الخميس، 11 مايو 2017

خمس قصائد
للشاعر  المصريّ
محمد حربيّ



شيطان الأرغفة
قمح القصيدة ونارها
 فرّت قصيدة من "ديوان قديم" كطحين لم تدركه النار، فأخذها شيطان إلى كوخ بعيد، واستولدها رغيفًا يشبه قمرا مجنونا بضفائر خضراء، نسيتها صفصافة في ترعة حبلى في الهجير. صعدت وحدها إلى السماء ولم تعد.
 
ذكرني بها الشيطان في غدائنا الأخير ونحن نوقع معًا يومياته قبيل الرحيل، فدونتها حتى لا يطالبني بها مرة أخرى، وجهزت حقلين في مجاز وليد، ودفعت بالقصيدة إلى نار حتفها وجلست أسامر مصيري على ناصية ممصوصة النهدين والشيطان يتلو وِردَه :

في اليوم الأول
 
أعلنت زواج الطين بالجسد فاشتعل الكبد بالحمى، ورفعت القرى - تلك التي اتخذت الطمي كتاب نسب وماء مصاهرة وسلالة - الدم شارة للقيامة، ونام الرمل غير بعيد والنار حبلى بلا قابلة 

في اليوم الثاني
 
أعلنت زواج الطمي بالملح كي أرضي رب البحار،وأطرد شيطانًا يبني هرمًا من الملح بجثث الصغار في نهار قرية مستقيلة من خضرتها. فرت الصبايا من لقاح المجاعات إلى عري نهود جائعة تتحرش بقمح هزيل وترضى بالغبار.
 
انحنينَ يلتقطن الحَب من غبار الطريق، ويصنعن من روث البقر نارًا لتدفئة السيقان الظامئة للحظة دفء منذ مجاعتين.

في اليوم الثالث
 
الحقول التي استقالت من خضرتها أوقفت مصابيح كانت في عرس، واستعارت قنينتي خمر لقصائد تهرب إلى أكواخها القريبة من ثدي النهر ترسي مقاليعها.  
القصائد التي رست على جودي الماء الفقير أخبرت قمحًا يحتضر أنها في انتظار نبيّ  
يقود النهر إلى المصب.
"
قلت للشيطان الذي قفز إلى شجرة مجاورة: "لم أكتب هذا الكلام من قبل، فما علاقته بزواج الطين بالرمل؟
 
قال: ألا تزال مهووسا بالثنائيات؟ انتبه أنت في حضرة الفوضى.. أنت كتبت ولم أفعل سوى تسجيل ما نقشت يداك"

في اليوم الرابع
 
الطيور التي فرت إلى أعشاشها على الفروع الشاحبة ناحت بأغنية قديمة عن رغيف صار طفلًا بأعضاء مطمورة لذكورة مختلطة بأنوثة، ثم أحرقته النار في صلاة صهيلها النهاري، فصار بيتًا: رجلًا وامرأةً ونبوءة لما يجيء.
 
ثم كسونا الرغيف ظلًا، ثم لم يصعد من غباره خلق جديد، فالهرم المنسي من الطمي الذبيح ينتظر الفلك النائم فوء الماء، وتبديل نوبة الغناء في الشجر العقيم.  القرى رفعت الجوع أخضر وأصفر سنبله علامة، والصبايا عاريات في انتظار، والنهود مملكة مفتوحة للجائعين، واستوطن الرمل خاصرتي، فنمت غير بعيد عن الفلك الغريب.  

في اليوم الخامس
مستسلمًا لغواية حلم يشبه الرغيف، أعلنت زواج الطمي بالرمل 
 
فمات كل شيء في العيون، وبقيت وحدي كصفصافة تجف أغصانها في المرايا، فلا تطول الماء تحت شمس الغوايات، وجوع النهر لدم يطلع من فخذين بدفء أرغفة تصلي للنار، وهي تصهل كجياد في العيون، وارتد الرمل بصيرًا والطمي حطبًا كهلًا له خوار، ومكث شيطاني غير بعيد يحصى أرغفة تتناسل بين أفخاذ يهربها النهر للملح عجبا.

في اليوم السادس
 
كنت مشغولًا بإحصاء خيبات عاشقَين على شجرة جميز، غادرت ظلها ذبيحا في الماء فقال لي: أتذكر مقولة القطب الكبير "عرت لنا الفخذين بينهما رغيف؟"
كنت نسيت النار مصلوبة وحدها في عراء، فنبهني إلى طيف يمر وقلت :
أذكر الصدى 
فقال أي صدى؟
قلت له "عرت لنا الفخذين بينهما قصيدة
عرت لنا الفخذين بينهما جريمة 
عرت لنا الفخذين بينهما وطن
واشتعلت برغبة قاتلة في الغناء"
فابتسم وقال "أحب تعدد الأرغفة على صهيل نار واحدة"

في اليوم السابع 
الشيطان في إجازة قصيرة لزيارة ذويه ولمّ حصاد الذنوب
وبناء هرم من أغنيات نهود عارية وسيقان تحلم بالخصب 
بعدما صار الرغيف وطنًا محروقًا،والفرن نهرًا من النار بلا مصب.
 
في ظل الأيام السبعة: خرجت القرية لصلاة الغيم لاستجلاب النار إلى الفضاء وإسقاط المطر كي لا يقيم شيطان في اليتم، وتموت قصيدة لم تشعل النار في رغيف البكارة بعد
وافترقنا.



وقت الفراغ من القيامة
سأصنع طاغية من طين
وأصلبه على عمودين من خشب
ثم أتسلّى بالثورة عليه
كل يوم في فناء البيت 
وأتركه للغربان بعد ذلك
ثم أعيد بناءه
في الصباح كما كان 
وإلا كيف أقضي وقت فراغي
بعدما وضعت الثورة أوزارها

صنعت تمثالي 
فغافلني الطاغية الطينيّ 
واستوطن دولابا في الحائط
ولم أعثر عليه بعد سويعات من قيلولة الظمأ
قيل لي: إن خشبا تناثر من شرفتي 
وغمر السماء
وقيل: لم يعد في الغابة شجر يكفى لاطعام العصافير
و إن النار التهمت كل مال لدى الملائك من قمح شحيح
وقيل إن تمثالا كان يجول 
في القرية يغني لجمع الحطب
فيأتي الفقراء طواعية ويتبعون الصدى 
حتى آخر فاصلة في الإيقاع
لم يحفظها الرواة في السير 

لم تأت القيامة بعد في دولاب غرفتي 
ولا الشرفة عادت كقرية مضفرة برائحة النعناع 
ولا التمثال انتهى من صفيره في الحقول 
ولا العصافير عادت تغني في نحيب القبور
ولا الشهداء عادوا من رقصة العرش
أغلقت دولابي على ظل القيامة
 وبدأت الغرس من جديد!


عبد الباسط
أَشْعَلَ النَّادِلَ الراديو 
فانْطلَقَتْ خُيولُ الآيِ 
في البراري و الشوارَعِ، وارْتبَكَ المُرورُ 
من جِيادٍ تركُضُ نحوَ اللهِ
الذي كانَ يزورُ المَرْضى بِالمشْفى القريبِ،

تَوقَّفْتُ عن تناولِ الطعامِ، وكنْتُ جائعاً 
فمَرَّ الوقتُ قاتلاً 
وطُيورُ الجوعِ تَنْهِشُ لَحْمي 
بينما تَحُطُّ طيورُ الأياتِ كُلَّما سَكَتَ "عبد الباسط" أو أعادَ.  

قلت للنادِلَ: هلْ لكَ أن تُوقِفَ الخُيولَ قليلاً
رَيْثَما أَنْتَهي من طعامي؟
ــــــ  وماذا يَمْنَعُكَ؟
قلْتُ : الصوَرُ تُطارِدُ شياطينَ الإنسِ والجانّ
فلِمَ لا أُساعِدُها بِصَمْتي
والخُيولُ مَرعْوبَةٌ 
من صَوْتِ الملاعِقِ وإِيقاعاتِ الصورِ 
تحتَ سَنابِكِ الخيْلِ، الذي
يَمُرُّ فوقَ رَأْسي
فلا أسْتطيعُ تَمْييزَ المعركةِ،
ابْتسَمَ وهو يُوَزِّعُ الأطباقَ فارِغَةً على الموائدِ
ــــــــ لا تَخَفْ، هذا الرَّجُلُ يُغَنِّي لِلمَلائكةِ !
فَحَمَلْتُ بَقِيَّةَ الطعامِ إلى الشَّارعِ 
وأنا أُرَتِّلُ وَحْدي
باحِثاً عن اللِه في الحقولِ .



مصير  رصاصة
أطلَقْتُ رصاصةً على المرآة 
من يومِها لم أعُد أرى.

أوصَتْني رصاصة قبل أن تغلقَ المرايا بإحكام:
"
لا تلتفِتْ للظل الذي يعيش تحت عقب الباب
إنه قط ضرير..."
سمعْتُ مواءً وسارعت بإغلاق نافذة
لكن الرصاصة عبَرَت 
ولم تجفلْ غزالة كانوا
يدرّبونها على القتل البطيء
فوق الجدار

ـــــــ  كيف تختارين ضحاياك أيتها اللعوب؟
ــــــــ  أغويهم برقصة نموت فيها معاً...
فيُرشدُني عطر الخوف في عيونهم
فأراهم وأنا مغمضة العينين.

قالت رصاصةٌ لأختها 
وهي تخلع رداءَها استعداداً للرّقصة الأخيرة:
إنهم كاذبون 
لا يدفعون لنا ثمناً للموت 
ويربحون من موتنا 
أشجارا تنمو للأسفل وظلالاً ترقص للأعلى 
وغيوما لا تعرف المطر 
فلا تتعجلي الرحيل قبل تمام الزهو
واكتمال الأغنية... 
فقالت لها وقد أكملت عُريها :
أنا لم أُلوّث نهراً 
ولم أقتل قطرة ماء واحدة 
ولا أرى عيني ضحيتي
ولا أسخر من موت ضحية 
جاءت إليّ ولو بالخطأ
 
وأعترفُ بما فعلت بفارغ معدني 
يبقى بعدي ليكشف الاثر 
فكيف أخاف الموت 
في رقصتي الاخيرة!
 
بعد تمام المذبحة 
سقطتا في بئر تعاني الظمأ 
فبكتا معا موتاً لا يكتمل
وقصّا قصص الضحايا للماء الشحيح.

باحت رصاصة وهي في الجُبّ بالنبأ
كيف أغير تاريخكم وأنا أنتحر...
فانا لم أكن يوما شجرة تعلن النار بثدي الفروع
فتحترق الضروع
ولم أك يوما بغيا 
فتِّشوا عن الزناد
إنه البرزخ الذي يقودني إليه ربّي 
وأنا لستُ بكافرة 

أخبرني قصّاصو الأثر 
أنّ رصاصة المرآة
وجدوها عارية في القبر
من يومها لم تمطر السماء
ولم أتقن العمى!


شيطان يعود للعمل
1
مرَّ بَحْران بوقتٍ واحد
فلم ألْحَظْ ظِلَّا يرقص خلف النافذة
 ونسيت دفتري في مِطَبٍّ هوائيّ
2
مرَرْتُ وحدي خلف بَحرين بوقت واحد
فغرِقَ ظِلّي تحت جسرين
يقطعان الطريق على مائين ينتظران إذْناً بالمرور
وارتعَشَتْ خُطَى الطريق تحتَ قدَميَ
فتغيّرَت صوَرٌ
وتبعثَرَ التراب أُنْشوطَة
 تَلُمُّ الحصادَ لَغْواً فاتناً بين الدروب
3
مررْتُ على جسدِ الخارطةِ
ترجَّلْتُ عن ظِلّي المُشاكس
وخلَعْتُ عباءةً ريفيّة
كنتُ أفِرُّ فيها كَبساطأحلامٍ إلى ما أريد
ولم ألحَظْ شيئاً تَحتي
تنداحُ دولٌ وتفِرُّ مدائن كنت أدّخِرها لمائدة العشاء
لكنّ ظلِّي الذي لم أستطع حبسَه في الزجاجة
كان يتشكّى الظّمأ
عند كلِّ نهرٍ دُسْتُ فوقَ رقبَتِه عند المفترق
 وأنا أبدأُ يومي.
4
مزَّقتُ الخرائطَ فقط لأهُشَّ على غبار الجدار وأضعُ صورتي
رسمَها فنّانٌ خلَطَ بيني وبين الربّ في الهياكل
فاجأَني عُرْيٌ فادحٌ لم أستطع إخفاءَ عورَتِهِ
 والرّملُ على مرمَى حجرٍ يُصَلّي للفراغ
5
كانت يدايَ مشغولتيْن بتجريب دُخان المَقاهي
أُشَكِّلُه غزالاتٍ ترقصُ بنشوةٍ وهي تعيرُني دَمَها
وجياداً تصعدُ بأجنحةٍ تلُمُّ وَصايا أنبياء من السماء 
قبلَ أن تبتَلّ بالمطر
وجنِّياتٍ يتعرّيْن في المرايا ليَخْطِفْن أطفالاً صالِحين
قبلَ أن تكتَملَ بهِم دورةُ الحُلم
وحُقولاً مُحْتَرِقَة تحت نهر ٍتخثَّرَت مياهُه
مرةً رسَمْتُ مسجداً خالياً في فَلاةٍ فامْتَلأَ عن آخرِه بالجَوْعَى
ورسمتُ مشفَى خافَ منه المرضى
واستراحوا على ظهرِ مقبرةٍ غرَسْتُها بالخطأ بين الحَدائق
وهكذا مضى يومي بين دُخانين فلم أُصِبْ هدفاً
 وأرجأْتُ تفعيلةَ الموتِ لليوم التالي.
...........................
(*) اللوحات، للفنان الليبيّ: عمر جهان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق