السبت، 29 أبريل 2017

بيير كلوسوفسكي: الماركيز دو ساد والثورة

للمترجمة السعودية: أسماء القناص
مراجعة: محمد عيد إبراهيم


موجز المترجمة:

يعرض الكثير عن تناول الماركيز دو ساد بالرغم من أنه منعطف، شخصية محورية و نقطة ارتكازية مهمة في الفكر الغربي. و على مر السنين، حُرِّمت كتبه، حُظِرَت، و أُتلِفَت و تم دفنه حتى قام السورياليون ببعثه و تنصيبه محررا لهم. توجه ساد بكل حواسه للطبيعة التي لا تعبأ بالأخلاق، تماهى مع كل صور الهتك والعنف، و أكثر السلوكيات انحطاطا وتفسخا. هذا المقال هو احتفاء ومحاولة للكشف عن ساد و الوقوف بوجه كل من حاول طمره و حجبه. ساد لابد أن يخرج، أن يتفجّر كما تفجرت روحه الثائرة. إنه ليس أديبا فقط بل مؤسس لنزعة و صرح فلسفي لا يمكن أن ينهار تحت كل الضغوط لخزله و تشويهه. لقد قلب ساد كل شيء هنا، فضح الثورة وأظهر وجهها الحقيقي.

الإحالة إلى المقالة الأصلية:
Klossowski, Pierre. “Sade My Neighbor” (1991), Northwestern University Press. Sade and the Revolution, 47-66, Translated and with an introduction by Alphonso Lingis.


ساد والثورة

من الجلي أن تندلع الثورة بسبب مجموعة هائلة من المطالب المتناقضة، و إذا تم تحديد القوى النفسية القائمة فبالطبع لن يتحقق احتشادها. إن كل ما حصل كان بسبب نوع من الخلط بين فئتين متباينتين من المطالب التي اتسمت بالطابع التخريبي. هناك، في الواقع، مجموعتان في تواطؤ، فمن جهة هناك الحشد الذي طالب بنظام اجتماعي تكون فكرة العودة إلى الطبيعة والإنسان الغريزي الأول هي جل لبها، و تواجد هؤلاء بشكل واضح لكن لم يتم استقطاب و تمجيد -من قبل جزء كبير من الشعب- إلا “العاديون” هذا الشعب الذي يقبع فعليًّا دون مستوى الإنسان العادي. و هناك فئة أخرى تقوم على مستوى أعلى من الحياة، فئة الطبقات الحاكمة الذين تمكنوا بسبب جُرم هذا المستوى من الظهور بشفافية. هذه الفئة البرجوازية أو التنويريون الأرستقراطيون، الحالمون، أصحاب العقول المنهجية و المتحررون سواء في طريقة تفكيرهم أو حتى في ممارساتهم، قد كانوا قادرين على تشييئ ضمائرهم السيئة. لطالما علم هؤلاء إشكالية أن الأخلاق لم تكن إلا صنيعة أيديهم وأنها إن وجدت فقد وُجدت داخل أنفسهم فقط. و إذا رغِب المُنتمون لأحد الفئات السابقة بإعادة خلق أنفسهم في سياق الاضطرابات الاجتماعية  و محاولة إيجاد حلولهم الخاصة وسط هذه المعمعة ( كما هو الحال مع شامفور) فإن الأخرى، على العكس من ذلك، تطالب قبل كل شيء أن يتم الاعتراف بإشكالياتها كضرورة كونية، هؤلاء ترقبوا الثورة كشيء من الممكن أن يجلب معه إعادة هيكلة شاملة للإنسان. على أية حال هذا هو الوضع مع ساد، ساد الذي كان مهووساً بصورة الفرد الكُلاني، الذي يمتلك حسًا مُختلفًا، حسًا متعدد الأشكال.

هناك في سياق الثورة فترة تسمى بالتجاوزات الأولى للجماهير و خلالها يؤمن المرء بفوقيته و انفتاحه لجميع أنواع المغامرات. هذه المرحلة المؤقتة من الانحدار النفسي تؤدي لانغماس المتحررين بشيء ما، شيء أشبه بالنشوة.

و هناك فرصة لتحليل الأفكار الفردية لهولاء و وضعها موضع التنفيذ، يبدو أن ما نضج في عقولهم يُعزى إلى وجود درجة عالية من الانحلال و التفسخ. و قد توصلوا بشكل فردي على أنهم قادرين على زرع هذا الفكر في أرض خصبة،

إنهم ثمار فاسدة تحاول فصل نفسها عن المجتمع، لكنهم لا يدركون بأنهم سوف يسقطون لأنهم النهاية فقط، نهاية التطور الطويل، نسوا أن الأرض تتلقى البذور فقط و هم ليسوا إلا جزءًا من الدرس الكوني الذي يُعقد للأجيال القادمة. إن حلمهم في ولادة الإنسانية من جديد لتصبح نسخةً مكررة عنهم في تناقض مع الأسس التي يقوم عليها نضجهم و شفافيتهم. مثل هؤلاء تسلقوا أكتاف الآخرين، و مثلهم كانوا فضلات من عملية جماعية سوف تكون بالنهاية قادرة على الوصول إلى مقدار الشفافية ذاتها و من ثم توطيد النسب فيما بينهما.

كما هو الحال الآن، تداخلت قرارات الجماهير الوحشية وغير المتوقعة و تم تجسيد الأقانيم من فصائل جديدة و من ثم الإيمان بها على أنها قوانين و بعد كل هذا تم إفراغ السلطة الدينية والأخلاقية من مضمونها. إن إشكالية هؤلاء الأفراد أنهم مشوشون بشكل واضح وقابعون خارج ذواتهم فقط. في الحقيقة، ارتبط هؤلاء بشكل وثيق مع القيم المقدسة سابقًا و لكن في النهاية بصقوا عليها، لم يكن لتحررهم من معنى إلا على المستوى الذي كان يشغلهم فقط.

والآن بعد أن انقلب العرش و انقلب كل شيء، تُداس رأس الملك المقطوعة في التراب، و تُقال  الكنائس من منصبها و يصبح تدنيس المقدسات هو شغل الجماهير الشاغل، هذه اللاأخلاقية التي نبعت من الجماهير بدت غرائبية بشكل مريب. لقد ظهروا على حقيقتهم فعلاً و من المفارقات أنهم نجوا من الاضمحلال لكنهم لم يستطيعوا الاندماج في عملية إعادة تشكيل أقانيم الشعب صاحب السيادة و الإرادة الكلية و ما إلى ذلك.

سيكون كافياً أن هؤلاء الأفراد خرجوا عن ضرورتهم الأساسية-أمام الناس و النظام- لتدنيس المقدسات و المجازر و الاغتصاب،  هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجرائم و قاموا بتمزيق كل شيء للإنقلاب على الفلاسفة وإشباع رغباتهم المريضة.

يبدو للوهلة الأولى أن هناك مشكلة غير قابلة للحل، فالمرء الذي وصل إلى درجة عالية من الوعي بسبب الاضطرابات الاجتماعية غير قادر تمامًا على جعل هذه القوى تنتفع من شفافيته.

إنه غير قادر على جعل أفراد الجماهير غير المتبلورة و الغنية بالإمكانات تتطابق مع نفسه ولو للحظة واحدة، لذلك يبدو أنه يحتل موقعًا أخلاقيًا متقدمًا على حساب الجماهير الثورية.

من وجهة نظره، إن الجماهير هي الحق ففي كل مرة يأخذ العقل البشري جانبًا ثاقبًا من الفراسة ينطوي على خطر دفع الإنسانية بأكملها إلى النهاية و هذا ما كان ساد يجيده ويتقنه.

و مع ذلك فإن الجماهير على خطأ مُذ تكونت فقط من الأفراد و الفرد يمثل- جوهريًا- النوع البشري بأكمله. و لا يوجد ما يدعو هذا النوع البشري للهروب من المخاطر الكامنة لأجل نجاح فرد واحد.

كلما تفوق الفرد، ركز على الطاقات المنتشرة في عصره و أصبح أكثر خطورة. و لكن كلما ركز على نفسه كانت هذه الطاقات المؤثر الأول على مصيره و أصبح قادرًا على تحرير عصره من هذه الطاقات. جعل ساد من الإجرام الجلي لمعاصريه مصيره الشخصي و أعرب عن رغبته القوية في أن يكفر بنفسه عن القدر بما يتناسب مع الذنب الجماعي الذي استثمره ضميره.

على العكس من ذلك، فإن سان جوست و بونابارت كانا يعرفان كيفية الاضطلاع بكل ما قد راكمه العصر في نفوس أتباعهم. و من وجهة نظر الجماهير فقد كانا عقلانيّين و كانا يعرفان أن أفضل مؤشر لصحة الفرد الذي يتقدم الجماهير هو عزمه على التضحية بهم. و من وجهة النظر نفسها فإن ساد لم يكن إلا رجلًا مريضًا، بعيدًا عن كونه وجد نوعًا من الإشباع في العنف الثوري فإنه لم يكن بعيدًا عن خوض المجازر المقننة للترهيب كصورة كاريكاتورية لنظامه وعالمه. وصف الماركيز دو ساد إقامته خلال فترة سجنه في بيكبو بالكلمات التالية:
كل ما تحتويه الجنة الدنيوية ببساطة هو: منزل جميل، حديقة مُبهرة، مجتمع راق و”العديد من المعجبات، ثم فجأة يوضع هناك -بالضبط تحت نوافذنا- مكان للإعدام  و هنا… وسط هذه الحدائق تُوضع مقابر لكل المقصلات التي تراها حولك. علينا -يا صديقي العزيز- خلال خمسة أيام فقط.. التخلّص من ألف و ثمانمئة إنسان، بما في ذلك ثلث الأسر التعيسة
(29 Brumaire. Year lll)
و كتب لاحقًا:
أنا مريض، أنا معتقل مع هذه المِقصلة الساكنة أمام عيني، إنها تجعلني أعاني مئات المرات أكثر و أقوى من كل مرة رُميت فيها في الباستيل
(2 Pluviose, year lll)
شعر الماركيز دو ساد دائما بحاجة قوية للتقدم في كتاباته، ليس فقط بسبب أنه يمتلك الحق لقول كل شيء، لكن لكي يرتاح ضميره لأنه كذّب الحقائق التي أعلنتها الثورة و أنتج بعد ذلك النسخة الأكثر ضراوة، جوستين.

في الواقع، لا بد أن تُكشف حقيقة الدافع الخفي للجماهير الثورية، و لم يُفضح هذا الدافع في سياقه السياسي أبدًا، حتى عندما انتصرت الجماهير و اقتيدت للموت، غرِقت، شُنقت، أُحرقت، اغتصبت و تمت السخرية منها، لقد فعلت ذلك دائمًا باسم الشعب صاحب السيادة.

دأب ساد طوال حياته على دراسة الطبيعية الإنسانية البربرية ليثبت أن هناك شيئًا واحدًا فقط يهمه: ضرورة استخلاص كل ما يمكن للفرد تقديمه من شر. تزعم الدولة الجمهورية أنها وُجدت من أجل الصالح العام، لكن إذا كان من الواضح أن الدولة لم تٓسُد لأجل الخير؛ فلا أحد يشك في أعماقه أن كل ما قامت به هو تغذية جراثيم الشر تحت ذريعة منع هذه الجراثيم من التفقيس، و يدّعي النظام الإجتماعي الجديد أنه هو بذاته المُنتصر و الغالب على الشر. إن التهديد المستمر يكمن في أعماق هذا النظام، فالشر الساكن فيه لم يندلع لكنه سيفعل في أية لحظة، و هذا ما كان سبب قلق ساد المستمر، فلابد أن يندلع الشر دفعة واحدة و إلى الأبد، لا بد للحشائش الضارة أن تزدهر، حتى يتسنى لأطياف الشر أن تمزقهم وتدمرهم تمامًا. من الضروري حتى يتمكن العالم من تدمير نفسه أن يحكم الشر مرة واحدة و إلى الأبد، و أخيرًا سيجد عقل ساد السلام في ذلك ، لكن ليس هناك من شك في التفكير- ولو للحظة واحدة- في أن هذا السلام مُلطّخ بالشر. يعتبر ساد أن ثورة اليعاقبة ليست إلا منافسًا مَقيتًا يشوه أفكاره و يجبره على التنازل عن مشاريعه، في حين أراد ساد تأسيس ملكوت “الرجل الكلاني” فإن الثورة بالمقابل تود الإعلاء من شأن “الرجل الغريزي “. بسبب هذا الرجل الغريزي فالثورة تحشد كل قواها التي تنتمي للرجل الكلاني و ينبغي أن تساهم في تمدده.

لا يوجد عدو أسوأ للفرد الكلاني من الإله، و إذا اغتِيل الحاكم -المتحدث باسم الإله في أرضه- يُغتال الإله أيضًا، هذا القتل غير الملموس لا يمكن تحصيله إلا بعواقب غير ملموسة، هي: حلول الفرد الكلاني. و هكذا يحمل الفرد الكلاني ختم أفظع الجرائم بكلتا يديه “اغتيال الحاكم،
يكتب ساد هنا :

عند هذه النقطة، تتبادر الأفكار الأكثر غرابة إلى الذهن، لكن هذه الأفكار مسكونة بالجرأة مما يجعلها حقيقية وصحيحة تمامًا”.

إن الأمة التي تبدأ بحكم نفسها كجمهورية سوف تستمر فقط بالفضائل، و من أجل “تحقيق الأجّل، على الفرد أن يبدأ دائما بالأحقر. و لكن هناك أمة قديمة أدى بها اضمحلالها إلى السعي للتحرر من عبودية الحكومة الملكية لأجل تبنّي الحكومة الجمهورية، و لهذا لا يمكن للفرد الاستمرار إلا بالمزيد من الجرائم و الفظاعات؛ سيفعل هذا الفرد ذلك لأنه أولًا مجرم، وثانيًا لأنه يتمنى المرور من الجريمة إلى الفضيلة، من الوحشية إلى السلام. ينبغي عليه أن يسقط في الجمود الذي ستكون نتيجته الحتمية الخراب لا محالة”.
بالنسبة لساد، يمكن أن تكون الثورة التي يخوضها الشعب المنخور والمتهاوي فرصة كبيرة للتجديد، فحين يتم تطهير البلاد من الأرستقراطيين ليس ثمة سبيل للشك في استرداد براءة الطبيعة و تدشين العهد المبارك. و أيضا، من وجهة نظره، ينبغي أن تكون هناك منظومة للحرية و هي موجودة بالفعل، إنها لا شيء أكثر أو أقل من الفساد الملكي.

إن الدول المريضة، المتهاوية، التي وصلت بالفعل إلى مستوىً معين من الإجرام، “سوف تنبذُ بكل شجاعة عبودية الحكم الملكي”.

هذا هو، مستوى الانحلال و الإجرام الذي جلبه سادتها القدماء مما جعلهم قادرين على اغتيالهم بكل دم بارد من أجل تبني الحكم الجمهوري، و اغتيال هؤلاء السادة و الحكام سوف يؤدي إلى اندفاع مستوىً أكبر من الإجرام، سيكون المجتمع ثوريًا في سرِّه لكنه علانية عالق مع الانحلال الأخلاقي للمجتمع الملكي، و من خلال هذا الانحلال سيكتسب الشعب القوة و الطاقة الضرورية واللازمة لاتخاذ القرارات الدموية. و ماذا يعني الفساد إذا لم يكن المرحلة المتقدمة من الكفر -الخروج عن النصرانية- للمجتمع الذي عاصره ساد، لا يمكن كبح الرغبة بممارسة التعسف لهذا يتجذّر الإلحاد أو الشكوكية على الأقل في نفوسهم.

إلى هذا الحد انتشرت الشكوكية الأخلاقية و التحريض على الإلحاد في أرجاء المجتمع الملكي، ووصَل هذا المجتمع إلى مرحلة من الانحلال كالتي حدثت للعلاقات الإقطاعية المُكرسة من قبل التراتبية الثيوقراطية بين السيد و العبد. بالكاد تم كسر هذه التراتبية و بحكم الواقع لقد تم إعادة تأسيس هذه العلاقة الغابرة بين السيد و العبد.

منذ ذلك الحين لم يعد للسيد أي سلطة مطلقة و لكنه لا يزال يمتلك الغرائز لمثل هذه السلطة، ولأن السيد لم يعد لديه أي مقدس، فقد تبنى لغة الحشد و أثبت مجونه، ولأن الحشد اطّلع على أعمال الفلاسفة و قرأ هوبز، دو هولباخ و متريه، و بسبب هذه المغالطة المنطقية التي لا يقبلها العقل فلم يعد أحد يؤمن بالحق الإلهي الذي لطالما سعى إليه لإضفاء الشرعية على ولايته فقط. و إذا لم يكن السيد ملحدًا بصدق، فإن وجوده يكون بمثابة تحد موجه ضد الإله و ضد الشعب في نفس الوقت. أما لو كان ملحدًا فعليًا فسيتخلص من حياة خادمه متى شاء، سيجعله عبدًا، مجرد أداة لمتعته فقط.

لقد جعل السيد الشعب يُدرك أنه قد قتل الإله في عقله فقط، و لذلك لديه كل الصلاحيات لممارسة الجريمة دون أدنى عقاب، و الآن و بعدما مات الإله المرتكز في أعلى الهرم، أعلى مستوى في التراتبية، سيسقط الفرد –  الذي يقبع في المستوى الأدنى – في الرّق والعبودية، وطالما يعيش الإله في ذهنه، سيظل خادمًا، خادمًا بدون سيد، سيصير عبدًا فقط عندما يواجه موت الإله ذهنه، لذلك سيستمر هذا الفرد خاضعًا لشخص واحد “للسيد”.

و بعد أن صدّق الفرد- الذي يكون في المستوى الأدنى من التراتبية- على قتل الإله، فإنه لا يصبح سيدًا إلا بقدر ضئيل و بعدها سيرغب و بشدة في قتل سيده ليكون سيد نفسه.
إن الخادم الذي أصبح عبدًا نتيجة إلحاده أو دَنس سيده يثور في الواقع، ثم في النهاية يقبل فكرة موت الإله. و لكن حينما يواجه سيده في محاكمة، باسم ماذا سيفعل، إذا لم يكن باسم الجريمة؟ يمكنه أن يصبح فقط متواطئًا في ثورة سيّده ضد الإله و يغرق بدوره في الجريمة. من الواضح أنه لا يمكن أن تكون للمحاكمة نتيجة أخرى و العبيد سيشقون طريقهم لاغتصاب السلطة عن طريق قتل سادتهم. على ما يبدو هذه ليست إلا حلقة مفرغة من أطروحة خبيثة تدّعي أن الشعوب التي تخلت عن الحكم الملكي لن تستمر إلا بواسطة الجرائم لأنها بالفعل تقبع في الظلام و الجريمة. و هذا ما تمنى ساد أن يُرفقه في الثورة.

باختصار، لا يمكن أن تبدأ الجمهورية، لأن الثورة لا تكون ثورة إلا بقدر ما في النظام الملكي من تمرد دائم. يمكن للقيم المقدسة أن تداس بالأقدام حينما يكون المرء تحت أقدام فرد آخر. و على العكس من ذلك، لا شك أن المبدأ الثيوقراطي يُشرّح مصطلحات ساد و إلا فماذا تعني كلمة جريمة؟

إعدام الملك، محاكاة لإعدام الإله:

إن قرار إعدام الملك بواسطة الشعب هو المرحلة الأخيرة من عملية طويلة كانت مرحلتها الأولى إعدام الإله بواسطة السيد الفاجر. و بالتالي يصبح إعدام الملك محض محاكاة لموت الإله.

و بعد الحكم على الملك الذي كان إنسانًا حتى تم القضاء على الملكية ، دُعي رجال المعاهدة للنطق بالحكم الأخير ( هل هم مع أم ضد الإدانة بموته؟) ، إن الحكم الذي سيقوم بسحب معظم الأصوات لصالح الإدانة بالموت، لن يكون إلا حلًا وسطاً و تسوية بين وجهات النظر القضائية و السياسية، سيتم التصدي لأوروبا الملكية فقط من قبل بعض المساهمين المنبوذين، سيجرؤون على الصراخ مع دانتون: “نحن لا نريد إدانة الملك، بل نود قتله”.
حتى سان جوست في بادئ الأمر انشغل بغرس هذا الشعور الراسخ -في نفوس الشعب- ضمن حقوقهم، و يؤكد أن إدانة الملك أقل أهمية من مكافحته كعدو لأن المرء لا يستطيع أن يحكم ببراءته. لكن روبسبير أدرك ضرورة خلق مفهوم جديد للقانون العام لتأطير الإشكالية في خطاب مُفحم: ” لا محاكمة ستُجرى هنا، لويس ليس المذنب، و أنتم لستم قضاة، يمكنكم أن تكونوا فقط رجال دولة و ممثلين للوطن، لكن ليس لديكم الحق في إدانة أو تبرئة أي فرد؛ لديكم قدر من الصحة العامة لاتخاذه، عناية وطنية للعمل به. فلو بقي لويس موضوعًا للمحاكمة، قد يُغفر له، ويُبرأ. ما أقوله: إن لويس برىء حتى تتم إدانته. و لكن إذا عُفي عن لويس وبُرّئ فما الذي ستحمله الثورة عندئذ؟
إن كل المدافعين عن الحرية يصبحون مُفترين لو كان لويس بريئًا، و كان المتمردون أصدقاء للحقيقة و مدافعين عن براءة المظلوم… يختم روبسبير “يجب أن يموت لويس من أجل أن تعيش البلاد” عندها يبطل العقد الاجتماعي بين الملك و الشعب، لأنه باع شعبه للطغاة الأجانب.

و منذئذٍ، هناك حرب قائمة بين الناس و الطاغية؛ يجب أن يُدمر الطغاة كما يُدمر الأعداء. هذا هو ما تسعى له الثورة، أن ترجح الكفة لصالح النظام الجمهوري.
لكن هذه الاعتبارات لا تعني بأية حال الدخول في عوالم ساد المظلمة، فحينما يقطع النصل رأس لويس السادس عشر، لا يكون أوغو كابيه أو الخائن هو الذي يموت أمام عينيه، إن هذا الذي يموت أمامه جوزيف دو ميستريه، هذا الدم الذي يُسفك ينتمي لممثل الإله في أرضه ، وبمعنى أعمق، هذا هو دم الإله الذي يرتد على رؤوس الشعب.

أما بالنسبة للثورة المضادة لفلاسفة الكاثوليك أمثال: جوزيف دو مستري، بونالد، مين دو بيران، فقد اعتقد هؤلاء الفلاسفة بأن استشهاد المخلّص لويس السادس عشر هو للتكفير عن خطايا الشعب.

لكن بالنسبة لساد، ففي إعدام الملك انغماس للشعب في الوحشية و الفظاعات، ستنتشر الجريمة، الاغتيالات و سيُقدم الفرد على قتل حتى عائلته و أقربائه. بلا شك، يرى ساد أن هناك قوة قسرية في هذه الوحشية، إنه يود بعد ذلك أن يُستبدل إخاء الإنسان الغريزي بتضامنه مع الجريمة و مع المجتمع الذي لا يمكن أن ينتشر الإخاء فيه لأنه يتحدر من سلالة قابيل.

من مجتمع بلا إله إلى مجتمع بلا جلاد:

تهدف الثورة إلى إذاعة الإخاء و المساواة بين أبناء وطن الأجداد الأم . وطن الأجداد الأم! إنه لتعبير غريب، ينطوي على الألوهية ثنائية الجنس و التي تنقل بطبيعتها الغامضة تعقيد إعدام الملك. تأتى هذا التعبير من ازدواجية الثورة، الازدواجية التي لم يدركها رجال المعاهدة بوضوح، لكنهم أخذوها بعين الاعتبار و ذلك من خلال الاستعاضة عن الوطن الأم بصورة للآب المقدس.

إن العبيد في الثورة- الذين بثورتهم ضد الأسياد تواطؤ مع ثورةٍ ضد الإله ليكونوا سادة بدورهم- يزعمون بتأسيس مجتمع من الأبرياء.

و ليصبحوا أبرياء عليهم أن يكفّروا عن وحشية إعدامهم للملك، إن كل ما أمكنهم القيام به هو دفع الشر إلى حدوده القصوى، و يقول روبسبير في خطابه حول محاكمة الملك:

عندما اضطر الشعب للجوء إلى التمرد دخل في حالة طبيعية فيما يتعلق بالطاغية، فكيف يمكن لهذا الطاغية أن يتذرع بالعقد الاجتماعي بعد أن ألغاه؟

لا يزال للشعب الحفاظ على العقد الإجتماعي متى ما رأى أنه ساري المفعول في ما يقلقه،  لكن يتجلى تأثير التمرد في تحطيم العقد مع الطاغية و إقحامهما في حرب مع أحدهما الآخر. إن المحاكم و الإجراءات القضائية موجودة فقط من أجل أفراد المدينة، و هنا يمكن أن تُرى النقطة الحاسمة في اختلاف ساد و الثورة، ساد والإرهاب، ساد و روبسبير.
أيمكن أن يوجد العقد الاجتماعي من جانب واحد فقط بمجرد انمحاق الطاغية؟ و هل ستستمر المحاكم و الإجراءات القضائية في الوجود لأجل أفراد المدينة؟

يرد ساد: كيف بإمكانكم؟ و قد ثُرتم ضد الظلم؟

إن الظلم يكمن في استبعادكم عن ممارسته. و قد رددتم بظلم في ثورتكم هذه ضد الظلم، قتلتم سادتكم مذ قتلوا بدورهم الإله في أذهانهم، و إذا لم تعودوا للعبودية فإن العدالة بالنسبة لكم- و قد أعطيتم براهين دموية لذلك- تكمن فقط في الممارسة الشائعة للظلم الفردي، كيف تستغيثون، إذا لم يكن للإله على الأقل منظومة معرفية من شأنها أن تضمن لكم التمتع بمزايا التمرد؟ إن كل شيء تشرعون به سوف يحمل من الآن فصاعدًا سمة الاغتيال.

مسعى آخر أيها الفرنسيون لو أردتم أن تصبحوا جمهوريين

الماركيز دو ساد- الفلسفة في المخدع(*)

ولدينا أسباب وجيهة للاعتقاد أن كل ما انبثق من  أدبه و رواياته تجسيد حقيقي لما يقبع في قاع تفكيره (إذا كان لتفكيره قاع) لهذا يجب علينا الانشغال بغرائبية ما يكتبه بدلا من احتجاجات المدنية الجمهورية (التي تم التصديق عليها من قبل السلطات الثورية خلال سنته التاسعة من الحرية)

بالفعل إن الشعار الحماسي : ” مسعى آخر أيها الفرنسيون لو أردتم أن تصبحوا جمهوريين” يفضح المشتبه به و يعطينا لمحة كافية عن النوايا الحقيقية للكاتب.

هناك فصلان في الرواية؛ الأول مخصص للدين، و الثاني للأخلاق. في الفصل الاول، يستخدم ساد حججاً عقلانية إيجابية لتقويض أسس المجتمع المدني، و يسعى لإثبات أن الإيمان بالإله يناسب الحكومة الجمهورية، و يتم وضع القضية في المصطلحات التالية: “يجب أن تُنبذ المسيحية بسبب لاأخلاقية نتائجها، إن الإلحاد وحده يمكن أن يضمن أساساً أخلاقياً للتعليم الوطني.

بدلاً من إرهاق أعضاء أطفالك الصغيرة بالتفاهات الإلهية، يمكن استبدالها بمبادئ اجتماعية ممتازة، و بدلًا من تعليمهم صلوات عقيمة، ادفعهم لتعلم واجباتهم تجاه المجتمع، درّبهم على الاعتزاز بالفضائل التي كنت بالكاد تذكرها في أوقات سابقة، و التي ستكون كافية لإسعادهم دون خرافاتك الدينية. اجعلهم يستشعروا أن السعادة تتمثل في إسعاد الآخرين كما نتمنى لأنفسنا.

إذا أقمت هذه الحقائق على الأوهام المسيحية -كما كنت تفعل بحماقة – بالكاد سوف يكتشف تلاميذك عبثية أسسها و بعدها سيقومون بإسقاط الصرح بأكمله، ثم سيتحولون لقطاع طرق لسبب بسيط و هو أنهم يعتقدون أن الدين – الذي انقلبوا عليه- الذي حظر عليهم أن يكونوا قطاع طرق قد انسحق الآن. إذا جعلتهم يستشعروا ضرورة الفضيلة، لأن سعادتهم تعتمد على ذلك، فسوف يحولهم حب الذات إلى أناس شُرفاء، و هذا القانون الذي يملي عليهم سلوكياتهم سيكون هو الطريقة الأكثر ثباتًا والأسلم للجميع”.

الماركيز دو ساد- الفلسفة في المخدع

هذه هي مبادئ المادية التي تبدو-لأول وهلة – غير قابلة للدحض بعقلانية، و قادرة على توفير الأسس لمجتمع جديد، و بإمكانها إثارة ابتكارات جسورة: كإسقاط منظومة العائلة واعتماد النقابات الحرة و خصوصًا تجنيس الأطفال غير الشرعيين.
أثار ساد كل هذه القضايا ( يمكننا أن نرى هنا نذير بعض أفكار فورييه في الفلانستير أو الكتائبي “إحدى المستعمرات التعاونية) ” في الفصل الثاني المخصص للأخلاق يحرك ساد الجمهوريين بقوله:

بناء على حرية المعتقد و حرية الصحافة يقول المواطنون بعدم منح حرية الأفعال أيضا: “باستثناء الاشتباكات المباشرة مع المبادئ الأساسية للحكومة، فمن المستحيل القول بعدد الجرائم المحدودة التي تستحق العقاب، لأنه لا يكون هناك إلا القليل من الأعمال الإجرامية في المجتمع الذي أُسس على الحرية و المساواة”.

الماركيز دو ساد- الفلسفة في المخدع

و أخيرًا، هل يمكن للسعادة الفردية أن تتحقق في تقديم السعادة للآخرين كما نرغب لأنفسنا- كما ادعت الأخلاق الإلحادية؟

إن الموضوع ليس على الإطلاق أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا” يجيب الفصل الثاني على الفور من خلال بلورة النتائج الأولى لأخلاق الملحد، “لأننا في تحد لكل قوانين الطبيعة، فالعلم هو الصوت الوحيد الذي ينبغي أن يُوجه كل سلوكياتنا” ف.م دو ساد

يجب علينا إقامة مجتمع للنساء من أجل الرجال و مجتمع للرجال من أجل النساء- والهدف من ذلك هو ملء الأماكن العامة بالدعارة الوطنية. إقامة مجتمع من الأطفال؟ للتأكد من إمكانية إتاحة اللواط. القضاء على منظومة العائلة؟ بالتأكيد و لكن مع الاستثناء الذي يقودنا لسفاح القربى. مجتمع الثروة؟ من خلال السرقات فقط،  “بأي حق يتم تكبيله – و هو الذي لا يمتلك شيئًا- بواسطة اتفاق يحمي فقط من يملكون كل شيء؟” ف.م دو ساد

عاقِب الفرد المهمل بما يكفي لسماحه بأن يُسرق، و لكن لا تنادي بأي عقوبة للسرقة، انظر فيما إذا ما كان التزامك لا يجيز هذا القانون، و عما إذا كان هو – الذي ارتكب السرقة – لم يفعل ذلك إلا لأنه يتناغم مع أقدس نزعات الطبيعة، و ذلك من خلال الحفاظ على وجوده الخاص بغض النظر عن الحساب” ف.م دو ساد

و لكن إذا لم تكن هناك عقوبة للافتراء، السرقة، الاغتصاب، سفاح القربى، الخيانة الزوجية، اللواط، في الحكم الجمهوري، فالجريمة الوحيدة التي لا تسوغها هذه الحكومة هي القتل.

و قد أُشير إلى أن هناك بعض الفضائل التي يستحيل ممارستها من قبل بعض الأشخاص، كما أن هناك بعض الإصلاحات التي لا تتفق مع بعض الدساتير. و الآن، ألن تدفع جورك إلى أقصى حدوده من خلال استخدامك القانون لضرب فرد غير قادر للركوع للقانون؟من هذه المبادئ الأولى تنطلق التالية، إن المرء ليشعر بضرورة المرونة و الخفة في القوانين، وخصوصًا من أجل التخلص – و للأبد – من فظاعة عقوبة الإعدام بما أن القانون، والموضوعية لا ينسجمان مع الشهوات التي تسوغ القتل. إن الفرد يتلقى انطباعاته من الطبيعة التي بمقدورها أن تغفر له هذه الأفعال، و على العكس من ذلك، فالقانون، يُعارض دائما باسم الطبيعة و هو الذي لا يتلقى شيئا منها. لا يمكن ان يُمنح القانون السلطة العليا ليسمح لنفسه بالتطرف والغلو، إن القانون ليس لديه الدوافع ذاتها، لذا لا يمكنه أن يحصل على نفس الحقوق” ف.م دو ساد

إن الحكومة التي انبثقت من موت الإله و استمرت بالوجود عن طريق القتل قد فقدت حق الإدانة بالموت و بالتالي لن تستطيع النطق بالحكم ضد أي جريمة أخرى؛ “الجمهورية مُهددة – من قبل الطغاة المحيطين بها- بشكل لانهائي من الخارج، و لن تحافظ على نفسها إلا بالحرب و ليس هناك ما هو أدنى أخلاقية من الحرب” ف.م دو ساد
هل القتل جريمة سياسية؟ على العكس من ذلك، يجب علينا أن نعترف أنه للأسف مجرد واحدة من السياسات و أعظم أدوات السياسة، أوَ ليس بفضل جرائم القتل فرنسا حرة اليوم؟

أي دراسة، أي علم، لديه احتياج كبير لدعم القتلة أكثر من ذلك الذي يميل فقط للخداع والذي ستكون نهايته الوحيدة: امتداد دولة على حساب الأخرى؟ إنه لجهل غريب، فالفرد الذي يُعلَّم علانية فنون القتل و يكافئ أبرع القتلة على أعمالهم، يعاقبهم فقط لسبب فعلوه بعيدًا عن أعدائهم”  ف.م دو ساد

أنا أمنحك العفو” قالها لويس الخامس عشر لشاروليه الذي قتل شخصًا ما لمحض التسلية ويكمل: “لكني أمنحك العفو أيضًا عن كل فرد ستقتله”، “إن كل الأسس التي قام عليها القانون ضد القتلة ربما كان متواجدًا في تعاليم السامية” ف.م دو ساد
و نحن نرى ساد هنا يسترجع المبادئ التي تحكم الحياة في الملكية القديمة، و التي بسبب فجورها فقط  قُدست الجمهورية:

كيف يمكن للفرد أن يكون قادرًا على شرح ذلك تحت ظرف لاأخلاقي؟ حسنًا.. من الضروري أن يكون الفرد أخلاقيًا، إنه شيء جيد جدًا لكنه ليس… تمردًا.. إنه ليس على الإطلاق حالة أخلاقية. و لذلك يجب أن يكون الفرد تحت ظل الجمهورية بشكل دائم، و بالتالي فإن هذا ليس أقل عبثية من خطورة أولئك الذين يهدفون و بشكل دائم للتقويض اللاأخلاقي للمنظومة القائمة، و السبب وراء ذلك هو من أجل أن يتساموا لمرتبة الكائنات الأخلاقية، ففي حالة الفرد الأخلاقي تكون الملكية واحدة من حالات الهدوء و السلام، أما بالنسبة للفرد اللاأخلاقي فهي إحدى هذه الاضطرابات التي تدفعه للتمرد”.
ف.م  دو ساد

جزع ساد في بداية عمله أن الفرد مع الإلحاد سيغرس في الاطفال مبادئ اجتماعية ممتازة، ثم فضح العواقب -واحدة تلو الأخرى – التي تتبع هذه المبادئ: سوف يكون المجتمع في حالة حركة دائمة، حالة من الفجور الدائم، و هذا ما يقوده حتميًا إلى الدمار التام.

و بعبارة أخرى، فإن رؤية المجتمع لحالة الفجور الدائم تقدم نفسها على أنها تجسيد للمدينة الفاضلة للشر، و تٓناقُض هذه المدينة الفاضلة يتوافق مع واقع مجتمعنا المعاصر،
و لكن في حين يساهم الحس الطوباوي – بالإمكانيات البشرية- في إحراز التقدم الظاهري، يساهم العقل السادي في الانحدار. خلافًا ليوتوبيا الخير التي تكون خطيئتها الوحيدة : ترك حقائق الشر خارج المساءلة، فإن يوتوبيا الشر بأكملها تُستبعد أيضًا من المساءلة، ليس بسبب إمكانياتها في الخير، و لكن بسبب عامل مهم ألا و هو الضجر،

لأنه غالبًا ما كان الضجر يولِّد الشر، و حين يندفع الشر يبقى الضجر في ازدياد كالاشمئزاز الذي يتبع الجريمة و خصوصًا عندما تكون قد ارتكبت لغرض ارتكاب الجريمة فقط.

يُبقي ساد فقط على حقائق الشر في حين يحرص على قمع طابعها الزمني، و بعد ذلك يملأ الشر وحده كل لحظة من لحظات الحياة الاجتماعية و يدمر كل أخرى مستقبلية.

إن يوتوبيا المجتمع الذي يكون في حالة جريمة دائمة قد انبثقت نتيجة ضجر ساد و اشمئزازه، و إذا أخذنا هذه المصطلحات حرفيًا، و وضعت ايديولوجيات الشر موضع التنفيذ، فقد ينغمس هذا المجتمع الطوباوي حتميًا في الضجر و الاشمئزاز، لا يمكن أن يكون هناك علاج ضد تضخم الاشمئزاز و الضجر سوى التعطش إلى مزيد من الجرائم اللانهائية.

و لنا أن نتخيل هنا، أن هناك نوعًا من المؤامرة الأخلاقية وراء الثورة، و كان الهدف منها تعطيل الإنسانية التي فقدت الإحساس بضرورتها الاجتماعية لتعي مقدار ذنبها. استخدمت هذه المؤامرة طريقتين: طريقة للعامة و قد استُخدمت بواسطة جوزيف دو ميتريه في علم اجتماع الخطيئة الأصلية، و طريقة معقدة بشكل لانهائي و مقصورة على فئة معينة و هي ارتداء قناع الإلحاد في مكافحة الإلحاد، و تتحدث هذه الطريقة بلغة الشكوكية الأخلاقية لأجل مكافحة الشكوكية الأخلاقية و التنقيب على الأسباب التي بإمكانها أن تعطي إثباتًا قاطعًا لبطلانها.

كلما قرأنا عمل ساد ازددنا ارتباكًا، إننا نميل للتساؤل عما إذا كان ساد لم يرغب في التشكيك بالمبادئ الخالدة عام 1789م، و إذا ما كان هذا السيد العظيم- السابق ذكره- لم يعتنق فلسفة التنوير من أجل فضح ظلمة أساساته، و هنا نجد مرة أخرى الأسئلة التي تم طرحها في البداية، فمن ناحية، يمكن أن نأخذ ساد بشكل حرفي، و في هذه الحالة يبدو لنا أنه من أكثر الظواهر الثانوية بحثًا و دلالة لعملية واسعة من التحلل الاجتماعي و إعادة التشكيل.

سوف يكون بعد ذلك كخُرّاج على جسد المريض الذي يعتقد أنه مفوض للحديث باسم الجسد بأكمله، و ستكون عدميته السياسية مجرد حلقة مريضة في عملية جماعية، سيكون دفاعه عن الجريمة الخالصة، و دعوته إلى المثابرة في الجريمة، مجرد محاولة لعرقلة غريزة السياسة، هذه الغريزة الجماعية التي تتمثل بحفظ الذات.

مع هذا كله سوف يقوم الشعب بإبادة من يعارضونهم برضا عميق، إن الجماعية تبحث دائمًا عن ما هو ضار لها ( حتى و إن لم تكن مُصيبة) ، و لهذا يمكن مع أكبر قدر من الإدانة- أن تتسبب بالخلط بين القسوة و العدالة دون أدنى تأنيب ضمير. يمكن أن تُخترَع طقوس تنادي بالتحرّر من القسوة عند سفح سِقالة (هيكل يستخدم للإعدام أمام الملأ) و هكذا يتفنن الشعب في طرق إخفاء شكل القسوة و آثارها.

أما البديل الآخر فهو أن نتوقف عند بعض المقاطع المعينة لساد والتي تخلق هذا النوع من التصريح:

“لا تدعوا أحدًا يقاضيني لكوني مبدعًا خطيرًا، لا تدعوا أحدًا- و من خلال كتاباتي- يقول إني أسعى للفظ الندم من قلوب الأشرار، إن أخلاقي الإنسانية شريرة لأنها تزيد من ولع الأشرار للجريمة، و أنا أصرح رسميًا و الآن بأني لا أملك أيًا من هذه النوايا الضارة، أنا استعرضت فقط الأفكار التي مذ بدأت أُفكر وجدت طريقها داخلي، و التي كان التعبير عنها و إدراكها نوعًا من الاستبداد الشائن الذي قد عورض لقرون لا تحصى. لذلك فإن قرار قراءتي غير صائب لكل أولئك المعرضين للفساد من أية فكرة، و سيكون الوضع أسوأ لدى من لا يلتصقون إلا بوجهات النظر الفلسفية الضارة، أولئك المعرضين للانحراف بواسطة كل شيء، و من يعرف، لربما تسمموا بقراءة سينيكا و شارون لا أنا . في الحقيقة أنا لا أكلمهم، أنا أتوجه فقط نحو القادرين على سماعي و القادرين على قراءتي دون أي خطر”ف.م دو ساد

تتجلى هنا درجة عليا من الوعي، و الذي بإمكانه أن يشهد عملية التحلل و إعادة التشكيل بأكملها. و أخيرًا، في حين الاعتراف بدور ساد كجلاد، يجب علينا أن ننسب إليه أيضًا فضل تنديد قوى الظلام المتنكرة في زي القيم الاجتماعية. و هكذا يتم تمويه قوى الظلام و دفعها إلى الرقص في جولة جهنمية حول الفراغ، إن ساد لا يخشى التورط مع هذه القوى لكنه يراقصها لتمزيق الأقنعة التي وضعتها الثورة و جعلت هذه القوى الشريرة تتجسد على هيئة أبناء الوطن بكل براءة.



(*) يشير ساد هنا أنه بعد سقوط الملكية تبقى خطوة واحدة ينبغي اتخاذها نحو الحرية ألا وهي القضاء على الدين/ (المترجمة).
نيكولا شامفور: كاتب فرنسي كان سكرتيرًا لأخت لويس السادس عشر و انتحر بعد اندلاع الثورة الفرنسية بخمس سنوات
جورج دانتون: أحد زعماء الثورة الفرنسية، كان له دور بارز في سقوط الملكية و  تم إعدامه عام 1793
أوغو كابيه: أول ملوك فرنسا من سلالة كابتيون التي حكمت فرنسا حتى الإطاحة بالملك لويس فيليب الأول و قيام الجمهورية الفرنسية الثانية عام 1848
فورييه: اشتهر بكونه الداعي إلى تقسيم المجتمعات إلى تجمعات مستقلة تسمى فلنستير
الفلانستير: خلية اجتماعية أوسع من الأسرة و أضيق من الدولة الهدف منها الإشباع الجنسي لجميع أنواع الشهوات

الجمعة، 28 أبريل 2017

سبع قصائد

شعر: ليوبولدو ماريا بانيرو
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



ترسيمُ قبلة

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ
حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ 

سأقتلكِ غداً قُبيلَ الفجرِ   
حينَ نرقدُ بالفِراشِ، ضائعينَ في الأحلامِ
ويبدو أن الجِماعَ أو المنيّ على شفتَيكِ
كأنهُ قُبلةٌ أو عناقٌ، أو عِرفانٌ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ
حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ 
مستَحضراً لي موتَكِ مُسوَّغاً بمنقارهِ،
كأنهُ قُبلةٌ أو عِرفانٌ    
أو صلاةٌ لن يقطعَها الليلُ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ
حينَ يعوي الكلبُ الثالثُ بالساعةِ التاسعةِ
جنبَ الشجرةِ العاشرةِ جرداءِ الورقِ والنُّسغِ
لا يعلمُ أحدٌ كيفَ لا تزالُ منتصبةً

سأقتلكِ غداً حينَ تسقطُ
الورقةُ الثالثةُ عشرة على الأرضِ الشقيّةِ
وتنقلبينَ أنتِ ذاتَكِ الورقةَ أو الطائرَ الغِرِّيدَ الشاحبَ
وهو يعودُ إلى سِرّهِ الليليّ البعيدِ

سأقتلكِ غداً، وقد تطلبينَ السّماحَ
لأجلِ لُحمتكِ الفاحشةِ، جنسكِ الداكنِ
فنتوءكِ سيكونُ حديدةً لامعةُ
وفي القبرِ سيهلّ السُّلوانُ بديلاً عن القُبلةِ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ
سترينَ كم أنتِ جميلةٌ بعدَ موتكِ
والأزهارُ تُغطّيكِ، ذارعاكِ معقودتانِ
شفتاكِ مُحكَمتانِ كأنكِ في صلاةٍ 
أو تضرعينَ إليّ بكِلمةٍ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ،
ومن الجِنانِ، كما تمضي الأسطورةُ،
تتوسّلينَ نيابةً عنّي وعن خلاصي

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ
حينَ ترينَ ملاكاً يتدبّرُ خِنجراً
كلّهُ عارٍ وصامتٌ عندَ فِراشِكِ المُصفَرّ

سأقتلكِ غداً، سترينَ أنكِ تقذفينَ
حينَ يدخلُ ذلكَ الباردُ بينَ فَخِذَيكِ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ 
غداً سأقتلكِ لأحبّ طيفَكِ
وأجري إلى قبركِ كلّ ليلةٍ حيثُ
سُعارُ الجنسِ وأُحجِياتُ المنيّ
تشتعلُ من جديدٍ في قَضيبيّ الرَّجَّاجِ،
فتستحيلُ شاهدةُ قبركِ إلى فِراشٍ بدائيٍّ   
حيثُ يحلمُ المرءُ بالأربابِ والأشجارِ والأمهاتِ
حيثُ يلعبُ المرءُ بالنَّردِ ليلاً

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ 
حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ. 



النهاية

دخّنتُ حياتي، وما تبقّى من اللهبِ المفاجئ،
كانَ أعقاباً، تثيرُ  الرثاءَ، عميقاً، بذاكرتي:
كائناتٌ أخفقَت أن تراني، نِسوةٌ شَفِيفاتٌ،
دخانٌ في الأفمامِ، وفي كلّ ناحيةٍ،
صمتٌ، كالكفَن،
لمِا لم أُرِد أن يكونَ، حياةٌ
كالضبابِ، أو  سَفَرِ  السّفينِ على أمواجٍ خاملةٍ، أو  أولادٍ
يلبسونَ كابَ بحّارةٍ وقد تعلّموا خطأً.
لم يكن ثمةَ أحدٌ بالحُفرةِ، السّجنُ
كانَ خاوياً، وأفكّرُ
أن أندفعَ إلى هتكِ البابِ، أخيراً،
أنزعَ القُفلَ في النهايةِ، وأنضَمّ،
كَم كانت النسورُ عديمةَ الجدوى، والمِزلاجُ نفسهُ
جعلني أُغرَمُ بالجُزُر، تائقاً إلى العدَمِ،
كي أكتشفَ فحَسبُ
النورَ، ذلكَ الزاهدَ المبتسمَ.


عشتُ فراغاتِ الحياةِ

عشتُ فراغاتِ الحياةِ
التباساتِها، نسياناتِها، غباواتِها الأبديةَ،
وأتذكّرُ  سِرّها الوحشيّ
مِجَسَّها وهو  يهدهدُ بطني ورِدفَيّ
وقدَمَيّ المحمومتَين بالطيرانِ.
عشتُ غِواياتها، عشتُ خطاياها
تلكَ التي لن يغفرَها لنا أحدٌ.


غموض الشعر

تعلّمتُ أن أرى غموضَ الشعرِ
الغموضَ الذي يُسمّي نفسَه
غوايةً يشكّلُها العدمُ
في صمودٍ على بشارةٍ من سَمَكِ الزمنِ
بفمهِ الأدرَدِ
كاشفاً عن مَنبتِ القصيدةِ
في العدَمِ الطافي أمامَ القصيدةِ
وهو  ما يتميّز  عن العدَم
الذي تغرّدُ بهِ القصيدةُ
وهو  ما يتميّز  عن العدَم
الذي تنقضي بهِ القصيدةُ.


الشاهد، هنا، جيفة
الشاهدُ، هنا، جيفةٌ:

بعدَما تلهثُ القصيدةُ، وتموتُ
يختبرُ  الهُراءَ الذي كُتِبَ
أو ما تمنّى أنهُ كُتِبَ
كنظيرٍ للعدمِ في النهايةِ.



يطمعُ في الغلّ، بل الضغينة

لا شيءَ نقيٌّ كالضّغينةِ
ينبوعٌ ينهمرُ  كصفراءِ الكَبدِ الذهبيةِ
حيثُ تنبعثُ آلافٌ من الأزهارِ 
تشطأُ من أعشابِ العدمِ الوحشيةِ
آلافٌ من الزنابقِ المرتجّةِ
كألفِ كذبةٍ.
وإني شَبيهٌ بمَن كذبَ.
§       

ولأني كما هو  معروفٌ
بالشعرِ  وحسبُ
أمضي كي أموتَ على شفتيكَ
كالصهيلِ وقد فترَ 
في نهايةِ الطِرادِ. 


تقويم "ييتس**"
قد يحميني اللهُ
بأكثرَ  مما لدى اسمهِ
قد يحميني اللهُ
أن أطعنَ في السنّ
ويتزلّفُ مني الجميعُ يناديني الجميعُ
بالفارغِ من اسمهِ.

فمَن أنا؟ مَن أنا؟
لم يكن بمقدوري أن أفعلَ
غيرَ  ما كانَ
ــــ لأن غرامي كانَ
أن أُردّدَ أغنيتي الكاملةَ ــــ
كمجنونٍ مطلَق.

أضرعُ إليكَ
حتى لو  أمهَلَني الزمنُ لأموتَ
واسمي مَسطورٌ
على شاهدةِ قبري، آملُ
أن يقولوا ذاتَ يومٍ
فوقَ جثتي الباردةِ:
ــــ لم يكن معطوباً!
...........................
(*) ليوبولدو  ماريا بانيرو Leopoldo María Panero (1948/ 2014) شاعر إسبانيّ، والده وأخوه شاعران. سجنه فرانكو لانضمامه إلى أحزاب متطرفة. أدمن كافّة المخدرات، من الكحول حتى الهيروين. وظلّ يُعالج من الاضطراب النفسي في مصحّات طيلة حياته. حاول الانتحار مرتين. لم يتزوج. أصدر قرابة 20 كتاباً، بين الشعر  والقصة والمقالات، منها: النهر  الأخير  معاً، الرجل الأخير، ضدّ إسبانيا وقصائد عن لاحبّ، نظرية الخوف، قصائد عن الانتحار، هيروين وقصائد أخرى، رقصة الموت. (م)
(**) وليم بتلر ييتس: شاعر  ومسرحيّ أيرلنديّ (1865/ 1939)، نال جائزة نوبل 1923. وقصيدة بانيرو هنا نوع من المعارضة لقصيدة ييتس (ضراعة للسنّ الطاعن). (م)
(***) اللوحة، للفنان الإسبانيّ: دينو فالس.