تركيبتهم النفسية مؤهلة من قبل موضوعية غريبة وغير مألوفة. وعلينا الإذعان والتسليم بأن الفنان لا يعمل بقدراته الرسمية-نقيض ذلك هو الأقرب إلى الحقيقة. وهو على أي حال يشبه تلك النماذج[الأصلية أو العليا] التي أسميتها في منحى معين؛ لأن الميل أو النزعة المحددة فنياً تحتوي على ثقل هائل من الحياة النفسية الجماعية التي تعد شيئاً مخالفاً لما هو شخصي. الفن نوع من الحوافز الفطرية التي تسيطر على الإنسان وتجعله كالآلة لديها. وليس الفنان شخصاً ممنوحاً إرادة حرة وباحثاً عن غاياته وأهدافه، لكنه إنسان يحقق أهدافه من خلال الفن. وقد تكون لديه حالات نفسية وإرادة، وأهداف شخصية، لكنه بوصفه فناناً فإنه كذلك "إنسان" ذو أحاسيس مرتفعة – إنه "رجل جماعي أو جمعي" – يحمل أويشكل اللاّشعور، والحياة النفسية للجنس البشري. ولإنجاز هذه المهمة الصعبة فإنه يجعل الحياة جديرة بالعيش من جهة الإنسان الطبيعي الاعتيادي.
وبما أن الأمور كذلك، فليس من الغريب أن يكون الفنان حالة ممتعة ومثيرة للانتباه بشكل خاص أمام عالم النفس الذي يستعمل الطرق التحليلية في علم النفس، ولا يمكن النظر إلى حياة الفنان إلا على أنها مليئة بالصراعات؛ لأن هنالك قوتين تحتربان في داخله- الإنسان الطبيعي الاعتيادي الذي يشتاق إلى السعادة والرضى والعيش بأمان، وهنالك بالمقابل العواطف القاسية، التي لا ترحم الخليقة، والتي قد تتمادى إلى أبعد الحدود لكي تدوس على كل رغبة إنسانية وتلغيها.   
وكقاعدة فإن حياة الفنانين تعد بالنسبة إليهم حياة غير مرضية بشكل كبير – ليس بمعنى أنها مأساة تراجيدية – بسبب عقدة النفس على المستوى الإنساني والمستوى الشخصي، وليست تدبيرات قوى فوقية وشريرة. نكاد بصعوبة نجد استثناء للقاعدة التي تقول إن على الإنسان تقديم أثمن ما يملك للهبة الإلهية التي وضعها في النار الخلاّقة. يبدو أن كل واحد فينا قد مُنح منذ ولادته نوعاً معيناً من الطاقة. والقوة الكبرى في تركيبتها سيتم الاستيلاء عليها ومصادرتها، وجميع القوى الأخرى ستحاول احتكار هذه الطاقة، تاركة النزر القليل جداً منها غير ذي قيمة لنحصل عليها. وبهذه الطريقة يمكن للقوة الخلاّقة استنزاف النبض والدفع الإنساني إلى درجة معينة بحيث على "الأنا" الشخصية أن تطور جميع أنواع الصفات الشريرة –القسوة وعدم الرحمة والأنانية والبطلان والغرور – وحتى كل نوع من أنواع الرذيلة، لكي تحافظ على شرارة الحياة وتصونها، وتحافظ على نفسها من ثمَّ من الحرمان الكامل.
إن الشهوة – الجنسية لدى الفنانين تشبه تلك الموجودة لدى الأطفال غير الشرعيين والمهملين، الذين عليهم منذ نعومة أظفارهم حماية أنفسهم من التأثيرات الهدّامة للناس الذين لا يملكون حباً تجاههم – الذين يطورون صفات شريرة لغرض معين، وبعد ذلك يحتفظون بأنانية مركزة لا يمكن قهرها، ويبقون طوال حياتهم أطفالاً لا حول لهم ولا قوة، أو يقومون بانتهاك القانون أو القواعد الأخلاقية. كيف يمكننا الشك بأن الفنّ هو الذي يشرح الفنّان ويفسّره ، وليست حالة القصور الأخلاقي والعقلي والصراع في حياة الفنان الشخصية؟ هذه ليست سوى النتائج المأسوف عليها، وهي حقيقة أنه فنّان- أي أنه إنسان، وقد كان منذ ولادته مدعواً إلى عمل أضخم من ذلك العمل البشري الزائل والاعتيادي.
القدرة الخاصة تعني استهلاك ضخم للطاقة في اتجاه معين، مع قناة متساوقة ومترابطة مع جانب آخر من جوانب الحياة.
لا يعني الكثير بالنسبة للشاعر عندما يعرف أن عمله مولود، ينمو، ويترعرع معه، أو يفترض أنه بالتفكير يخرجه وينتجه من العدم والفراغ. إن فكرته حول المادة لا تغير حقيقة أن عمله الخاص يتفوق عليه بالنمو كما يتفوق الطفل في نموه على والدته. إن الطريقة الخلاّقة لديها صفة أنثوية، وإن العمل الخلاّق ينبع من أعماق اللاشعور – ويمكننا القول من عوالم الأمهات. وكلما تسود القوة الخلاّقة، فإن الحياة الإنسانية تُحكَم وتُشكَّل باللاشعور على أنه شيء مخالف للإرادة النشطة ومغاير لها، وأما "الأنا" الواعية فتنجرف بتيارات سرِّية تحت الأرض، بما أنها ليست سوى مُلاحظ للأحداث لا حول له ولا قوة، وأما العمل الجاري فيصبح قدر الشاعر الذي يقرر تطوره النفسي. لم يكن "غوته" هو الذي خلق "فاوست"، ولكن "فاوست" هو الذي خلق "غوته". وما "فاوست" إلاّ عبارة عن رمز! وبهذا فأنا لا أعني أنه مجاز رمزي يشير إلى شيء ما كل ما فيه أمرٌ مألوف، ولكنه تعبير عن شيء ما ليس معروفاً بشكل واضح، ولكنه مع ذلك يعيش داخلنا بعمق. وهناك شيء ما يعيش في روح كل ألماني، وقد قام "غوته" بمد يد العون للمساعدة  في ولادته. هل يمكننا تخيل أي كاتب آخر سوى كاتب ألماني لـ"فاوست". ولكتاب "هكذا تكلم زرادشت؟" كلاهما يتلاعب بالألفاظ مردداً الصدى بروح ألمانية – "خيالٌ بدئي/أصلي"، كما أسماه مرة "جاكوب بوركهاردت" صورة لطبيب الإنسانية أو معلمها. إن صورة النموذج البدئي الأصلي للرجل الحكيم، المخلّص أو الشافي، مدفونٌ في حالة سبات وسكون داخل اللاّشعور الإنساني منذ فجر الحضارة الإنسانية، ويتم إيقاظه حين تصبح الأزمنة مشوشة ومضطربة وحين يجابه المجتمع الإنساني خطأً فاحشاً.
عندما يضل الناس طريق الخير، يشعرون بحاجة إلى دليل أو معلم أو حتى طبيب. إن هذه الصور والرموز البدئية الأصلية عديدة، ولكنها لا تظهر في أحلام الأفراد أو في أعمال الفن حتى يتم استدعاؤها إلى الوجود بوساطة التمرد على وجهة النظر العامة ومشاكستها. عندما يتم تصوير الحياة الواعية بأنها أحادية – المنحى وأن موقفها خاطئ، عندئذ يتم تنشيطها وتفعيلها، وقد يقول الإنسان، وبطريقة "حدسية" – ويأتي على الضوء في أحلام الأفراد وفي رؤى الفنانين والعرّافين، وبذلك يعيدون حالة التوازن النفسي للحقبة التاريخية.
بهذه الطريقة فإن عمل الشاعر يقابل الحاجة الروحية للمجتمع الذي يعيش فيه، ولهذا السبب فإن عمله يعني له شيئاً أكثر من قدره الشخصي، دون الأخذ بعين الاعتبار إذا كان يعي ذلك أم لا. وبما أنه يعدّ أداةً لعمله بشكل جوهري، وتابعاً له، فلا يوجد هنالك أي سبب لنتوقع منه القيام بتفسير عمله. لقد قدَّم أفضل ما عنده وما بداخله بإعطائه الشكل الأفضل، وعليه فقد ترك التفسير للآخرين وللمستقبل. إن العمل الفني العظيم يشبه الحلم، ومع وجود جميع أشكال الوضوح الظاهر، فإنها لا تشرح نفسها ولم تكن أبداً جلية وواضحة. في الحلم لا يمكن القول : "يجب عليك"، أو "هذه هي الحقيقة".
يقدم صورة تشبه إلى حدٍّ بعيد الطريقة التي تسمح بها الطبيعة للنبتة في النمو، وعلينا نحن استنباط استنتاجاتنا الخاصة إذا واجه إنسان كابوساً أو حلماً مرعباً، هذا يعني إما أنه استسلم كلياً للخوف، أو أنه قد أعفى نفسه من الخوف، وإذا ما حلم بالرجل العجوز الحكيم، فهذا قد يعني أنه يميل نحو الأسلوب التدريسي التعليمي، وأنه دائماً يفكر بالانتظار والاستفادة من وجود المعلم. وبطريقة رقيقة فإن المعنيين كليهما هنا للشيء نفسه، وكما نلاحظ عندما نكون قادرين على أن ندع عمل الفرد يؤثر فينا كما أثر في الفنان، ولنفهم معناه، يجب أن نسمح له بأن يشكلنا كما شكله في السابق.
عندئذ نفهم طبيعة خبرته. ونلاحظ أنه قد صاغ أو شكّل القوى الشافية والمخلصة للنفس الجماعية التي تشكل أساس الوعي بكل عزلتها وأخطائها المؤلمة، التي اخترقها من خلال رحم الحياة والتي سينطمر جميع البشر في جوفها، والتي تمنح ذلك الإيقاع المتناغم والمتكرر العام للوجود الإنساني وتنقله ، وتسمح للفرد الاتصال بأحاسيسه وبنضاله من أجل البشرية.
إن سر الخلق والإبداع الفني وفعالية الفن توجد من خلال رجوعنا إلى حالة المشاركة السرية الباطنية – إلى ذلك المستوى من الخبرة التي تقول إن الإنسان هو الذي يعيش وليس الفرد، وإن خير الإنسان وسعادته أو مخاوفه بشكل مفرد ليست أموراً مهمةً أو ذات جدوى، ولكن ما يهم تحديداً هو الوجود الإنساني بشكل عام.
وهذا هو السبب الكامن وراء أن كل عمل فني كبير يعدّ عملاً موضوعياً وبعيداً عن الشخصنة، ولكن ليس الفن الأقل عمقاً هو الذي يحركنا جماعات وأفراداً. وهذا أيضاً يبين لنا كيف أن حياة الشاعر الشخصية لا يمكن أن تكون جوهرية بالنسبة لفنه – ولكن على الأغلب إما أن تساعده على، أو أن تعيقه عن، عمله المبدع الخلاّق. قد يسير في طريق "النزعة المادية" Philistine، أو قد يكون مواطناً جيداً، أو إنساناً سوداوياً، أو أحمق أو مجرماً. وقد تكون سيرته الشخصية أمراً محتماً وممتعاً، ولكنها جميعاً لا تستطيع تقديم شرح لحالة الشاعر أو تفسير لها.
                                   


تعليق*

            كان "كارل جوستاف يونغ" (1875-1961) تلميذاً لـ"فرويد" وتحت رعايته، ولكنه انفصل عن تعاليم أستاذه عام 1913 ليقوم بتطوير مدرسته الخاصة به في التحليل النفسي . كان الخلاف الرئيسي بين الرجلين حول طبيعة الشهوة الجنسية "الليبدو؛ Libido"، فقد اعتقد "يونغ" أنها كانت أكثر من دوافع جنسية. وكان "يونغ" يفترض بشكل مسلم به وجود  اللاّوعي الجمعي: على سبيل المثال؛ الذاكرة العرقية التي يتوارثها جميع أعضاء الأسرة الإنسانية، وتربط الإنسان العصري بجذوره البدائية. ولقد ظهر اللاوعي الجمعي جلياً في تواتر حالات معينة، وقصص، وصور وأشكال، تدعى "الطراز البدئي/النموذج الأصلي" "Archetypes" المتبقيات النفسية لخبرات لا عد لها ولا حصر من النوع نفسه". إن النضج النفسي "Psychological maturity" أو ما يسمى (التشخص)- العملية التي يطور بها الفرد شخصيته الخاصة "Individuation"، يستلزم اعتراف الفرد وقبوله عناصر النماذج الأصلية لطرازه البدئي، التي قام "يونغ" بصياغتها ضمن الاصطلاحات الوصفية: "الصورة المنعكسة؛Shadow " و "شخص الرواية؛ Persona" و "الميل؛ Anima" وهي الثالوث الذي يمكننا مقارنته لدى "فرويد" بـ"الهو؛ Id" و"الأنا؛ Ego" و"الأنا العليا؛  Super-ego" والخطأ في هذا المنحى يقود إلى تصور أو إسقاط عصابي لعناصر غير معترف بها للنفس على العناصر الأخرى.
            لقد كان علم النفس لدى "يونغ" وبطرق متعددة، أكثر تجانساً وملائمة، للعقل الأدبي، مما كان لدى "فرويد"، لكن ليس بالضرورة أنه كان أكثر تأثيراً منه، لقد كان "فرويد" دائماً يعد نفسه عالماً تجريبياً، وكان ينظر إلى العلم بوصفه خطراً يهدد القيم الأدبية، وذلك منذ المرحلة الرومانسية وما بعدها.
            كان "يونغ" أكثر تعاطفاً من "فرويد" مع الأمور الرؤيوية، والدينية، وحتى التقاليد السحرية، وكان مستعداً لتجيير موضوع الادعاءات الأدبية لتجسد المعرفة- تلك المعرفة التي تتسم بشكل خاص بالحيوية بالنسبة للإنسان المعاصر العلماني الذي يتسم بالغربة، وقوله يؤكد أن فنه هو الذي يشرح حالة الفنان، وليست الصراعات الناقصة في حياته الشخصية. من الواضح أنه[يونغ] أكثر قرباً من الناحية الروحية إلى تراث إيليوت والموهبة الفردية من الكتاب الخلاقين من أتباع "فرويد" وكتّاب أحلام اليقظة. اتصلت نظرية "يونغ" في اللاوعي الجمعي بأسلوب سلس مع الدراسة الأنثروبولوجية  حول الأسطورة البدائية والطقوس القديمة التي أول ما ظهرت في إنجلترا على يد جيمس فريزر في عمله "الغصن الذهبي؛ The Golden Bough"
(1890-1915) الذي بذل جهداً فأثر تأثيراً قوياً في الكتاب العصريين أمثال: "ت.س. إيليوت" و "د.هـ. لورنس"، وانبعاثاً من هذا الالتحام الأدبي والأنثروبولوجي والنفسي تشكل نوع من النقد الأدبي، الذي من خلاله صارت قوة الأعمال الأدبية وأهميتها ، أو الآداب الوطنية، أو مجمل العملية الأدبية، يتم شرحها على أساس العودة إلى الأفكار الرئيسة ذات النماذج الأصلية، والصور الذهنية، والأنماط القصصية وتكرارها ، لقد كان "يونغ" نفسه حريصاً على الإشارة إلى أن هذا الفهم كان أكثر اتصالاً ببعض أنواع الأدب من غيرها، ولم تكن التأكيدات دائماً ذات علاقة بالمعايير الأدبية للقيم.


 أول مرة نشرت فيها [هذه المقالة] (علم النفس والأدب) كانت عام 1930، وأعيدت طباعتها هنا:

[في كتاب: النقد الأدبي في القرن العشرين 20th Century Literary Criticism 1972
A Reader Edited by David Lodge " ]
عن كتاب :"الإنسان المعاصر في بحثه عن الروح (1933)  Modern Man in Search of a Soul  ترجمة "دبليو،إس. ديل" و"كاري إف. بايتس"".
________________
*التعليق: يولاند جاكوبي، علم نفس كارل جوستاف يونغ (نيوهافن 1962) جي بيرد، "ناديني إسماعيل" Call Me Ishmael  (بلتيمور، 1965).                                         


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق