الثلاثاء، 2 مايو 2017

 فصل من رواية
(خروف الدنيا)
للمبدع المصريّ: عبد الحكيم حيدر



في يوم ما قلت لنفسي: سأشير إلى الأعور بإصبعي وسط الناس وأقول له: "أنت أعور"، ولكن بعدما كبرت وشِلت حِملين من الأدب والذوق ما عدت أحتمل ذلك، علاوة على أن الأعور لم يعد في زماننا أعورَ، بل يرتدي نظارة ريبان وأنشأ مصنعاً لأنابيب البوتاجاز رغم أنه حاصل على الدكتوراه في الأدب، وسأسميه بركات. بركات رخّص أربعة مسدسات ألماني له ولزوجته (الدكتورة أيضاً) ولابنيه، وعنده كذا حتة أخرى ثقيلة غير مرخصّة مرمية في المصنع في أقبية تحت أرجل الخيل وزكائب العلف. عرفت بركات في عزبة أبو هلال أواخر الثمانينيات أيام كان يكلّمني عن محمد حافظ رجب، وفي يده كتاب مصقول عن ذكريات محمود دياب في الاسماعيلية طفلاً.


كنت أمشي وراء امرأة من "تلا" تشبه قطة، وكثيراً ما كانت تحبّ الوقوف أو الدخول إلى دكاكين الجزّارين. أما الثاني فسأسميه عصمت، برغم أن اسمه ليس عصمت، لكن سأسميه عصمت، لأنه اعتصم بالحزب ولم يفرط فيه أبداً للآن، مع أنه كان يعد ماجستير في رشيد بوجدرة، وأنا للآن لم أقرأ حرفاً واحداً لرشيد بوجدرة، ولا أعرف لماذا، برغم أنني كنت أحب كلام عصمت القليل في الأدب والكتابة.


كان لدى بركات مكتبة مكينة في أبو هلال، وكان جميل يحبّ أن يكتب قصصاً عن إيزيس. كلما سمعت أو قرأت قصة عن إيزيس أحس كأنني في أيام رمضان، أي الأواخر من رمضان وأنا أشم رائحة الفانيليا، وزوجتي وهي تضيفها إلى العجين لعمل أشياء غالباً لا أحبّ أن آكلها إلا بعد العيد بشهر أو أكثر.


لذلك لم أجد روحي في أيّ من قصص جميل، فهل لذلك كفّ جميل عن الكتابة وتفرّغ للجامعة مع فتح باب رزق آخر في معهد مرخصّ للبصريات والتلسكوبات، وإن كان إلى الآن يحب أن تكون له مزرعة للديوك بشرط أن يحضر سُلالاتها بنفسه من انجلترا، وهذا ما أضحك منه بركات في ساعة صفاء وهما بالقرب من أبو الهول بعدما أشار له جميل وقال له: (طلّ يا أخي الجمال كم نحن أضعنا الحضارة)، فرد عليه بركات ضاحكاً: (يا عم كلمني عن البوتاجاز أنا نسيت كتب الحضارة)، فقال له جميل: (وايه أخبار صاحبتك بتاعة الرواية)، فقال له: (بنت كلب).


كان أبو الهول غافياً، والمراكب تأتي محملة بالزهور حتى تصل إلى ما تحت قدميه، والعمّال هناك مع الأحجار، والمراكب تأتي وتروح.


لطالما كان جميل قريباً من بركات، وبعيداً جداً جداً عن عصمت بعد المشرق عن المغرب. كان مفيد كثيراً ما يكون في صفّ بركات، وكثيراً أيضاً ما يكون في صفّ عصمت. الآن مفيد لا يرى عصمت ولا حتى بركات بل يصلّي بالدكاترة  في كلية الألسن كل وقت بعدما ترك الشعر، برغم أنه طبع (على حسابه) ستة دواوين في سنتين كلها عن اليمام والمدى والحبّ المستحيل والسواسن ومانديلا. كنت أتابع المرأة التي تشبه القطة وهي عائدة إلى "تلا" في المغارب بعدما تكون توقفت أمام أكثر من ثلاثة محلات كلها لجزّارين، وأضحك في النادي على سواسن الشاعر مفيد التي لم أرها إلا كغربان أو يمام على أشجار الوحواح أو السنط. حينما أقول لمفيد كلمة الوحواح، يقول لي: (برغم أنك فلاّح مجرم وخطير إلا أن أول الخيط أراه بين يديك مع أنك لا تدري به أو تدري به وتستهبل عامداً، وهذا في حدّ ذاته خطير ومراوغ، وأنك لم تصل إلى الأمان بعد). بعد ربع قرن – الآن – بعدما تفوق ابني في دراسة الطب على ألف زميل له، بكيت لنفسي، خاصة وأن صديقي مجدي يموت.


لا بدّ أن يصفو الإنسان حينما يجلس ويحكي، على الأقل يكون قريباً – إلى حدّ ما  - من صفاء وصمت تلك الشجرة أو ذلك الخزّان المليء بالماء، وبعدما فاض بالماء بدأ يسيل منه خيط ماء رقيق من أعلى فوهته، ويتساقط الماء هادئاً وليناً وسيالاً تحت تلك الشجرة، ومرّ حتى وصل للريحان. ياه هناك نمل قد فحر فحرة تكفي لسقوط بلية من زجاج. واضح أن هناك وليمة، وواضح من صوت مجدي الليلة أنه سيموت قريباً، فكيف سأرى هؤلاء – من كانوا معنا – حينما سأنتقل تاركاً حفرة النمل تلك إلى البحر، أو حينما أنتقل وحدي إلى حفرة في المقابر. أسمع هناك صوت ديك، وأنا لست قريباً من البحر.



هل من اللائق أن يلبس الواحد نظّارة كي يستطيع أن ينول نصيبه من الخروف. خروف الدنيا. مجدي بكى في آخر المكالمة فأبكاني وخاصة حينما أغلق المكالمة على دموعه. خروف العالم لا يشبه رقّة اليمام في الصهد على شجر السنط، ولا يشبه حتى هذا الخروف الذي نراه عادةً في السوق ودائماً ما يكون حزيناً وباكياً كآخر دموع مجدي في الهاتف. هل فعلا أخذ نلسون مانديلا نصيبه من خروف العالم، وهل لو ظلّ خارج السجن لكانت روحه خرجت سالمة كما خرجت. هل ما نريده يشكّلنا أم يشكّل على الأقل شيئاً ما من ملامحنا خاصة ونحن نمدّ يدنا إلى المائدة ونغتصب، قل نغتصب حقوقنا، أو ما نسميه أو ندّعي أنه من حقوقنا، أو نسميه نصيبنا، سواء أكنا بالنظّارة، أو العباءة، ومعنا الطبنجة أو حتى المسدس، أو لم يكن معنا إلا سِواك من أراك وكنا في الصفوف الأولى أو في آخر المائدة. هل للملامح دَخلٌ فيما نريد. هل تستطيع أن تشمّ روح أحد أو مطلب أحد من ملمحه. لماذا هناك أزمنة تمرّ سريعاً برغم قسوتها، وهناك أزمنة تمرّ بطيئة كنملة برغم أننا كنا سعداء فيها.


لا بدّ أن يصفو الواحد كما كان يقول دائماً لمجدي، ولكن مجدي لم يصدق أبداً أنه يعيش صافياً، هل كان مجدي يلمس شيئاً ما من داخله غامضاً كما كان يلمسه من قبل مفيد. مجدي أبكاني الليلة، في ليلة تفوّق ابني، فما معني أن ننول نصيبنا من الخروف، وكبد الخروف نفسه مجرّحة.

v 


كان أكثرهم دقّةً وتحليلاً على الإطلاق هو ممدوح. كان يشبه أرشيفاً – في دولاب الأدب – يمشي على الأرض. كتب ما يوازي تسعة كتب في أدب نجيب محفوظ ولو تركته الظروف لأكمل العشرين، ولو تركه عبد القوي في حاله لملأ المكتبة العربية. يكتب أيضاً في الاستثمار وفي جهود شجرة الدر، وكان في طريقه لإكمال سِفرٍ عن سوزان مبارك لولا الثورة أفقدته شهية إكمال العمل. يؤصّل لكل شيء، فقد ترك في أرشيفٍ كَم مرة سبّ سكران طالع النجوم بعد قرعتَي بوظة في كلّ أدب نجيب محفوظ، وكم امرأة قصّت أظافرها في (الثلاثية). شدّه عبد القوي من يده في المقهي وهما في ساعة شجَن ومكاشفة بعدما ظهرت عليه مؤشرات مرض الكبد وقال له: (وانت خدت إيه من دين أمّ الكتب دي وأنت داخل على الخمسين؟) ابتسم ممدوح وناول عقب السيجارة لفتحة المَبسَم الفضي وقال: (عوائد بسيطة). باغته عبد القوي بسؤال لم يكن يتوقّعه وقال له: (أنت رخّصت سلاح ولا لسه؟) ضحك ممدوح وهو يشدّ أول نفَس من المبسَم وأخذه خياله بعد الضحكة الساخرة لأن يكون له بيت مع قطعة أرض محدودة المساحة في النوبارية، وقال لعبد القوي ضاحكاً: (أنا طموحي كبير لأنني سأبدأ بمدفع روسيّ).


حاول عبد القوي أن يرخّص لممدوح سلاحاً، لكن في كل مرة كان ممدوح يأخذ الأمر من زاوية الدعابة ويضحك، وإن كان ممدوح قد تذكّر ذلك بعد الثورة بشهرين وخاصة حينما لمح تحت طرف جاكت ابنه الذي يعمل بالترجمة في هيئة الاستعلامات طرف مسدس. كان محمود قد عاد بعدما اعتزل السياسة سنوات، وطلب من ممدوح أن يبحث له عن فرصة عمل في هيئة الاستثمار بعدما عانى نفسياً في سنواته الأخيرة من جراء العزلة الاختيارية، لكن عبد القوي قال لممدوح: (العيال دي ما تستاهلش يا أبو الشباب وهترجع تتمنيك تاني). كان ذلك قبل ثورة يناير بسنوات قليلة جداً بعدما عاد محمود ثانية للمقهي متجاوزاً إلى حدّ ما عزلته التي دخل فيها بعد نفوره من كل الأفكار التقدمية التي خاض فيها ونظّر وتحمّل آلامها على لا شيء. محمود كان أكثرهم عزلة وأكثرهم ميلاً للكتابة ومحاولة قنص مخالبها، وكان أيضاً أكثرهم عناداً وصلاحاً، وان كان أقربهم إلى حرير المرض.
...........................
(*) (خروف الدنيا)، للروائيّ المصريّ عبد الحكيم حيدر، في سبيلها للنشر، ولم تصدر  بعد. 
(*) اللوحة، للفنان البريطاني بريتون ريفيري (1840/ 1920)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق