الأحد، 29 أكتوبر 2017

موريس بلانشو : الأسلوب و''الحق في الموت''3/3
ترجمة :سعيد بوخليط
http://saidboukhlet.com/
هكذا فدون جوان الأسطورة الخالصة يخلق الكائن على منوال صورته مثلما يفعل الكاتب مع لغته؛ لكن يوجد الله كمنافس ويعيد المخلوق المتشكل إلى الدير.لاشيء من هذا القبيل عند الكاتب حسب موريس بلانشو.إذا لم يكن الله قط،ماذا سيفعل الكاتب بهذا المعنى،ب:((الحركة الرائعة التي من خلالها يأتي ما هو موجود في الداخل إلى الحقيقة المدهشة لما هو خارجي؟))،((هكذا إذن يبدأ اختبار مضطرب)).فلا يمكن للكاتب تحدي بعض أصحاب الرتب،والغوص في اللجة عبر بعض الأبواب الأرضية المفتوحة في اللحظة المناسبة، ولا أن يطرح بعيدا عنه عمله مثلما يستبعد غاو كائنه المخلوق الذي تمت صياغته كي يعود صباحا،فالكاتب ضمن الشخصيات إلى جانب عمله :((يرى المؤلف اهتمام الآخرين بعمله،لكن ما يضمرونه له من اهتمام هو غير ما صنعته به ترجمته الذاتية ،فهذا الاهتمام من طرف الآخر يغير العمل،ويحوله إلى شيء ما لهذا الآخر)).
مع عزلة الكاتب لا يوجد مكان لمأساة الغاوي المثالية ،هذا القديس الفاشل الذي يصنع،ثم يحطم ماصنعه، يجد ثانية ليله فيذهب ثانية،يحاكي المجانية الأليمة لإله ثمل بصورته الخاصة : يلزمه أن يعيش،لكن لم يمكث سوى الغموض.بالنسبة لبلانشو،تتجلى ماهية الأدب في هذا الغموض الذي تتخلص منه تحديدا الدونجوانية من خلال اطراد اغواءات،وكوارث مبدعة،ثم بفضل موت مثالي يرسخ وحدة مصير.هذا الغموض،في الأدب :((كما لو انقاد وراء تجاوزاته بفضل التسهيلات التي وجدها ثم استنفدت جراء تمدد التجاوزات التي أمكنه ارتكابها))،((ليس فقط،أن تصير كل لحظة للغة غامضة وتقول شيئا آخر لا تقوله،لكن غموض المعنى العام للغة ،بحيث  لانعرف هل توضح أم تشخص،إذا كان شيئا،أو تدل عليه،إذا كان هنا كي ينسى أو يحدث لنفسه النسيان  حتى نراه، إذا كانت شفافة جراء قلة معنى ماصرحت به ،أو واضحة نتيجة الدقة التي قالته بها، معتمة لأنها أفرطت في القول،ثم مبهمة لأنها لا تقول شيئا:الغموض في كل مكان،من خلال المظهر التافه،لكن الأكثر تفاهة ربما يتمثل في قناع الجدية :مع اللامبالاة،بل خلف هذه اللامبالاة،تكمن قوى العالم التي يتحالف معها بتجاهلها،أو أيضا،في إطار اللامبالاة يتم الاحتفاظ بالخاصية المطلقة للقيم التي بدونها يتوقف الفعل أو يصير مميتا)).
يلزم الإقرار أن بلانشو ينظم كابوسا جيدا للكاتب،هو كابوس أبعد ما يكون عن المجانية.إذا استحضرنا باستمرار أسطورة دون جوان، فلأن دون جوان الصرف يجسد فعلا كاتبا تتخلص أعماله من الاحتمال ثم يتخلص هو نفسه بعد ذلك من أعماله،بتحويلها إلى تراجيديا حية : أعمال دون جوان، أي اغواءاته،بمثابة تشكلات مجانية تماما لكائن مخلوق، تنتزعه – بالشغف- من عالم الآخرين،ودون جوان باستبعاده لهذا الكائن نحو العدم – بالتخلي - يتخلص من أخطائه الذاتية :دائما يذهب دون جوان ثانية خلال صباح أليم.لكنه مصير ليس عبثيا،يتجزأ بألف وثلاثة معنى تعطى على التوالي إلى تشوش الأنفس قبل الكلام،مادام أن آمرا سماويا تأتى له،العمل على توحيد تحدي مصير بعقاب فظيع ثم تحليق نموذجي في الغامض.
الكاتب تحديدا هذا الدونجوان الفاشل الذي يعلم بأن فتوحاته ألقي بها إلى مرعى أمام أنظار الآخر؛ويعرف عزلة انتزاع معنى خلال الليل ولا يوجد كدون جوان،تماما، سوى خلال هذه اللحظات القصيرة،لكنه لا يعرف ما يفعله،بين لياليه،جراء انعدام سيف،ونزاع، وفارس آمر ثم إله الغيور.السلطان الخبير بالشتائم القاسية،حيث بوسع دون جوان أن يتجاهل لدى قروييه كل ما يبقى فيهم غريبا عن الاعتبارات التي وضعها فيهم،وتتغذى مجانيته من حالات نسيان مذهلة بحيث يعجز الكاتب المتعلق بروائعه ويتردد عن تفنيدها حينما تتشكل.
لكن بلانشو عرف كيف يربط تراجيديا الكاتب بتراجيديا اللغة نفسها.العمى المتوحد للغاوي،أيّ مسرح،وأيّ شخصية ! الكاتب نفسه،ينمحي،أمام سر اللغة جراء تكلمه دون  أن يلاقي مصيرا.محتجز ضمن دوامة إعطاء معنى يقتل – مثل دون جوان الأسطوري يموت بعد ارتقائه صوب المعنى- الكاتب،للأسف !لن يلتقي موته الذاتي  سوى من خلال الكلام.
مع ذلك هو فضاء بالنسبة إلى بلانشو قصد تحقيقه لانتصار واسع من خلال المتخيل،يكتب: ((ماذا بوسع كاتب؟كل شيء : إنه بين طيات أغلال، تضغط عليه العبودية ،لكن أن يجد كي يكتب، بعض لحظات الحرية ثم هاهو حر من أجل خلق عالم بغير عبيد،عالم يصبح معه العبد سيدا،فيؤسس قانونا جديدا،أيضا وهو يكتب،يحصل الشخص المقيد فورا على الحرية سواء بالنسبة إليه وكذا الجميع….لكن لنتأمل ذلك عن قرب أكثر.لهذا وقد كرس نفسه للحرية التي افتقدها،سيهمل الشروط الحقيقية لانعتاقه،ثم ما يلزم أن يتم واقعيا حتى تتجسد الفكرة المجردة للحرية)).باختصار،ترتبط حريته بالوهمي الذي تحتجزه تجريدية الكلمات ذاتها ،فيقرع باب هذا الوهمي عبر كل ما يلمسه.ولا يصبح حقيقة حرا سوى في ظل الثورة، حينما تُتناول الكلمات المجردة بجدية،وينتصر اللاواقعي في التاريخ :((بحيث يندفع الفعل الثوري بنفس القوة وذات السهولة ثم لايحتاج الكاتب من أجل تغيير العالم،سوى إلى رص بعض الكلمات)).
أحيانا،يمر الأدب إلى التاريخ وينتصر عليه : إنه الرعب.ماهو إن لم يكن هذه اللحظة عندما :((يتوقف كل شخص على أن يكون مجرد  فرد  ثم يعمل لصالح مهمة محددة،فعّال هنا وفقط الآن كي يصير حرية كونية لا تعرف لا هناك، ولا غدا، ولاعملا، ولاصنيعا)).والحال أن الكاتب،ضمن امبراطوريته من الكلمات الحرة،يٌقارن بالإرهابيين،يعني هؤلاء الأشخاص الذين :((منذ حياتهم،يعملون ليس كأشخاص أحياء وسط أشخاص أحياء،لكن ككائنات افتقدت أن تكون،أفكارا كونية، محض تجريدات،تحكم وتقرر من الجانب الآخر للتاريخ،باسم التاريخ عموما)).
بما أن الكاتب لايدير العالم،فما هي الحقيقة التي بوسعه إدراكها؟حقيقة الكلمات،بل ومادتها ذاتها.هكذا تصير الجملة موضوعا،وتولد مادة خاصة من فعل الكتابة."أقول ''وردة''. لكن حينما أستشهد بها في الغياب ،ثم بالنسيان مستبعدا الصورة التي تقدمها إلي،في عمق هذه الكلمة الثقيلة تنبثق هي نفسها مثل شيء مجهول،أستدعي بولع عتمة هذه الوردة،والعطر الذي اكتسحني دون أن أتنفسه أبدا،ثم هذا الغبار النافذ إلي دون أن أراه،واللون باعتباره أثرا وليس ضوءا.حيث يقيم إذن طموحي قصد بلوغ ما أصده؟في مادية اللغة،ضمن إطار أن الكلمات كذلك أشياء ،طبيعة،ما أعطي إلي فمنحني أكثر مما أفهم…. يلعب كل ماهو فيزيائي الدور الأول : الإيقاع، الوزن، الكتلة….نعم، من حسن الحظ، أن اللغة شيء)).
إذن ها نحن نعثر ثانية على معنى الحقيقة اللفظية التي كشفناها تحت الأساليب ابتداء من نيكولا بوالو وتوقفنا كي نعثر عليها ثانية عند كل بؤر التاريخ الأدبي. هذا الهاجس،الأولي جدا الذي يبدو شبه فطري لدى كل كاتب حقيقي،هل يفقد قيمته باستناده على ''الموت''؟إطلاقا،شريطة أن لا تكون هذه الفلسفة مجرد حجة لإمكانيات جمالية عديدة.كي لا نقدم سوى مثالا،فقد أثار العديد من النقاد انتباههم تذوق الكلمات في ذاتها عند فرانسوا رابلي :لكن،شكل ذلك بالنسبة إليهم، لعبة جذابة مع القاموس،بحيث أن بيير دو رونسار، نيكولا بوالو،استشعرا بامتياز الحقيقة العميقة للأسلوب بغير التفاهات النقدية للقرن التاسع عشر.من البديهي أن يجيب الأسلوب،عند رابلي،على السلوك الجوهري للكاتب،وكذا إرادته اللاواعية لمجاراة تكاثر المادة بخلقه مادة لفظية،مضيفا مثل شلالات نياجرا إلى ثراء عالم غمره تحديدا عمله،واستغرقه كي يتغلب عليه بشكل أفضل.
تتمثل جدارة بلانشو هنا،في كونه الأول،الذي استند حول العلاقات الأصيلة بين الإنسان والكلام حيث الكلمات مادة بالنسبة للكاتب : يبحث كي يلامس من خلالها،رمزيا،هذه الحقيقة للأشياء التي تلغيها الكلمة تحديدا حينما تتأكد كمعنى.لكن الأسلوب الشخصي الذي يستخلصه من ذلك ينتج عن اختيار حر،وتعايش بين مزاجه وإيحاء ما سيذهل شخصا آخر بشكل مغاير تماما . بينما يسعى راسين،على العكس،للتخلص من المادة المعتمة للكلمات بإعطائها شفافية غريبة،فإن باسكال يسحقها بمنطق يقوض المادة.ألف تصرف ممكن- وسنرى في مكان آخر كيفية توطيد تراتبية بين هذه التصرفات – لكن تبقى الكلمات سواء بالنسبة إلى رابلي، راسين،باسكال أو شاتوبريان ،مادة تندرج ضمنها أكثر مشاريع الكاتب اعتبارا. بلانشو،مع كل مناسبة – فيما يتعلق بالسورياليين،وروني شار،إلخ- يؤكد ثانية أولوية الأسلوب هاته المسماة عنده لغة – باحثا بامتياز على حضور للموت أكثر من سلوك عبقري،وطبيعة الكلام بدل تعدد للجماليات.لكن لم يكن الأسلوب أبدا مفهوما بشكل أفضل أبعد من المهارات والوسائل ثم اللعب.
فيما وراء الأدب، تقوم الموت بكل بساطة: ((إنها التمزق الجوهري بالنسبة للإنسان)).ألا ينضم بلانشو باعتباره فيلسوفا للموت،إلى الفلاسفة القدامى الذين شكلت لديهم الحياة شهادة دائمة أمام الموت؟ :((يلزم لغة الأفكار،كي تكون صحيحة،أن تكون لغة يملؤها الوجود)).من المهم، لدى بلانشو،أن يكون باسكال شاهدا على عمله :((نفهم كيف أن التبرير اللاهوتي  لدى باسكال يفترض باسكال الموجود،والمؤمن)).عمله ''الأفكار'' :((تلك اللغة المتكئة على لحد))،لا تجد جل معناها سوى عبر التجربة الباسكالية مع قبر المسيح،حيز تمثَّل معه حياة جديدة.ذلك أن باسكال كاتبا يمكنه فعلا التصميم على كتابة تحفة ممتازة،حيث بوسع كل العالم الانتصار، بوالو، أنطوان أرنو، لويس السادس عشر بل الله نفسه.لكن الوجود المعتم يضع حضورا للموت في العمل الرائع و:((أحدث ركاما من الأوراق الصغيرة أو بالأحرى يتلف عوض أن يكتب)).هذا : ((الكتاب المتأكد جدا من خلوده)).
لاينبغي الاندهاش من بحث بلانشو عن هذا الاتصال بعمل ضمن مصير نموذجي حسب الذوق القديم :((لاشخص يمكنه القول بأن الموت التي جعلت من التبرير اللاهوتي أفكارا،مجرد  طارئ لاعلاقة له بالنص  الذي عرف النور وقتها.ينفجر النقيض ببداهة.إذا كان باسكال الحي من صمم وهيأ العمل،فباسكال الميت من سيكتبه أصلا)).
لاشخص آخر،أمكنه كتابة ما دبّجه بلانشو بصدد باسكال.إننا أمام التعسف المذهل للاختيار الذي يتبناه كاتب.أمام هذا الكتاب : ((المتأكد جدا من بقائه))،فإن بلانشو حيال هذه الجملة المدهشة :((لكن إذا وجدت ثانيا اللغة حقيقتها التي هي عبقرية الموت الغامضة،ثم تصغي إليها،وتلاحقها،إلى حد أن الفصاحة ليست قط فصاحة،بل عوزا مطلقا،وبأن الرعب الخاص بالكلام، يستمر في أن يكون رعبا حتى مع الكلام الأكثر يقينية والأكثر إبهارا)).
لنذهب،غاية إتيقا  تصل الفيلسوف بالشاعر قصد مطاردة الموت بأسلحة حديثة وسط عالم بدون إله.   
*مرجع النص :  
Manuel de Diéguez :l écrivain et son langage ;Gallimard ;1960.PP149- 172.    


الاثنين، 16 أكتوبر 2017

موريس بلانشو : الأسلوب و''الحق في الموت'' 2/3
ترجمة :سعيد بوخليط

يتناول، بلانشو هنا عالما خفيا؛ ويبدو بأن سطوره  هاته  تخاطب فاليري، مختزلة السجال : ((كل واحد يدرك عدم إمكانية تقاسم الأدب وبأنه يختار تحديدا مكانه،يقتنع حقا بأننا هنا حيث أردنا أن نكون، ويتعرض لأكبر التباس،لأنه أصلا قد انتقل بكم الأدب بمكر من منحدر إلى ثان،ويعمل على تغييركم نحو ما ليس أنتم عليه.هنا خداعه،وهنا أيضا حقيقته المحتالة)).
بالتأكيد،هذا ما توقعه بدوره فاليري ،لكنه تبين ذلك في إطار سوء الفهم الذي ينم عنه المستقبلي،وليس ماهية الأدب.لكن في نهاية المطاف،أي معنى لهذا ''الما- بعدي"للكتابة، و''الطفل الصامت''،ثم هذا ''الكتاب المزدوج''لنيكول؟ أي تعريف لهذا الغموض عند بلانشو، أو ما ندعوه  بكل بساطة ،أسلوبا ؟
هنا نلج إلى مجازفات الفلسفة :((الفعل الأول الذي من خلاله جعل آدم نفسه سيدا على الحيوانات تجسد في فرضه لاسم عليهم ، بمعنى دمر وجودهم باعتبارهم موجودات)).يشرح بلانشو فكرة هيغل هذه على النحو التالي :((توخى هيغل القول أنه انطلاقا من هذه اللحظة تتوقف القطة على أن تكون قطة فقط واقعيا كي تصبح كذلك فكرة.تقتضي دلالة الكلام إذن،كتمهيد لكل كلام،مذبحة ما  هائلة،ومقدمة مستفيضة ،يستغرقها بحر يتمم كل الإبداع.لقد خلق الله الكائنات، لكن اقتضى الأمر من الإنسان تعديم وجودها .هكذا اكتست معنى بالنسبة إليه، ثم خلقها بدوره انطلاقا من هذا الموت الذي توارى خلفه؛ فقط،عوض كائنات،وكما نقول موجودات،فليس هناك سوى الكائن،والإنسان حُكم عليه بعدم تناول شيء ولا أن يعيش هذا الشيء سوى بناء على المعنى الذي يلزمه أن يخلقه)).   
نرى بجلاء بروز فضاء أدبي وفق رؤية فلسفية.صحيح أنه بالنسبة للفلاسفة المعاصرين،لا يمكن للفكرة، والاسم، التقدم على الحقيقة الغامضة، المعتمة،والسديمة للعالم الذي نسميه وجودا.لكن بلانشو سيستخلص من ذلك صدى أدبيا :يوحي بموقف تراجيدي معين أمام الرؤية.أولا سماها الموت،أو حضور الموت،هذه القدرة التجريدية التي تحذفنا من الوجود،ومصطلح الموت هنا بمثابة مغالاة لغوية، ووصف ذاتي كليا،لأن التجريد لم يقتل أبدا شخصا،فقط يمكنه أن يتم الشعور به كمباشرة لموت الوجود.هذا الاختيار للمأساة انطلاقا من قوة تجريدية مرتبطة حتما باللغة هو اختيار للروح،وللكاتب موريس بلانشو.
ينطوي هذا الاختيار على قيمة أدبية كبرى،موحيا ب''ارتعاشة جديدة''،إنه جميل،فهو اختيار استيتيقي.لأنه انطلاقا من الظاهراتية المهيمنة على الفلسفة الحديثة،أضحت اختيارات أخرى ممكنة :ما تعلق بغثيان سارتر،ثم برجسون الذي لايرى مأساة، ولكن عادة مزعجة ضمن استهلاك لمجرداتنا.هناك طلاق أساسي بين الفلسفة والاستيتيقا :لن تشكل أبدا فلسفة مرتكزا مقبولا للإستيقا الأدبية،لأن الفلسفة من صنف المعرفة بينما الأدب من صنف الصدى.بعض المعاينات الفلسفية كانت لها أصداء أدبية خصبة، يشهد هذا التعدد على حرية جوهرية للوعي أمام كل ''إثبات " يكتب بلانشو :((عندما أنعتُني باسم،فكما لو أتلفظ بنشيد مأتمي :أنفصل عن ذاتي،فأنا لست أبدا حضوري ولا حقيقتي، لكنه حضور موضوعي، لاشخصي،ذاك المتعلق باسمي الذي يتجاوزني يقدم إلي تماما سكونه المتحجر وظيفة شاهدة القبر التي تثقل على الفراغ)).هاهو تنسيق أدبي،إذا لم أبالغ !((بالتأكيد،لغتي لا تقتل شخصا.مع ذلك،حينما أقول ''هذه السيدة''، فقد أعلنت عن موت واقعي ثم حضر سلفا ضمن مضمار لغتي :تعني لغتي أن هذه السيدة، الماثلة هنا حاليا،ربما انفصلت عن ذاتها.تنسحب من وجودها وحضورها ثم تنغمس فجأة في اللاوجود واللاحضور : تعني لغتي أساسا إمكانية هذا التقويض، إنها في كل لحظة،إشارة مصممة العزم على واقعة ما.لغتي لا تقتل شخصا.لكن إذا لم تكن هذه السيدة قادرة فعليا على الموت،ولم تكن خلال كل لحظة من حياتها مهددة بالموت،مرتبطة بها ومتوحدة معها حسب صلة ما هوية، فلا يمكنني إتمام هذا الإلغاء المثالي،وهذا الاغتيال المؤجل الذي هو لغتي. من الصواب تحديدا القول حينما أتكلم :الموت تتكلم من خلالي.كلامي إنذار بأن الموت خلال هذه اللحظة ذاتها،منفلتة في العالم)).
نرى النبرة التوراتية،وأصداء القبر،ثم الرؤية الاحتفالية :هي استتيقا تتجلى.سمو افتقدناه ، ذاك المتعلق بأدب ينهض على الموت :في أوج القرن العشرين،ثأر باسكال من فولتير،من هنا عبر هيدغر!  
لكن الفلسفات دائما تعيسة تقريبا ،حينما تُتناول في ذاتها. خصوبتها الفنية متغيرة جدا.إنها ثمار جيدة، ينبغي قطفها أحيانا، بالنسبة لكاتب، شريطة انتقالها به نحو ما لم تبلغه بعد، المعرفة.هذه الأفخاخ الملغزة، التي يمكن لأي شيء  نزع طعمها، تتوخى بشكل أفضل النفاذ نحو العدم، ثم هاهي فلسفة للموت لا تحلّ على الأقل شيئا، مما شكل امتيازا هائلا بالنسبة لبلانشو.مادام يطارد الموت عبر الكلام، ومادامت الموت،بالمعنى الذي يقصدها، حاضرة في الكلام بكيفية لاتدحض،تستميلنا  الشهب النارية التي استمدها منها، لُعب الضوء،الأهوال والإيقاعات، والأفراح كذلك.هاهو إذن الخطر الأصلي في الكلام، هانحن قد أخرجنا ثانية من الجنة ونطارد مثل بهائم :الكلمات مريضة،الموت يلغمها،فأية شموس إذن ننتظر؟وقد أقمنا على امتداد إمبراطورية هذا الموت الهائل،نحصي ثرواتنا.
أولا، يمنحنا الموت مجالا حيال شعيرة التقنية.تحرير الأدب عند بلانشو من هذه الشعيرة، لايقل إلحاحية بخصوص تحريره من كُتّاب السير، والمؤرخين، والتيولوجيين، والأخلاقيين :((فالكاتب المدعي بأنه لايهتم سوى بالكيفية التي يتجلى بها العمل، يتورط اهتمامه في العالم، ثم  يتيه كليا بين ثنايا التاريخ :لأن العمل يتم كذلك خارجه،وكل الصرامة التي وضعها في وعي عملياته التأملية،وكذا بلاغته المتبصرة،فقد استغرقتها على الفور لعبة إمكانية حدوث، بحيث لايكون قادرا سواء على التمكن منها،بل وملاحظتها)).  
لكن أيضا تمنحنا الموت مجالا بالنسبة للسياسة.بالتالي، لن يكون الكاتب ملتزما :((لأنه إذا لم يكن أولا منتبها لما يقوم به، ولم يهتم بالأدب كعملية خاصة به،فلا يمكنه مجرد أن يكتب :ليس هو من يكتب،بل ولا شخص)).
لذلك فعلاقاته مع القِوى دائما مزيفة :((مثلا،يكتب روايات،تنطوي هذه الروايات على بعض التأكيدات السياسية،بحيث يظهر كما لو أنه على صلة بهذا السبب.بينما يحاول الآخرون أن يروا في عمله دليلا على أن القضية هي فعلا قضيته.لكن ما إن يسعون إلى الاهتمام بنشاطه وتملّكه،حتى يدركوا بأن الكاتب ليس متواطئا،وبأنه تواطؤ لا يتم سوى مع ذاته،ثم ما يهمه في القضية تلك،عمليته الخاصة،بالتالي هاهم قد انخدعوا)).
لكن ماذا نقصده إذن بالابتهاج والنور والأمل،إذا كانت الكلمات مريضة ثم التقنية،بالمعنى الذي قصده فاليري،والتاريخ ليس في مقدورهما منحه ملاذا ضد الموت؟مع ذلك فتجربة الكتابة جد'' مُبرَّرة''بحيث ينبغي أن تكون لها مع الكلمات بعض :((خلفيات الموت التي تجعلها باهرة))وهذه الخلفيات، تعمل أولا على إبراز الموت في قلب الوجود،إنها نشوة ''التسمية''.فالوجود بمثابة ليل خالص وعمى؛  بحيث يعمل الكاتب على إبراز المعنى.مثل دون جوان يقدم وجها تراجيديا ومصيرا للمادة،أنثى كامنة مزقتها أخيرا صرخة، هكذا الكاتب :((ينتزع كلمات من الصمت))،حسب التعبير العميق جدا لبالزاك.يعمل الكاتب على انبثاق الكائن في العالم ثم يمنح ذاته سعادة خالصة :((لنفترض العمل مكتوبا :معه يولد الكاتب.قبل ذلك،لم يكن هناك شخص لكي يكتبه؛انطلاقا من الكتاب يوجد كاتب والذي يمتزج مع كتابه.عندما كتب كافكا صدفة الجملة التالية :((إنه ينظر عبر النافذة)) ،وجد نفسه – يقول- ضمن نوع من الإلهام مثلما هذه الجملة رائعة سلفا. هو مؤلفها، أو أكثر تحديدا،يعتبر مؤلفا بفضلها: يستمد وجوده من خلالها،لقد أوجدها ثم خلقته بدورها،إنها ذاته  ثم ما عليه كليا.من هنا سعادته، سعادة  بلا مزيج، ولاشائبة().بوسعنا القول أن هذا اليقين كالجنة الداخلية للكاتب)).
مرجع النص :  

Manuel de Diéguez :l écrivain et son langage ;Gallimard ;1960.PP149- 172.