الخميس، 17 أغسطس 2017

اللغة .. الوظيفة الجميلة للتهور الإنساني



"هناك أيضا شعراء صامتون، يلازمون الصمت، شعراء يعملون أولا على إعادة السكينة إلى عالم صاخب جدا، وكل القسوة الرعدة. يسمعون كذلك، ما يكتبونه، في الوقت ذاته الذي يكتبون فيه، من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لا يستنسخون القصيدة، بل يؤلفونها".

 استهلال أدبي رفيع لأحد نصوص غاستون باشلار حول النقد الأدبي ينقله للعربية الباحث سعيد بوخليط يفرق بين من يستنسخون القصيدة وبين آخرين "يعزفون"مباشرة ما أبدعوه على الصفحة البيضاء. آخرون "ينشدون" بواسطة الميغافون تعابير الأبهة. هؤلاء، يتذوقون إيقاع الصفحة الأدبية حيث الفكر يتكلم، والكلام يفكر. يدركون قبل تقطيع الشعر، والاستماع، يقينية الإيقاع المكتوب، وبأن الريشة تتوقف من تلقاء ذاتها أمام تعاقب صوتين، رافضة التجانسات الصوتية غير المجدية، يتوخون أفكارا أكثر من تكرار أصوات. كم هو عذب أن تكتب كذلك، بتحريك كل أعماق الأفكار المتأملة! كيف يمكننا الإحساس بالتخلص من أزمنة سخيفة، ترشح، يغمرها ملح البارود! بفضل بطء القصيدة المكتوبة، تعثر الأفعال على تفاصيل حركيتها الأصلية. حيث يعود لكل فعل، ليس فقط زمن تعبيره، بل الزمن الصحيح لحركته. فالأفعال التي تدور ثم الأخرى التي تبعث بك، لا يخلطان أبدا حركتهما. وحينما تأتي صفة كي تزهر جوهرها، تخول لنا القصيدة المكتوبة، الصورة الأدبية، إمكانية أن نعيش على مهل زمن الازهرار ذاك.

إذن، القصيدة هي حقا الظاهرة الأولى للصمت. تترك حيا، بين طيات الصور، الصمت المنتبه. تؤسس الشعر ضمن الزمن الصامت، حيث لا شيء يطرق، يضغط أو يأمر. زمن مستعد لكل الروحيات، إنه زمن حريتنا. كم هو بئيس الوقت الجاري، لقاء الأزمنة التي تبدعها القصائد! قصيدة: هي موضوع زماني جميل يخلق مقياسه الخاص. وقد حلم بودلير بهذه التعددية، المتعلقة بالنماذج الزمانية (كتاب قصائد نثرية مقتضبة، تقديم)، قائلا: (من منا لم يحلم، خلال أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، موسيقى، بلا إيقاع ولا قافية، لين جدا، وغير مترابط كفاية، لكي يتكيف مع الحركات الغنائية للنفس، وتموجات التأمل الشارد، وكذا قفزات الوعي؟). هل تنبغي الإشارة أنه في ثلاثة أسطر، حدد بودلير تقريبا مختلف التجليات الأساسية للديناميكية العروضية مع استمراريتها، وتموجاتها ثم نبراتها المباغتة؟ لكن خاصة مع تعدد أصواتها، تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد. حينما نكتب، ونتأمل، ينبعث تعدد الأصوات، كصدى لخاتمة. باستمرار، للقصيدة الحقيقية، طبقات متعددة. يمتد الفكر تارة فوق، وتارة أخرى، تحت الصوت الرخيم. ثلاث مخططات، على الأقل ظاهرة، بخصوص القياس المتعدد، الذي عليه إيجاد توافق الكلمات، الرموز ثم الأفكار. إن الإصغاء لا يمكِّن أبدا من الحلم بالصور في العمق. لقد اعتقدت دائما أن قارئا متواضعا يتذوق على نحو أفضل القصائد بإعادة كتابتها بدل إنشادها. الريشة في اليد، بالتالي سنمتلك بعض الحظ كي نمسح الامتياز الجائر للصوتي، ثم نتعلم في المقابل، أن نعيش ثانية أكثر عمليات التكامل اتساعا، تلك المتعلقة بالحلم والدلالة، تاركين للحلم الوقت، كي يجد علامته، ويرسم بهدوء دلالته.

كيف يمكن بالتالي، نسيان الفعل الدال للصورة الشعرية؟ العلامة هنا ليست استعادة، وذكرى، أو السمة المتعذر محوها بخصوص ماض بعيد. لكي تكون جديرة بلقب صورة أدبية، يحتاج الوضع إلى استحقاق أصلي. فالصورة الأدبية، معنى لحالة ناشئة، الكلمة - الكلمة القديمة- تأتي لتكتسي دلالة جديدة. لكن هذا لا يكفي أيضا: يلزم الصورة الأدبية الاغتناء بحُلُمية جديدة. الدلالة على شيء آخر، ثم الحث على الحلم بكيفية مختلفة، تلك بمثابة المهمة المزدوجة للصورة الأدبية. القصيدة، لا تعبر عن شيء غريب عنها. حتى بالنسبة لنوع من "الديداكتيكية" الشاعرية الخالصة، التي تتجلى مع القصيدة، فإنها لا تبرز الوظيفة الحقيقية للشعر. لا توجد قصيدة سابقة عن عمل الفعل الشعري، مثلما لا تقوم حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية، ولا تأتي الأخيرة لتكسو صورة عارية، ولا إعطاء الكلام لصورة خرساء. الخيال، يتكلم فينا، تتكلم أحلامنا وأفكارنا. يرغب كل نشاط إنساني، في التكلم. وحينما يعي الكلام بذاته، يسعى النشاط الإنساني حينئذ إلى الكتابة، بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار. يبتهج الخيال بالصورة الأدبية. إذن، ليس الأدب بديلا عن أي نشاط آخر. بل، يتمم رغبة إنسانية ويجسد انبثاقا للخيال.

تذيع الصورة الأدبية رنات، يجب تسميتها برنات مكتوبة، وفق نموذج بالكاد مجازيا. نوع من الأذن المجردة، قادرة على تناول أصوات مضمرة، تستيقظ ونحن نكتب، كما تفرض الشرائع التي تحدد الأجناس الأدبية. ومن خلال لغة مكتوبة بعشق، سيتهيأ نوع من الإصغاء المتطلع، دون أي سلبية. تقدمت طبيعة المنصت المذعن، عن تلك الأخرى المتعلقة بمجرد الاستماع. الريشة تغني! إذا استسغنا هذا المفهوم عن طبيعة الاستماع، سنتلمس كل قيمة التأملات الشاردة ليعقوب بوهمه: "لكن، كيف تفعل إذن حاسة السمع قصد الإصغاء إلى ما يرن ويتحرك؟ هل نقول بأنه يتأتى من صوت الشيء الخارجي كما يرن؟ لا، هذا يجب أن يكون شيئا يحتجز الصوت، ويكون شنيعا معه، مميزا الصوت الذي عزف أو غنى". خطوة أخرى ثم يصغي الكائن الكاتب لفعل كتب، الفعل الذي جعل للأفراد.

بالنسبة لمن يعرف التأمل الشارد المكتوب، سيدرك مع فيض القلم، كيف يحيا الواقع القصي جدا! مااستحضرناه سابقا لنقوله أزيح بسرعة كبيرة، من طرف الذي أخذناه على حين غرة لكي نكتبه، فنشعر حقا أن اللغة المكتوبة تخلق عالمها الخاص. عالم جمل، يتموضع بترتيب على الصفحة البيضاء، في إطار ترابط للجمل، تحوي غالبا قوانين جد متعددة، لكنها تحرس دائما القوانين الكبرى للخيالي. الثوارت التي تغير العوالم المكتوبة تتم لحساب عوالم حية أكثر وأقل تصنعا، لكن دون محو بالمطلق لوظائف العوالم المتخيلة. تشكل دائما البيانات الأكثر ثورية، تأسيسات أدبية جديدة. تغير لنا العالم، لكنها تأوينا دائما في عالم متخيل.

من جهة أخرى، حتى مع صور أدبية منعزلة، نحس بحركة هذه الوظائف الكونية للأدب. تكفي أحيانا صورة أدبية، كي تنقلنا من عالم إلى آخر، فتتجلى الصورة الأدبية بمثابة الوظيفة الأكثر تجددا للغة. لغة، تتطور بصورها،أكثر من مجهودها "السيمانطقي". في إطار تأمل "كيميائي"، سمع يعقوب بوهمه "صوت العناصر" بعد انفجارها، عندما دمر الانفجار"جهنم الضارية" و"اقتحم باب الظلمات". كذلك، فالصورة الأدبية متفجرة، تعمل فجأة على تشظية الجمل الجاهزة، كما تهشم الأمثال التي تتدحرج من عصر إلى آخر، وتسمعنا المواد بعد انفجارها، حينما تركت جهنم من جذرها، فاقتحمت باب الظلمات، وغيرت مادتها. باختصار، تضع الصورة الأدبية الكلمات في حركة، كما تردها إلى وظيفتها الخيالية.

بصدد الفعل المنطوق، الفعل الذي نكتبه في ظل الامتياز الكبير لاستحضار أصداء مجردة حيث تنعكس الأفكار والأحلام. يأخذ منا الكلام المعلن كثيرا من القوة، كما يقتضي حضورا أكثر مما ينبغي. لا يترك لنا السيادة الكلية على بطئنا. هناك صور أدبية، تهتدي بنا نحو تأملات لا نهائية، صامتة. فندرك لحظتها، امتزاجا عميقا للصمت داخل الصورة ذاتها. وإذا توخينا دراسة ذلك، فلا يجب أن نجعل منه مجرد جدلية خطية بين الوقفات والصيحات، خلال الإنشاد. بل من الضروري استيعاب أن مبدأ الصمت في القصيدة، يجسد فكرا مضمرا ومتواريا. فما إن يفطن فكر إلى الاختفاء تحت صور ترصد قارئا في الظل، حتى تخمد أصوات الضوضاء، ثم تبدأ القراءة المتمهلة والحالمة. تنمو جيولوجية الصمت، حين البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية. سيكشف لنا عمل ريلكه Rilke مجموعة نماذج بخصوص هذا الصمت العميق نصيا، حيث يلزم الشاعر القارئ كي يرهف السمع إلى الفكر، بعيدا عن الأصوات المدركة، وكذا الهمس القديم للأفعال الماضية. فقط حينما يتم هذا الصمت نفهم النَّفَس التعبيري الغريب.


كم هو جائر النقد الأدبي، الذي لا يرى في اللغة سوى تصلبا للتجربة الباطنية بالعكس، دائما اللغة عند مقدمة فكرنا تقريبا، شيئا ما أكثر غليانا من عشقنا، إنها الوظيفة الجميلة للتهور الإنساني، والتفاخر المقوي لطاقة الإرادة، وما يبالغ في القوة. لقد أشرنا في مناسبات عديدة خلال هذه الدراسة إلى الطبيعة الديناميكية للخيال المفرط، حيث بدونها لا يمكن للحياة التطور. عموما، تأخذ الحياة أكثر مما ينبغي، لكي تحصل على الكافي. مثلما يلزم الخيال أن يأخذ بشكل مفرط حتى يكون للفكر ما يكفي. وينبغي للإرادة أن تتخيل جدا، لكي تحقق ما يكفي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الاقتصادية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق