الثلاثاء، 1 أغسطس 2017

سبع قصائد
للشاعر  الفرنسيّ: فرنسيس بونج
ترجمة: محمد عيد إبراهيم 


الشمعة
يُحيي الليلُ أحياناً نبتةً وحيدةً حيثُ يُحيلُ وَمضُها الحجراتِ المؤثّثةَ إلى مكعّباتٍ من ظلّ.  
أوراقها الذهبيةُ، مكوّمةٌ في عمودٍ نحيلٍ من المرمرِ، تظلّ بليدةً عندَ طرفِ العُودِ المنقّطِ بالسوادِ.  
يهاجمها العِثّ آكلُ الفراشاتِ بديلاً  عن القمرِ  المتعالي، مما يُحيلُ الغابةَ إلى بُخارٍ. وسواءً وقعَت أو  انهزمَت في المعركةِ، تضطربُ على حافّةِ نوبةٍ هي أقربُ للسُباتِ.  
لكن الشمعةَ، بترجرجها عبرَ  الكتابِ وتبدّدها الفظّ إلى دخانٍ مبتكَرٍ، تستحثّ القارئ. فتميلُ على صحنها لتغطسَ في قُوتِها.  




البرتقالة
تتوقُ البرتقالةُ، كالإسفنجِ، أن تستعيدَ وجهها بعد تحمّلِ عذابِ التعبير. لكن الإسفنج ينجحُ دائماً، ولا تنجح البرتقالة؛ فخلاياها تنفجرُ، ونسيجُها يتمزّقُ. بينما تستعيدُ القشرةُ وحدها رخاوةَ شكلها، فشكراً لمرونتها، ينزّ  منها سائلُها الكهرمان، مصحوباً كما نعلمُ بانتعاشٍ حلوٍ، شذا حلوٍ، لكن أيضاً بوعيٍ لاذعٍ من طردِ بذورها قبلَ الأوانِ. 

أيجب على المرءِ أن يتّخذ موقفاً بين هاتين الطريقتَين البائستَين لتحمُّلِ الظلمِ؟ الإسفنجُ مجرّد عضلةٍ مفعَمةٌ بالهواءِ، بماءٍ وَسِخٍ أو  نظيف، أياً كانَ: فهو  تدريبٌ وضيع. للبرتقالة طعمٌ أفضلَ، لكنهُ سلبيٌّ للغاية. وهذهِ التضحيةُ العَطِرة فيها من الرقّة ما يُعجز  الجائرَ. 

مجرّدُ استدعاءِ مسلكِها الفرديّ عموماً في تعطير  الجوّ  وإدخال السرور  على معذّبها، لا يحكي كفايةً عن البرتقالةِ. على المرء أن يؤكّد اللونَ الماجدَ للسائلِ الناشئ، الذي يجعلُ الحلقَ منفتحاً، أكثرَ  من عصيرِ  الليمونِ، على وسعهِ، كي يلفِظَ الكِلمةَ ويهضمَ العصيرَ  من دون لَيّ قسماتِ الفمِ ممروراً أو  رفعِ حُليمات اللسان. 


ويبقى المرء ساكتاً كي يعلنَ إعجابَه المستحقّ لتغطيةِ الكرةِ البيضاويّةِ العنّابيةِ الهشّةِ الرقيقة بتلك النَشّافةِ الرطبةِ الكثيفةِ، فهي نحيلةٌ للغايةِ لكن جلدَها مصطبغٌ بدرجةٍ عالية، حلوٌ  ومُرّ، متفاوتٌ كفايةً ليصيدَ النورَ بجدارةٍ على شكلِ ثمرتها البالغِ حدّ الكمالِ. 

في نهايةِ هذهِ الدراسةِ المقتَضَبة، التي أجريتُها على نحوٍ  متّصلٍ قدرَ  الممكن، على المرءِ أن يهبط إلى البذرةِ. البذرة التي في شكلِ ليمونةٍ مصغّرة، من لونِ اللّحاءِ الأبيضِ بشجرةِ الليمون من ظاهرِها، ومن باطنِها أخضرُ  البازلاّءِ أو  البرعمُ اللّين. ضمنَ هذه البذرةِ التي يجدها المرءُ ـ بعد انفجارِ  مصباحِ الورقِ الصينيّ حِسّياً من النكهاتِ والألوانِ والعطورِ التي هي الكرةُ المثمرةُ ذاتُها ـ الخضرةُ والصلابةُ النسبيّةُ (ليسَت عديمةَ الطعمِ كلياً، أقولُ مصادفةً) للشجرةِ، للغصنِ، للورقةِ؛ هي باختصارٍ، وإن كانَ مُخِلاًّ، غرضُ الثمرةِ الجوهريّ. 



القارب
ينجَرّ  القاربُ إلى وتدهِ، يهزهزُ  جسمَهُ جنباً لجنبٍ، متململاً  وعنيداً كجوادٍ شابّ. 
معَ أنهُ ليسَ غيرَ حوضٍ بسيطٍ نوعاً، مِلعقةٌ خشبيةٌ من دونِ مقبضٍ: لكنهُ مجوّفٌ ومحدّب ليَسلُسَ قِيادهُ، يبدو كمن لديهِ فكرةٌ، مثلَ يدٍ تُنقّر، أو هكذا تقريباً. 
حينَ يُمتَطَى، يفترضُ موقفاً سلبياً، يتصرّف بنفسهِ، ينقادُ في يُسرٍ. ولو انطرحَ، فهو للسببِ ذاتهِ.  
يُرخَى سراحهُ، فيطفو معَ التيارِ متّجهاً كأيّ شيءٍ في العالمِ إلى كارثةٍ، كقشّةٍ في الريحِ.





مطر
المطرُ، في الفِناء حيثُ أرقبهُ يهمي، يخرّ بسُرعاتٍ مختلفةٍ. بالمركزِ، سِتارةٌ (أو شَبكةٌ) متقطّعةٌ ناعمةٌ، تهمي متصلّبةً لكن بطيئةً نسبياً، رذاذٌ، هاطلٌ واهنٌ لا ينتهي، جُرعةٌ كثيفةٌ من شهابٍ نقيٍّ. لا تبعُد عن الحوائطِ اليمنى واليسرى نقاطٌ أثقلُ تهمي بضجّةٍ أكبرَ، على نحوٍ منفصلٍ. ها هنا تبدو بحجمِ حبّةِ قمحٍ، حبّةِ فاصوليا، كرةٍ زجاجيةٍ بمكانٍ آخرَ تقريباً. على الحِليةِ المعماريةِ، على حوافّ النافذةِ، يكرّ المطرُ أفقياً بينما يتدلّى على الحوافّ السفليةِ من العوائقِ ذاتها، يخِرّ ملتحماً وخدّاعاً. يسيلُ عبرَ سطحِ السقفِ الزنكيّ الصغيرِ ليهمي على ثَقبِ البابِ، بشكلٍ ورقيٍّ مموّجٍ من التياراتِ متباينةِ السُرعاتِ بموَيجاتٍ دقيقةٍ ليرجّ السقفَ. ومن المِزرابِ المحاذي، يهطلُ كغديرٍ مكبوحٍ بمستوى الفِراشِ تقريباً. ينغمرُ فجأةً في نُهَيرٍ مَجدولٍ خشنٍ إلى الأرضِ، حيثُ يترَشّشُ ليتشكّلَ من جديدٍ وامضاً كالإبرِ.
لكلّ شكلٍ منهُ سرعةٌ خاصةٌ؛ كلّ يستجيبُ بصوتيةٍ معيّنةٍ. لكلٍّ حياةٌ كثيفةٌ بآليةٍ معقّدةٍ دقيقةٍ، لكأنها محفوفةٌ بالمخاطرِ، كنظامِ ساعةٍ نابضُها بثُقلِ كتلةٍ معطاةٍ من بُخارٍ أهوجَ.
رنيمٌ من الجداولِ الرأسيةِ على الأرضِ، بقبقةُ المزاريبِ، دقّاتُ جرَسٍ دقيقٍ يتضاعفُ ليُعيدَ صوتهُ كلياً على التوّ في كونسيرَ من دونِ رتابةٍ، لا من دونِ رهافةٍ.
حينَ يسترخي النابضُ، تواصلُ مُعدّاتٌ مَهَمّتها لوهلةٍ، لتُبطئَ تدريجياً، حتى تُسحَن الآليةُ إجمالاً فتتوقّفَ. من ثَمّ، لو أشرقَت الشمسُ، لانمحَى كلّ شيءٍ، وتتبخّرُ العُدّةُ البارقةُ: فقد أمطرَت.



نهاية الخريف
نهايةُ الخريفِ ليسَت غيرَ شايٍ باردٍ. كلّ نوعيةٍ من ورقِ الشجرِ الميتِ تنحلّ في المطرِ. لا تَخَمُّرَ أو تقطيرَ كحولٍ: سيُبدي الربيعُ أثراً فحسبُ من ضماداتٍ تناسبُ ساقاً خشبيةً.
العَوْدُ الأخيرُ فوضى. كافّةُ أبوابِ مراكزِ الانتخابِ تُفتَح وتُغلَق بقوّةٍ. إلى سلّةِ المُهمَلات! إلى سلّةِ المُهمَلات! وتُمزّقُ الطبيعةُ مخطوطاتِها، تُهدِّم مكتباتِها، وبعصبيةٍ تهرسُ فاكهتَها النهائيةَ.
وتُلقي بنفسها من على مكتبها. تبدو حالياً هائلةً. شعرُها مُهَوّشٌ، رأسُها في الضبابِ. ذراعاها معلّقتان سائبتان، تستنشقُ الريحَ بلذاذةٍ وهي تظنّها منعشةً، ثلجيةً. النهارُ قصيرٌ، والليلُ يقعُ سريعاً، والضحكُ لا يُستدعَى. 
عالياً في الهواءِ، بينَ الأنجُمِ الأخرى، تتطلّعُ الأرضُ جادّةً من جديدٍ. جزءُها المنيرُ هو الأضيقُ، تتخلّلهُ وديانُ الظلالِ. حذاؤها، كحذاءِ الشَريدِ، منتَقعٌ بالماءِ ويُصدِرُ موسيقى.
في بِركةِ الضفادعِ، غموضٌ عُذريٌّ، وينمو كلّ شيءٍ من جديدٍ عفياً، يتقافزُ من حجرٍ إلى حجرٍ ثم يُبدِلُ المستنقعَ. يتناسلُ وهو منتعشٌ.
ذلكَ ما تسمّيهِ: حملةُ تنظيفٍ جيدٍ، معاهدَةٌ منتقَضَةٌ! فهي لا تلبسُ شيئاً، منقوعةٌ حتى العظامِ.
وتواصلُ، تواصلُ، تأخذُ قروناً لتتجَفّفَ. ثلاثةُ أشهرٍ من الارتكاسِ الصحيّ على هذهِ الحالةِ؛ من دونِ حادثةٍ دمويةٍ، لا فَضلةَ ثوبٍ أو قَصّةَ ذيلِ حِصانٍ. مزاجُها القويّ حاضرٌ لهذا.
من ثَمّ، حينَ تبدأ صغارُ البراعمِ تشطأُ ثانيةً، تعرفُ ما تتجهّزُ إليه، وكنهَ الأمرِ كلّهِ ـ وإن تختلس النظرَ في حذَرٍ، وهي منتفخةٌ ضاربةٌ إلى الحُمرةِ، فهي على أرضٍ خيّرةٍ.
وهكذا تُعلّقُ حكايةً أخرى، قد لا تعتمدُ على غيرِ الرائحةِ، كمِسطرةٍ سوداءَ سأستخدمها لرسمِ خطٍّ تحتَ هذا.



التوت الأسود
فوقَ الأدغالِ الطباعيةِ تهبطُ القصيدةُ درباً لا يُفضي بعيداً عن الأشياءِ ولا إلى العقلِ، ثمةَ ثمارٌ تتولّفُ من كتلةِ الكونِ لتسقطَ مع نقطةِ الحبرِ.

الأسودُ، الورديّ، والكاكيّ معاً على العنقودِ، تبدو مماثلةً لمنظر عائلةٍ شريرةٍ بأعمارٍ متباينةٍ أكثرَ من غوايةِ القطفِ الفعّالةِ.
في المنظرِ تتفاوتُ البذورُ عندَ الطيورِ المستثارةِ لا تفكّرُ فيها كثيراً، فيبقى القليلُ ما بينَ المنقارِ والإستِ فيما ذرعوهُ.

لكن الشاعرَ في مَساقِ جَولانهِ المهنيّ يتّخذُ البذرةَ لمَهَمّةٍ: "إذن"، يُبلغُ نفسَه "فالجهودُ طويلةُ الأناةِ للزهرةِ الهشّةِ على تشابكٍ مقيتٍ لتوتِ العلّيقِ تُثبِتُ توفيقاً. من دونِ أن يوصيها كثيراً ـ فهي يانعةٌ. يانعةٌ حقاً ـ بحُسنِ الأداءِ، مثلَ قصيدتي".



الحلزون
الحلزونُ كائنٌ ـ ميزةٌ تقريباً. لا حاجةٌ بهِ لإطارٍ، فهو مجرّدُ متراسٍ، شيءٌ مثلَ خِضابٍ بأنبوبٍ.
تمتنعُ هنا الطبيعةُ أن تهبَ غشاءً لهُ نمطٌ من الشكلِ. تُبدي وحسبُ رابطها إليهِ بحفظهِ في تابوتٍ داخلهُ أجملُ من خارجهِ.
ليسَ مجرّدَ بحّارٍ في بِصاقٍ بل حقيقةً أكثرَ ثراءً.
فالحلزونُ موهوبٌ بقوةٍ جبّارةٍ ليغلقَ على نفسهِ. فهو مجرّدُ عضلةٍ، فعلياً، مِفصلٌ، نابضٌ، ثَلمٌ وبابهُ.
قد يُخفي النابضُ البابَ. بابان مقعّرانِ طفيفاً ينصبان مستقرَّهُ.
مستقرّهُ الأولُ والأخيرُ. يعيشُ هناكَ حتى بعدَ موتهِ.
فلا مجالَ أن تُخرجَهُ حياً.
أدنى خليةٍ بجسمِ الإنسانِ تلتصقُ بالطريقةِ ذاتها، بالعنادِ ذاتهِ، بالكلامِ ـ وعكسهِ.
وقد يأتي مخلوقٌ آخرُ ليدنّسَ المقبرةَ، بعدما ينتهي بنيانها، يتّخذها مأمناً محلّ الباني الراحلِ.
كمثالٍ، السرطانُ الناسكُ.
.............................................

(*) اللوحات، للفنان المغربيّ: فريد بلكاهيه  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق