الخميس، 3 أغسطس 2017

يحيى الشيخ
ليس من الحكمة الالتزام بوقائع تاريخية وهي سرد خيال أسطوري

حاوره: خضير الزيدي


         يطرح نص مسرحية (الدسيسة) ليحيى الشيخ تساؤلات لا تذهب منقبة عن البعد التاريخي والأسطوري لوقائع معينة مثل الطوفان، وحسب، بل يتعدى الأمر إلى اتخاذ موقف صارم من تلك الوقائع وما آلت إليه حركة تاريخ الإنسان، وبما أن مرجعية نص "الدسيسة" يأتي اعتماداً على موقف صارم اُتخِذ من قبل المؤلف اتجاه حقائق كونية قد تكون الأساطير تلاعبت بها وجعلتها خرافات وحكايات من وجهة نظر الآخر فان انحياز يحيى الشيح إلى قدر الإنسانية وتحميل من اخطأ بحق الأجيال والشعوب اللاحقة معناه انه لا يرتهن لموقف ولا يساوم عليه ومن هنا جاءت المسرحية محملة بخطاب ذاتي لمؤلفها يتقاطع مع عبودية الآخر ويسعى لبث نداء الحرية وبذات الوقت يوفر محاولة لإعادة فهم النص الأسطوري والتاريخي والديني معا. فهل نجح يحيى الشيخ في رسالته؟ هل يجب عليّ كمحاور أن التزم مع طروحاته؟ ليس من الضرورة الالتزام مع توجهاته الخاصة ولكن ما اعرفه من خلال الحوار مع الكاتب بان هذا النص يحتج.. ويقاضي الظروف التي حملها طوفان نوح وما تبلور عنه من حياة أخرى لم ينتهِ بعدها شر الإنسان فما الغاية من الطوفان إذن؟ يحيى الشيخ الذي أنجز (سيرة الرماد عام 2012 ومبررات الرسم عن دار الأديب عام 2012 ومجموعته القصصية ساعة الحائط عام 2015 وبهجة الأفاعي عام 2016 وقصص للأطفال في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم يخرج لنا بنص "الدسيسة" ولسان حال بطل مسرحيته "نوح" يقول لنا من شاء منكم أن ينقذ حياته فعليه أن يخسرها ...

الزيدي:
      دعني ابدأ معك من حيث مدخل نص المسرحية وهي تنفتح بعبارة لريلكة هل هذه إشارة أو ما يسميه جاك دريدا "ثريا النص"، لتكشف لنا في قراءة مختصرة لحياتنا وما نعانيه اليوم من انكسار؟

الشيخ:
    "يا لهذا العالم، كلما نبنيه يتهدمُ، ونعيد بناءه، فنتهدمُ نحن" هذا ما كتبه ريلكه. لم تكن كلماته كما يصف جاك دريدا ب "ثريا النص" وحسب، بل جوهره. ولا أخفي أنها الصوت البعيد الذي لطالما اسمعه من هذا الشاعر العظيم، الذي سعى بالنص إلى ما ذهب إليه.. هل أقول: إنها بذرة النص الصغيرة والنقية.
نعم، نحن بناة العالم الذي يُهدم فوق رؤوسنا كلما أنجزنا بناءه أو نكاد. أليس ما جرى في تاريخ البشرية، وما يجري أمام أعيننا الآن دليل على هذه الحقيقة المأساوية؟ "
 "الدسيسة" التي كان عنوانها "الجذام" (قبل أن أكتشف أنه عنوان مسرحية لحامد الهيتي لم تنشر، وكانت مشروع تخرج في معهد الفنون الجميلة أواخر الستينيات من القرن الماضي)، هي صراع ما بين قراءة الوحي خطأ وبين العالم الموضوعي الذي اثبت بالممارسة خطأ القراءة، ما بين عقل استسلم للغيب كلياً، وعقل يحك الواقع مثل مبرد... إنها صراع ما بين اللاهوت وضده، ما بين روح النبوة التي ينطوي عليها "نوح" وبين الجسد المتفسخ لبطل المسرحية "المجذوم"... ما بين الفكرة المجردة وصيغة تحققها في الواقع.
نظر "نوح" إلى المجذوم كونه خطيئة، فيما كان هو ينقذ خطاة على سفينته (أبناءه وأحفاده أبطال الحروب القادمة)، وهذا ما شهده المجذوم بأم عينيه في قعر السفينة (في عمق الحياة) من موبقات ومعاصي كان يرتكبها الأبناء والأحفاد في الخفاء، وما تنبأ به لمستقبلهم.
سفينة نوح بمثابة صيغة حياة عائمة رست على ساحل بعد عناء كبير، ولكنها لم تتحرك من مكانها كما اعتقد "نوح"، بل كما جاء على لسان ابنه "سام" الذي عاد إلى السفينة واختارها قلعة حرب، قال وهو يشرف من أعلاها: "طفت المياه وغمرت الأرض، ثم غاضت ونحن في نفس المكان"

الزيدي:
   هذا الصراع الوجودي الذي تتحدث عنه لم يزل قائما فما الحل بتصورك؟

الشيخ:
     "حقائق الوجود ثابتة ولا تستدعي البحث لها عن حلول، فهي ذاتها حلولاً للوجود، لولاها لما دامت الحياة حتى اليوم. علينا فهمها وحسب، تفكيك ظواهرها ومعرفة خصائصها، الائتلاف معها. الوجود هو الوجود ولا يلزم حلا، بل فهما له وممارسة ترتقي بالبشر من عالم الوحوش إلى عالم الانسان... وهذه هي المعضلة... (أن تكون أو لا تكون) ...
لا يناسبنا البحث عن حل لتعطيل دائرة الحياة، بل عن فهم شروطها.

الزيدي:
  ألا تتفق معي بأن عبارتك في المشهد الثالث والتي تشير فيها لراية "نوح" وتصفها بأنها أقرب لراية يوحنا المعمدان لدى المندائيين... فيها ألتباس على القارئ لأن منطق التاريخ يخبرنا بأسبقية نوح على المندائيين ودينهم وبالنتيجة هي إحالة غامضة ومشوشة

الشيخ:
   راية يوحنا المعمدان (يحيى ابن زكريا) استدعاء مسرحي بحت يتناسب واستعارات أخرى في النص، ومنها، مثلاً، مفهوم الخطيئة التي يمثلها مرض الجذام، فهو مفهوم كنسي جاء بعد "نوح" بدهور. لستُ في نية تدوين تاريخي، بل اصطياد دلالات ومفاهيم. انها إسقاطات متبادلة بين الماضي والحاضر واستشراف للمستقبل. كما وأني قد تجاوزت معجزة "نوح"، وهدّمت مقدسها، وجدت ليس من الحكمة الالتزام بوقائع تاريخية هي بالأساس سرد خيال أسطوري، وأقل أهمية من أسطورة "نوح". العمل كله يقف بالضد من الأطروحة التاريخية وعليه ليس من مصلحة النص تثبيت وقائع تاريخية وردت في كتب أشك بسلامة عقلها. القارئ الذي يصدق أطروحتي المنافية لما تم تداوله، لن تشوشه راية "يحيى المعمدان"، فهي رمز نبوة لا غير.

الزيدي:
   ما الأسباب المنطقية الداعية لتهدم أساطير وحكايات وقصصا أوردتها الكتب السماوية؟

الشيخ:
    ليس من كتب سماوية وغير سماوية، أنها كلمات، كما يقول "صلاح فائق". المقدس الأمثل الذي لا تنتابني رغبة في مسه والتعرض له، هو عقلي الخالص، فأذهب معه أينما يذهب.

الزيدي:
     شخصية "نوح" في سفينته اختصار لتاريخ الإنسانية وعظمته أن يرافقه "المجذوم" في ركب واحد، ولم يعق هذا نجاحه.

الشيخ:
   النص يقول بوضوح: إن "نوح" وصل ولم يخفق في مهمته غير أنه توهم، أنه ينقل الفضيلة المتمثلة به وعائلته، فيما ترك البشر بقلب بارد يغرقون، ولم يكن حرا في فعله وخضع كليا لإرادة الوحي، فاندست له دسيسة (خطيئة) نقلها في عمق عالمه/سفينته وتمثلت بالمجذوم (خطيئة كما كان يراه المجتمع) ...المجذوم: سؤال عالي النبرة كما هي الخطيئة التي لطالما كانت في نسيج الحياة، في العقل الذي يراها خطيئة وهي ليست كذلك. هذا هو جوهر المسرحية." المجذوم" هو المعادل العقلاني الوضعي ل "نوح" الرباني.
أنهم يكذبون علينا باسم الله. أليس ما نسمعه هذه الأيام يشبه ما تصدت له المسرحية؟ لا انتظر جواباً!

الزيدي:
    لكن هذا المعادل العقلاني مات قتيلا؟

الشيخ:
   انها النهاية الأكثر موضوعية ومنطقاً لعقل مماحك لقانون الثبات الازلي. مَن مِن العظماء لم يلق هذه النهاية... المسيح، الحلاج، سلام عادل؟

الزيدي:
    لو علمت أنك في سفينتي لحرقتها قبل أن أبحر فلا تطهركم غير النار. إلا تحيلنا العبارة إلى صراع معلن بين الخير والشر. بين الأنبياء وباقي الشعوب. إنها عبارة تنبئنا بعقوبة تتمثل في الجحيم.. وبالتالي هي عودة لهيمنة سلطة النص الديني ووصاياه.

الشيخ:
   لا تخفي المسرحية مصادرها الأسطورية، الأسطورة التي سطا عليها الدين لاحقاً، لكن المسرحية تقف بالضد تماماً منه، تعرّيه وتكشف التباساته وتناقضاته. وهذا جاء واضحا وصريحا على لسان المجذوم: "يا نوح، دعني أقول لك الحق، أنت تعرف الله، لكنك لا تفهمه..." سلب الدين من الأسطورة روحها الحي وتمسك بشكلها وحوّلها إلى قصص تتفق ومفاهيمه وأغراضه، من هنا جاءت تناقضاته؛ فلا هو أسطورة ولا هو لاهوت بحت، أنه خلطة لمفاهيم غيبية مع واقع عصي غير قابل للصياغة بلا تناقضات (لأنه واقع). وهذا ما تعاني منه الأديان من تناقضات بعيداً عن الله. أنا بلا دين وفخور بهذا الاكتمال الجميل. وإن كنت تناولته في رسمي وكتابتي، فهو في فهمي ثقافة عامة لا تختلف عن أية ثقافة شعبية سائدة، وليس مقدساً.

الزيدي:
   أين دليلك على سلب الدين روح الأساطير الحية ... الدين يوردها كشواهد ووقائع تاريخية، والأسطورة في الأساس حسب رؤية خزعل الماجدي هي حكاية عن إله، فالأساطير هي قصص الآلهة وليست قصص البشر.

الشيخ:
   أعطني كتابا دينيا يعترف بالأساطير والمعجزات كونها من صنع الآلهة! كلها تنسبها للرب، الذي يراه الدين المعني.
طوفان "نوح" انتحال لطوفان كلكامش، وهو من صنع الآلهة السومرية وليس من صنع "يهو" اليهودي أو "الرب" المسيحي، أو "الله" الإسلامي. لكنها جميعها انكرت الآلهة السومرية ونسبتها لربها الكتابي

الزيدي:
   طيب لماذا جعلت من المجذوم عذابا لنوح بينما هو منقذ لبشرية. ...أرادت مشيئة الآلهة أن تنقذهم من الطوفان؟

 الشيخ:
  أسألك بالله الذي تؤمن به، أية بشرية أنقذها "نوح"؟ فيما ترك البشر يغرقون وراءه بفعل طيف رآه في المنام (هذا إذا تحدثنا بمنطق الأسطورة). الذين أنقذهم نوح (أجدادنا)، علّمونا الكذب الذي ابتدأ بكذبة إبراهيم، أبي الأنبياء، على فرعون من أن زوجته هي أخته وتخلى عنها لفرعون ليحفظ رأسه، حتى اكتشف الأخير أنها زوجته، وعاتبه. أية شهامة نتعلمها من هذا الفعل الجبان؟ علّمونا الغش وابتدأ بغش إسحاق لابن أخته يعقوب، استعبده عشر سنوات وزوّجه ابنته الكبرى فيما طلب يعقوب الصغرى واستعبده مرة أخرى لعشر سنوات لينالها... وتزوجهما الاثنتين، علّمونا الحروب وهي عصية على العدّ وأخرها الحروب الإسلامية _ الإسلامية، واغتصاب السبايا واصطياد أبناء أفريقيا وبيعهم عبيداً، غير التمييز العنصري، وعشرات من الأمثلة.  

   أطروحتي كانت تهدف النظر إلى ما آل إليه مصير الإنسانية على يد من أنقذهم "نوح" والذين كانوا يمثلون الفضيلة في نظر الأسطورة، فيما كانوا ينطوون على كل ما أغضب الله في البشر. "المجذوم" الذي عاقبه الله بالجذام؛ هو صوت الغرقى، صوت حقيقة بشر يستبطنون الفضيلة والخطيئة معاً، وكان برهانه أمام "نوح"؛ هو ما يقترفه أبناءه وأحفاده (نحن) من دمار وخراب في الحياة. كان على "نوح" أن يتعذب لهذا المصير إذا كان نبيا صالحا كما يلزم على الأنبياء... كان عليه أن يدفع ثمن فهمه الخاطئ لرسالة ربه. معجزة "نوح"، إذا صدّقناها، أنه أنقذ الحيوان والنبات وها هي تعيش منذ ملايين السنين بميزان لم يخسر، يوفر لكل عنصر منها ما يكفله ويكفل غيره.. أما البشر فلم يرثوا من "نوح" غير ميزان الخراب.

الزيدي:
   ما ذنب "نوح" إذا كان مصير البشر قبله القتل والدمار؟ لماذا تحمله مصير ما آلت إليه أكاذيب الحكايات في التوراة وبعض أساطير الشرق القديم؟

   يا عزيزي أنا لا احمّله مصائر البشر على ضوء ما جاء من أكاذيب، احمله الموقف الذي اتخذه في انقاذ الفضيلة كما زعمت الأسطورة (ام تعتقد أنها اكذوبة أيضا؟).. دعنا نرى أية فضيلة أنقذها؟ ... أنا أنظر إلى الحاضر كونه محصلة طوفانه الأول، وهذا بعيد عن محملات الاساطير وتشوهات التاريخ... قلت لست في معرض محاكمات تاريخية، فليست واثقا منها تماما.
ها انت في هذا السؤال تناقض موقفك في السؤال السابق! اعيد قولي إن الدين ألغى الآلهة وأخذ منها القصص فقط، وليس من دين قال إن المعجزات الأسطورية هي من صنع الآلهة، بل الله، بطل الديانات الأوحد... الذي، "لم يكن له كفؤا أحد" 

الزيدي:
   لا يخلو نص الدسيسة من إشارات غائرة في البعد الاجتماعي والسياسي والديني وتربكني عبارتك (دعنا نتصارح يا نوح... إما أن تتركني فتتنصل من واجبك أو تحرقني مع السفينة فتتنصل من أخلاقك) هل لك أن تبين لي ما المنطق الطبيعي للإجابة عن مثل هكذا تساؤل محرج يطرحه المجذوم

الشيخ:
   أنه الصراع ما بين الواجب والأخلاق، أطروحة "برغسون". ودعني افكك مقولة "المجذوم": من واجب "نوح"، كان إنقاذ الخليقة وترك الخطيئة وراءه تغرق كما أوحى له ربه. إذن سيتنصل عن واجبه لو ترك المجذوم/الخطيئة وراءه حياً في السفينة وغادر كما كان ينوي. الوجه الآخر لمعادلة "المجذوم" هو أنه ليس من أخلاق نبي مثل نوح أن يحرق أنسانا مهما كان، مع انه يؤمن أن النار وحدها تطهر الخطيئة كما جاء على لسانه في النص. إذن فدعوة "نوح" لحرق السفينة وفيها إنسان، هو تنصل عن أخلاق لا تليق بالأنبياء. في الحالتين هو تنصل عن صيغة وجودية. وهذا ما سعى إليه "المجذوم"، أن يجرد "نوح" من صيَغِه ويدفعه إلى اليأس ويعديه بالجذام، ويدفعه إلى حرق السفينة بما فيها: هو والمجذوم.

الزيدي:
     وبالنتيجة لا "المجذوم" انتصر ولا "نوح"!

الشيخ:
   لا أحد ينتصر غير قانون الوجود. إنه هكذا إلى أبد الأبدين _وحدة وصراع أضداد_

الزيدي:
    من يغور عميقا في ثنايا الدسيسة، سيصل لنتيجة مفادها أن شخصية المجذوم تتنبأ بمستقبل الإنسانية وتلوح لحروب ودمار أقسى مما عاشه "نوح" مع من ركب سفينته... وممكن استدل على ذلك من خلال عبارتك (سيأتي طوفان دمهم أعظم من طوفانك) هل هناك توظيف لواقع اليوم

الشيخ:
   نعم، أنه الواقع اليوم... وعلى "نوح" أو من يتخذ موقفا ويبحر بالبشر إلى وعد ما بفهم خاطئ، أن يدفع ثمن نتائجه وافعاله الخائبة.  

الزيدي:
    ولماذا لا تحمل آدم خطيئة الإنسانية؟

الشيخ:
    ليس لآدم ثمة خطيئة، بل له أسمى الفضائل واهمها؛ إنه اخرج الانسان من الجنة عاقلاً، وجعله يبحث عن طريق العودة إليها وفِعل الخير في هذا السبيل. وضعه وجها لوجه مع نفسه ومع الله وبفهم عظيم. للغرض هذا جاءت الديانات تبشر أتباعها أن طريقها هو طريق الجنة.


لولا آدم لما وجدت الديانات بضاعة تبيعها على الناس: صكوك الغفران، مفاتيح الخميني، العين الحور...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق