الأربعاء، 16 أغسطس 2017

مقتطفات من مجموعة: "حجَر الرصّ" Ballast للشاعر الفرنسي جاك دوبَّان، غاليمار 2009.
ترجمة: محمد العرابي

جاك دوبَّانJacques Dupin  شاعر فرنسي ولد سنة 1927، قضى سنواته الأولى في مصحة عقلية، وتربى بين نزلائها بحكم أن أباه كان مديرا لهذه المصحة. عن 85 سنة توفي في باريس، في 27 أكتوبر 2012.

أسس بمعية أيف بونفوا وآخرين مجلة L'Ephémère. أصدر أولى مجاميعه الشعرية في 1950. خالط دوبان عالم الفنانين التشكليين والنحاتين واشتغل مع عدد منهم كميرو، دو ستايل، جياكوميتي. وهو ما جعل شعره مخترقا بالألوان والأشكال ك "فيض من كثافة مشعة". شعره متمرد، موجِع، محكوم بعدم الاكتمال في تجاوبه مع نوع من "الاقتضاء الصامت". وفعل الكتابة بالنسبة لدوبان هو نوع من المخاطرة الأكيدة، والاشتباك العميق بين العقل والجسد، "في متوالية ضرورية من القطائع، والانحرافات، والاحتراق"، بما يجعل من الشعر عملية تعرية ضارية للغة، في توثبها.

هذه القطائع يراها جان بيار ريشار تشتغل بعناصر ومواد مثقلة بالعنف والقسوة. يقول:
"المشهد الشعري لدوبان لا يتضح إلا إذا خان نفسه. إنه يولد من تمزقه الخاص: الانفكاك الذي يعيد ابتكار نفسه، ويسائلها بلا توقف بالميسم الأساسي للعدوانية. صواعق، زوابع، اصطدامات، ارتجاجات، مُديات، قاطعات، مجرفات، ركامات حادة، انغرازات، خدوش، سلخ، تعتيمات، تشظيات، انخلاعات، غرقى: تلكم هي بعض من أدوات وصور تحلم من خلالها دينامية الهجوم مفرطة القوة".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَنْ تَكْتُبَ وَعيْنَاكَ مُغْمَضَتَانِ. أَنْ تَكْتُبَ خَطَّ الذُّرَى. أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَاقَ البَحْرِ... مَعْنَاهُ أَنْ تَحْفِرَ أَعْمَقَ مِنْ صُرَاخِ الطِّفْلِ الوَلِيدِ، مِنْ صُرَاخِ القَنَّاصَةِ، مِنْ أَنِينِ المُعَذَّبِ... مِنْ تَشَابُكِ الجُذُورِ، وَمِنْ إِرْهَاقِ جُلُودِ الرُّعْبِ....

أَنْ تَكْتُبَ بِدُونِ تَرَاجُعٍ. فِي السَّوَادِ. فِي البِطَانَةِ. فِي المُدَاهَنَةِ، بِالسَّوَادِ....

أَنْ تَكْتُبَ: إِصْغَاءٌ - صَمَمٌ، لَامَعْقُوليةٌ–أَنْ تَكْتُبَ لِتَبْلُغَ الصَّمْتَ، لتَسْتَمْتِعَ بِمُوسِيقَى اللُّغَةِ، وَتَعْزِلَ الصَّمْتَ مِنَ الإِيقَاعِ وَالتَّرْخِيمَ مِنَ اللُّغَةِ

....

أَنْ تَكْتُبَ بِأَشْوَاكِ الصَّنَوْبَرِ الَّتِي تُصَفِّي التُّرَابَ قُبَالَةَ القَبْوِ الصَّغِيرِ لِفرَانْسِيس بُّونْج. فِي مَدِينَةِ نِيمْ، ذَاتَ عِشْرِينَ غُشْت، فِي ظَهِيرَةٍ قَائِظَةٍ، كُنَّا خَمْسَةَ عَشْرَ شَخْصًا، تَحْتَ الظِّلَالِ العَطِرَةِ لِأَشْجَارِ صَنَوْبَرِهَا... فِي بَعْثَرَةٍ فَوْضَوِيَّةٍ لِأَحْجَارِ القُدُورِ الفَخَّارِيَّةِ، فِي حَرَارَةٍ هِيَ حَرَارَتُهَا، هِيَ حَرَارَتُنَا...

....

أَنْ تَكْتُبَ وَاقِفًا عَلَى أَصَابِعِ الرِّجْلِ، أَنْ تَكْتُبَ مَاشِيًا عَلَى صَفْحَةِ المَاءِ، حِينَمَا يَكُونُ النَّهْرُ أَكْثَرَ طُولًا، أُكْثَرَ ثَرْثَرَةً عَنْ جَفَافِهِ....

أَنْ تَكْتُبَ مُنْذُ الْأَزَلِ لِأَجْلِ أَحَدٍ، لِأَجْلِ لَا أَحَدٍ، أَنْ تَكْتُبَ لِأَجْلِ الأَحْجَارِ... أَنْ تَكْتُبَ لِأَجْلِ مَجْهُولٍ، لِأَجْلِ أَعْمًى، لِأَجْلِ أَعْمًى مَجْهُولٍ... بِشَرَاسَةِ بَقِيَّةِ نَارِ الجَمْرِ، بَقِيَّةِ هَذَا الدُّخَانِ، هَذِهِ الرَّمْيَةُ لِلأَحْجَارِ نَحْوَ الآخَرِ، نَحْوَ ظِلِّ الآخَرِ، نَحْوَ هَذَا المَجْهُولِ الَّذِي يَنْتَظِرُ، المَوْجُودِ هَا هُنَا، الَّذِي كَانَ هَا هُنَا، مُنْذُ الْأَزَلِ...

أَنْ تَكْتُبَ خَارِجَ ذَاتِكَ... أَنْ تَكْتُبَ بَعِيدًا عَنْ ذَاتِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قِنَاعًا، ومُوسِيقَى، وبَلَاغَةً بِدَائِيَّةً، يَلْتَصِقُونَ بِجِلْدِ كَائِنٍ حَيٍّ، بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ - أَنْ تَكْتُبَ خَارِجَ ذَاتِكَ مِثْلَمَا تَنْزَلِقُ عُقْدَةٌ تَلْتَفُّ حَوْلَ العُنُقِ، فِيمَا وَرَاءَ الصَّوْتِ...

أَنْ تَكْتُبَ مَعْنَاهُ أَنْ تُكَابِدَ، أَنْ تُرَعِبَ، أَنْ تُجَمِّدَ الزَّمَنَ بِتَكَاسُلِي، أَنْ تَكْتُبَ مَعْنَاهُ أَنْ تَخْدِشَ وَتُفَتِّتَ قَامَتِي الَّتِي هِيَ قَامَةُ مُحْتَظَر... العُشْبُ يَنْمُو، ضِدَّ كُلِّ اِنْتِظَارٍ، العُشْبُ يَنْمُو بَيْنَ سَاقَيَّ، بَيْنَ أَسْنَانِي... الحَرْفُ يَهْرُبُ، عَبْرَ الأَحْجَارِ غَيْرِ المُتَمَاسِكَةِ، مِنَ التِّلَاعِ المُنْفَلِقَةِ، الزَّمَنُ يُدَمِّرُ، المُتَعَذِّرُ إِصْلَاحُهُ مُعَلَّقًا....

أَنْ يَتَمَلَّكَنَا الخَوْفُ مِنَ الكِتَابَةِ، أَنْ نَسْتَسْلِمَ لِلخَوْفِ، مَعْنَاهُ أَنْ نَكْتُبَ وُقُوفًا، وَظُهُورُنَا إِلَى الحائِط....

أَنْ تَكْتُبَ بِدُونِ أَنْ تُلْقِيَ المِرْسَاةَ، بِدُونِ هَدَفٍ، فِي خَطَرٍ مُطْلَقٍ، وَفَضَاءٍ مَفْتُوحٍ... مُشْرِفًا عَلَىجُرْفِ اللُّغَةِ، اخْتِصَارِ البَهْلَوَانِ، - وَلَبْلَابِ المَوْتِ الَّذِي يَتَزَاوَجُ مَعَ الكِتَابَةِ، الَّذِي يَلْتَفُّ حَوْلَهَا...

أَنْ تَكْتُبَ بَيْنَ قَوَائِمِ هَذِهِ الرُّتَيْلَاءِ الأَلْفِيَّةِ. أَنْ تَكُونَ مُحَاسِبَهَا وَعَاشِقَهَا، المَاسِحَ الخَانِعَ لِحِذَاءٍ سَاقِهَا المُتَجَمِّدِ....

أَنْ تَكْتُبَ مُحْتَرِسًا مِنَالمِرْآوِيِّ، مِنَ المَظْهَرِ الخَادِعِ. مِنَ التَّفَجُّرِ. مِنَ الانْزِلَاقِ... حَوْلَ عَيْنَيْنِ، فِي عُمْقِ العَيْنِ، خَارِجَ مَجَالِ النَّظَرِ... الكِتَابَةُ بِاِعْتِبَارِهَا عُبُورًا لِلْعَصْفِ، العُبُورَ المُسْتَحِيل... بِاِعْتِبَارِهَا المُسْتَحِيل...

أَنْ تَكْتُبِي بِأَنَّكِ كُنْتِ ذَاتِي، بِأَنَّكِ كُنْتِ عَارِيَةً، بِأَنَّكِ لَمْ تَكُونِي شَيْئًا غَيْرَ ظِلِّ كَرْمَةٍ، غَيْرَ نَحَافَةِ حَرْفٍ، غَيْرَ زَهْرَةِ جَلِيدٍ خَفِيفٍ فَوْقَ الشُّبَّاكِ... غَيْرَ نُدْبَةٍ مَقْلُوبَةٍ، عَضَّةٍ مُطْفَأَةٍ... غَيْرَ الفَتْحَةِ وَالقُفْلِ. - غَيْرَ فَجْرِ الشِّتَاءِ وَلَيْلِ الصَّيْفِ - غَيْرَ أَرِيجِ الوزَّالِ فَوْقَ قَبْرٍ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ، - غَيْرَ الجُمْلَةِ نَفْسِهَا إِلَى مَا لَا نِهَايَةٍ، مُكَرَّرَةٍ، مَشْطُوبَةٍ، مُتَخَلًّى عَنْهَا - مَكْتُوبَةٍ...

...

الكِتَابَةُ، مَوْتٌ لَا يَنْتَهِي مِنَ الانْطِفَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِي، مِنَ الاحْمِرَار تَحْتَ الرَّمَادِ، وَمِنَ الاخْضِرَارِ عَلَى هَاوِيَةِ الجُرْفِ، كَمِيلَادِ أَحَدٍ يَسْتَنِدُ عَلَى احْتِضَارِ الآخَرِ، - القِسَمَةُ بِالسَّكَاكِينِ المَسْلولَةِ مِنْ تَوْأَمَتِنَا العَطِرَةِ... أَبْعَدُ كَثِيرًا عَنْ ذَاتِي، أَنَا الوَحيدُ الذِي يَصُبُّ الزَّيْتَ عَلَى نَارِ الكِتَابَةِ، مِنْ أَجْلِ إِذْكَاءِ جَمْرِ مَوْتِ الكِتَابِ، وَتَشْحِيمِ التُّرُوسِ الرَّقِيقَةِ وَالمُسَنَّنَةِ لِشِعْرِيَّةِ الحُبْسَةِ........

الكِتَابَةُ بِفِعْلِ البَرْدِ. الكِتَابَةُ عَلَى مُذَكِّرَةٍ تَخْرُجُ مِنَ الفَمِ مَعَ البُخَارِ، حِينَمَا يَتَجَمَّدُ الخَارِجُ مِنَ البَرْدِ. ويَبْدَأُ الكُلُّ، مَعَ النَّهَارِ، وَيَكُونُ اللَّا-يُقَالُ يَنْسَابُ تَحْتَ الجَفْنِ، وَعَبْرَ تَشَقُّقَاتِ وَفَرْقَعَاتِ الجَلِيدِ، تَطْبَعُ بِخَطٍّ، بِمَجْمُوعَةِ خُطُوطٍ، شَحْذَ السّوسَنِ، وَتَوْسِيعَ العَصْفِ...
أَنْ تَكْتُبَ بِخُطْوَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى بَرِيقِ المَاءِ فِي اِمْتِلَاءِ المَسَاءِ - تَمَامًا كَصَيَّادِ سَمَكٍ، يُجَهِّزُ الطُّعْمَ، يَرْمِي الشَّصَّ، وَيَجْذِبُ فِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ الغَرَامِيَّةِ - قَبْلَ أَنْ يَرْتَمِيَ فِي النَّهْرِ...
الكِتَابَةُ بِاِعْتِبَارِهَا هَذَا البَرْقَ، هَذَا العُرْسَ الغَرِيقَ، بِاِعْتِبَارِهَا سَدًّا عَارِضًا مِنْ أَغْصَانٍ وَفَجَوَاتِ ضَوْءٍ آخَرَ فِي جَسَدِ المَاءِ....

أَنْ تَكْتُبَ، أَلَّا تَكْتُبَ، أَنْ تُوَقِّعَ الحَيَاةَ، الظُّلْمَةَ الهَادِرَةَ لِلنَّهْرِ - وَأَنْ تَنْتَظِرَ مَجِيئَ اللَّيْلِ لِئَلَّا تَعُودَ أَبَدًا...

فِي المُعَانَاةِ، فِي النَّوْمِ حَادِّ الصَّوْتِ، مِنْ أَجْلِ التَّدْوِينِ المُتَفَاقِمِ لِلضِّعْفِ...

...

أَنْ تَكْتُبَ مُتَظَاهِرًا بِنِسْيَانِ المُسَوَّدَةِ وَالضَّغِينَةِ، وَالسَّوْطِ، بَيْنَمَا فِي الخَفَاءِ تُدَبِّرُ مَكِيدَةً فِي صُورَةِ قَتْلٍ، وَاِنْتِشَارٍ لِلسَّكَاكِينِ المَفْلولَةِ الَّتِي ثَارَ ضِدَّهَا آرتو، وجَعَلَتْهُ يَعْوِي وَيَحُولُ دُونَ اِنْتِشَارِهَا، يَشْحَذُهَا وَيُثِيرُ غَيْضَهَا، يَمْحَقُهَا، بِتَوْجِيهِهَا ضِدَّ جَسَدِهِ، بِعَيْنِ صَقْرٍ، بِكِتَابَةٍ فَضِيعَةٍ لِحَفَّارِ العَقْلِ....

لَقَدْ كَانَ وَحْدَهُ، بِبَصِيرَةِ مُنَكَّلٍ بِهِ، قَادِرًا عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى قُوَّتِهِ العَقْلِيَّةِ فِي وَجْهِ وُحُوشٍ الدَّاخِلِ، وَحْدَهُ قَادِرًا عَلَى اخْتِرَاقِ الجِدَارِ، والمُحَافَظَةِ عَلَى القِوَى العَقْلِيَّةِ العَنِيفَةِ فِي مُوَاجَهَةِ الكُلِّ، رَغْمًا عَنْهُ، رَغْمَ قُوتِهِ المَسْلوبَةِ، رَغْمَ اِسْتِئْصَالِ الحَيَاةِ، وَحْدَهُ قَادِرًا عَلَى تَعْرِيضِ جَسَدِهِ لِلصَّاعِقَةِ، عَلَى سَبِّ الآلِهَةِ وَشُرْطَتِهَا، هُنَا، وَمِنْ أَجْلِنَا، وَهُوَ مَا رَأَتْهُ عَيْنِي ذَاتَ مَسَاءٍ، عَلَى مَسْرَحِ شَارِعِ الكُلومْبيِي القَدِيمِ...

أَنْ تَكْتُبَ بَيْنَ الحِبَال. أَنْ تَكْتُبَ كَمَا لَوْ كُنْتَ فِي سِنِّ العِشْرِينَ، عَلَى حَلَبَةِ مُلَاكَمَةٍ، فِي الضَّوَاحِي، وَالشُّرْفَةُ المُقَوَّسَةُ مَفْتُوحَةٌ، فِي كَشْفِ حِسَابِ الثَّوَانِي... وَحَاضِرًا، فِي كَشْفِ حِسَابِ السَّنَوَاتِ، الأَكْثَرِ قَذَارَةً، الأَكْثَر تَجْوِيفًا، بِلَا قَوْقَعَةٍ عَلَى العُضْوِ الجِنْسِيِّ، بِلَا رَاتِنْجٍ تَحْتَ الرِّجْلِ....

أَنْ تَكْتُبَ كَمَا نَصْلُبُ، ليَالِيَ الرِّيَاحِ العَاتِيَةِ، الرُّوحَ التَّائِهَةَ، أَوِ التَّشَرُّدَ السَّكْرَانَ، بِقَصْعِ قَمْلِ شَعْرِهِمْ الكَثِّ، بِشُرْبِ الخَمْرِ فِي أَعْنَاقِ قَنَانِيهِمْ- بِفَتْحِ الأَقْفَاصِ، وَرَمْيِ النُّقُودِ، وَوَشْمِ جِلْدِ الدُّمَّلِ، وَتَغْيِيرِ وَجْهِ السِّحْرِ الأَسْوَدِ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق