الأربعاء، 8 فبراير 2017

الحركية الشعرية


تزفيتان تودوروف
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



فرضت الشعرية بوعي نظرية الخطاب الأدبي وجودها في أوربا الغربية مع بداية الستينيات، بتأثيرات عدة: ظهور اتجاهات معينة للنقد الأدبي بين الحربين العالميتين (الشكلانية الروسية، العلمية الأدبية الألمانية بمنحاها "التشكلي"، أفكار شعراء بعد الرمزية أمثال فاليري في فرنسا، الجناح التنظيري لجماعة النقد الجديد بالولايات المتحدة الخ)، فضلا عن: اللغويات البنيوية وعلم الأنثربولوجيا، وآثار الأدب الحديث التي انشغلت من قبل بكشف آلياتها الخاصة أكثر وأكثر.
بفضل وجود الشعرية، لم يعد ممكناً اعتبار الأدب مجرد وسيط شفيف لفهم أشياء أخرى (الأفكار، المجتمع، المؤلف): وهو قسم جديد من حقيقة دخلت دنيا المعرفة، لذلك تعتبر مساهمة الشعرية من هذا المنظور محققة. عموما، نشأت مشكلات عديدة منذ ولادتها رغم عدم استفهام النقاد عن نتائج هذه الشعرية ولا صيغها الإجرائية، مع حتمية مثل هذا النقاش عن حدودها.
يمكن للمرء القول إن الشعرية حددت منطقتها بسلسلة من ثلاثة أحكام:
الأول والأهم، أن الشعرية تتخذ موقعها ضد التأويل، أو كما يقول أحدنا في الدراسات الأدبية ضد "النقد"، وليس هذا أكثر من ظهور ملموس لانقسام تخصصي عام. يقوم التأويل بإخضاع كل الأعمال الفردية التي تبتدع الأدب، أما الشعرية فقوانين عامة تحكم وظيفة وصيغ الأجناس الأدبية (ما يستلزم وجود مثل هذه القوانين).
في الحقيقة، يستحيل نقاش الأدب دون انحراف عن الشعرية، عن نظرية عامة للخطاب الأدبي "الفروقات بين المؤلفين أو المراحل المنهمكة في الشعرية وتلك الرافضة فعل ذلك (وعددها هائل) فهي لا تتضح بمصطلحات وجود أو غياب كنظرية عامة، بل تفضل في الحقيقة من يقبل أو يرفض أن يأخذ إحداها في الحسبان". ولدى الممارسة قد يختلط نوعان من المواقف (النظرية والتأويل) في دراسة معينة، لكن تمييز المبدأ ليس أقل بساطة أو ضرورية عن التأسيس.
الثاني، أن الشعرية تخطط موضوعها بنمط خاص للنص أو الخطاب الأدبي، الأحرى عملية إنتاجه وتلقيه. في الحديث عن تصنيف النظم التي تتعامل مع الفن، يقترح رينيه باسيرو التقسيم التالي: الشعرية أو دراسة الإنتاج، ثم علوم الفن وعلم الأعمال الفنية الخاصة بالشعرية والموسيقية الخ، ثم جماليات المعنى الصارم أو دراسة التلقي (تقسيم ثلاثي يعود إلى خطابة أرسطو). تُعنى الشعرية في المقام الأول بالبُنى اللفظية التي نعثر عليها في النصوص، تؤسس لرابطة مع اللغويات التي تعتبر البُنى اللفظية موضوعا لها بالتساوي، رغم أنها رؤية مختلفة تماماً.
ثالثا، يشكل الخطاب الأدبي موضوع الشعرية تمييزاً له عن أنواع الخطاب الأدبية الأخرى. وهو ما يبرر دراسة وصف لغويّ ذائع لجوهر (أو وظيفة) الشعرية (الأدبية): مثل الانحراف المنهجي عن النموذج، أو حيلة نظم القيود التكميلية على منطوقات لغوية (قواعد التطابق، الخ).
يمكن بالتأكيد أن نعترض على هذه النقاط الثلاثة، فنحدد تخطيط الشعرية.
نبدأ من ثالثا، فلا يتضح أن أحداً يمكنه وصف "الأدب" بخصائص لغوية (ذائعة). قد نفعل ذلك فنوجد فقط نظاماً هزيلاً لظاهرة أدبية. والشاهد أنه على المستوى اللغوي، يتشارك العمل الأدبي بمختلف أجناسه في أنماط معينة من الخطاب (غير الأدبي). يشيع بنص الشعر خصائص شكلية كما بأناشيد الأطفال والتراتيل أو الخطاب ما وراء الاستعاري. بينما نص السرد مشابه غالباً لكِتاب التاريخ والمقال الصحفي والمقال الفلسفي. أما الدراما فتتخذ صيغة الحوار.
ماذا يربط الأجناس الأدبية المختلفة في "أدب" واحد ليس له خصالها اللغوية، بل وظيفتها بالحياة الاجتماعية. "الأدب" من ناحية اجتماعية وتاريخية محدد الوجود بالمقارنة مع أجناسه، وهو ما نعرفه بفضيلة الخصائص البنيوية. لكن لو لم يتعامل المرء مع الخطاب نفسه من قرن زمني أو من بلد لآخر، فأنّى له أن يعبر عن أحد نظريات الخطاب الأدبي؟
أما ثانياً، فيمكن للمرء أن يباشر نقداً مشابهاً للحدود الموضوعية. هناك فرق بالطبع بين تجميع حقائق عن حياة كاتب ودراسة أوزان قصائده، لكن نعرف على الأقل من همبولت أن المرء لا يستطيع إدراك اللغة عندما يتناولها في حالة منتج منته دون تتبع عملية إنتاجه. يصح الشيء نفسه على النصوص، فيمكن لأحدنا دراسة عملية بنائها بمصطلحات المبادئ التوليدية.
يلحظ بول كلي في يومياته أن "نشوء عمل يعتبر حركة شكلية تحدد الأساسي فيه". بينما للقارئ دور هام بشكل مشابه: فلا يمكن وصف نص دون حسبان العَقد الذي يوثّقه مع قارئه، العَقد الذي يرمز إليه بتصنيف النص النوعي، ما قد يقبله القارئ المتعين أو يرفضه مبدئيا. من هنا تنساب حركية تيار الشعرية تجاه "التداولية".
بالنظر إلى أولاً، تتعقد المسألة. فقد تتوازى نظرية للخطاب الأدبي بصرامة مع نظرية للخطاب السياسي أو حتى نظرية للخطاب اليومي (لدي مقدرة بسيطة على تناول إنتاجه وتمييز منطوقاته). وليست الحال هكذا مع الأدب: فالأعمال كائنة، وعلينا تفهمها، حتى لو كانت هذه الأعمال "محتملة" أو "واقعية".
لأسباب من هذا النوع، لا يمكن للشعرية الهرب من أشباهها مع الوصف والتاريخ، فهي أقوى من النظم الأخرى. قد لا يكون الأدب نفسه ظاهرة محددة بل الدراسات الأدبية، فالأدب يشكّل "جسداً" (مقابل الخطاب بشكل عام)، "أثراً باقياً". عبّر إخنباوم عن هذا جيدا 1925 حين كتب "تطالب النظرية بحق أن تصير تاريخاً".
من جهتي على الأقل، يأمل المرء في فهم الحركية العشرية بحيث لا تؤدي إلى التخلّي أقلّ من الاختفاء، بل يقينا إلى استبدال الحدود التي لن تُهدد وجودها كثيراً (تتعلق المعرفة الإيجابية التي تستحضرها بالخطاب الأدبي) قدر استقلالها. وقد وضعت هذه الحدود الجديدة من قبل نظرية عامة للخطاب، أو النزعة التداولية، أو دراسة التاريخ. لكن أليس تحولها دواما يكون علامة فُضلى على العافية؟
..............................
(*) تزفيتان تودوروف (1939ـ2017) من أبرز نقاد الحداثة ومؤسسي جماعة "النقد الجديد" التي برز دورها في ترسيخ المنهج البنيوي بمفاهيم جديدة عن النص والتأويل والنقد والشعرية. ولد في بلغاريا، من كتبه: "نظرية الأدب"، "مدخل إلى الأدب العجائبي"، "نظريات الرمز"، "الرمزية والتأويل"، "أجناس الخطاب"، "باختين، المبدأ الحواري"، "فتح أمريكا"، "نقد النقد"، "مفهوم الأدب".
(*) المقال من مجلة "Poetics" عدد 8، 1979.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق