الاثنين، 13 فبراير 2017

الهجرة في الأدب العربي المعاصر : مع الباحث التونسي عمر الشارني

 حاوره:    سعيد    بوخليط  


أصدرت دار النشر الفرنسية لارماتان، في إطار سلسلة “نقدات أدبية” التي يشرف عليها ” ماغي ألبير ” كتاب، للباحث التونسي عمر الشارني تحت عنوان:
Figures de l émigration dans la littérature arabe contemporaine , Le moi assiège.
وقد جاء العمل في 195 صفحة من القطع المتوسط، بمقدمة وثلاثة فصول ثم خاتمة وملحقين.
ولد عمر الشارني بقرية صغيرة تسمى ” نيبير” بالشمال الغربي من تونس، حيث كانت دراساته الابتدائية. وتابع دراسته العليا بجامعة تونس والسوربون، وكذا المدرسة العليا “سان كلود” بباريس، ثم عاد إلى تونس كأستاذ للفلسفة بمجموعة من مدارسها وذلك بين سنوات 1972 ـ 1974، وهي نفس الفترة التي اعتقل فيها وتم تقديمه إلى المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة بتهمة الانتماء إلى تنظيم غير شرعي، حيث حكم عليه بسنة ونصف غير نافذة. طرد من سلك الوظيفة العمومية، بالتالي فقد منصبه كأستاذ للفلسفة. بعد ذلك اشتغل في وظائف مؤقتة كاختصاصي نفسي واجتماعي إلى غاية سنة 1981، حيث عاد لتدريس الفلسفة بالثانويات التونسية إلى لحظة انتقاله سنة 1982 قصد تدريس الفلسفة بالمدرسة العليا بمدينة نواكشوط الموريتانية وذلك لمدة ثلاث سنوات. شهر يوليوز 1993 ناقش أطروحته لنيل الدكتوراه بجامعة باريس الأولى وحصل على أهلية الإشراف بالجامعة نفسها، كما كان رئيسا لقسم الفلسفة بالجامعة التونسية. وذلك من سنة 1985 إلى 1998. ليعود مرة ثانية إلى باريس كأستاذ جامعي للفلسفة. على امتداد هذا المشوار النضالي، أصدر عمر الشارني مجموعة من الكتابات بالفرنسية والعربية وبعض الترجمات، نذكر منها بالأخص ترجمته للعمل الديكارتي الشهير “خطاب في المنهج” وذلك سنة 1987، وكتاب كلود برنار “مدخل إلى دراسة الطب التجريب 1981 ثم “المبادئ الأساسية للفلسفة ” لصاحبه “جورج بوليتزر”.1980. أما كتاباته بالفرنسية فقد جاءت على الشكل التالي:
ـ Epistemologie de la transparence / paris; vrin (1998)
ـ Bufon; la nature et son histoire; paris; PUF (1998).
ـ Diederot; L ordre et le devenir; Geneve (2002)
بمناسبة إصداره الجديد والذي تناول موضوعة الهجرة في الأدب العربي المعاصر، كان لنا معه هذا الحوار:
1 ـ نتوخى منكم تقريبنا من الأطروحة المركزية لهذا العمل؟
ج: يتعلق الأمر بوصف سيرورة تطور الوعي العربي من خلال إدراك هذا الوعي لذاته وللآخر، أوما نسميه اتفاقا بالغرب. هذه المقاربة الوصفية أظهرت، بأن هذه السيرورة اقتضت ثلاث مراحل:
ـ ما أسميه بـ “النفس الجميلة”: وهي مراحل تميزت بنرجسية قوية، ومغالاة في تقييم الأنا وتحقير الأخر، حيث يتم التعبير عن ذلك بالصيغة التالية: أنا الأفضل فيما الآخرون مجرد نسخة باهتة عني أو مشوهة.
ـ فترة الوعي الشقي: من أهم سماتها الحزن والسوداوية والتشكي مع إسقاط دواعي ذلك على الأخر: أنا شقي لأن هذا الأخر سلبني واستعمرني واضطهدني، إلخ. هذه الوضعية أصبحت دراماتيكية حين وصل هذا الموقف إلى حدود “احتقار الذات” (ما يسميه النقاد العرب بـ “جلد الذات”) وكراهية الآخر من خلال الحكم عليه بكونه أصل هذه المأساة.
ـ الوعي النقدي: حيث أعيد تنظيم أو ترتيب عناصر الأنا، وتحولت كراهية الآخر إلى تصالح معه. لذلك انقسمت الأنا إلى لحظتين: لحظه الخير ولحظة الشر. الخطاب المميز لهذه المرحلة يفصح عن نفسه على الشكل التالي: أنا شقي ووحدي أتحمل مسؤولية ذلك… يجب إذن الخروج من هذه الوضعية بجعل العناصر الإيجابية تحارب العناصر السلبية.
‏الشيء المشترك بين كل هذه ‏المراحل هو ظهور الذات باعتبارها خاضعة لقوة تهيمن عليها وتحاصرها ثم تقوم بمجادلتها ولا يتأتى لها التخلص منها. التاريخ في الأولى، والاستعمار في الثانية، والفساد السياسي في المرحلة الثالثة. تظهر إذن الذات العربية، كذات خاضعة ومحاصرة، تواجه صعوبات كثيرة من أجل التحرر المفترض.
2 ـ ما هو السياق العام لمقاربتكم هاته؟
‏ج: يتموقع هذا العمل كما تفصح عن ذلك المقدمة في إطار نقاش يشغل الساحة العربية منذ خمسين سنه، يتمحور حول ما يصطلح عليه بـ “الاستشراق” أنا من الذين يعتقدون بأن الأمر يتعلق هنا بنقاش زائف أو “تلهية” تم فرضها على الثقافة العربية من أجل تمويهها عن الاشتغال بذاتها، وبقضاياها الحقيقية. الشيء الوحيد الذي نصنعه لهذا الاستشراق في اعتقادي، يتمثل في تقديم الشكر له على عناء الاهتمام بثقافتنا، وكونه وضعنا على سكة البحث. ما يجب، بشكل حقيقي على كل مفكر حيال شعبه ووطنه هو: النقد. بالتأكيد، مثل ذلك النقاش الزائف عمل على حجزنا داخل وضعية شاذة أي وضعية تمجيد الذات (الفخر على طريقة المتنبي). ما أسميه النرجسية الطفولية عند العرب، وهي المسؤولة في حقيقة الأمر عن توقفهم. لأنه ليس هناك من تقدم إلا بتجاوز الذات بالنقد والنقد الذاتي المستمرين. ألتقي في هذا الإطار مع عبد الله العروي، والذي أهدي إليه ضمنيا هذا العمل (الإهداء الصريح بالعربية الكلاسيكية موجه إلى أبي) لذلك أرفقت العمل برسالة من هذا المفكر المغربي، وجهها إلي بباريس حينما كنت طالبا (35 سنة تقريبا) كجواب على رسالة بعثتها له بخصوص كتابه حول الإيديولوجية العربية المعاصرة.
3 ‏ ـ لماذا موضوع الهجرة؟
‏ج: أنا بدوري مهاجر! ينطوي بلا شك هذا العمل على كثير من الحنين. لقد كتبته في مرحلة حزينة جدا: من جهة غزو العراق، ومن جهة ثانية متاعب صحية حالت بيني وبين قضاء العطلة الصيفية في بلدي. لكن بالتأكيد توجد معطيات موضوعية أكثر حتمية. بشكل عام، لاحظت بأن الهجرة لعبت في الفن الروائي الدور الذي يسميه علم البصريات بـ "الغرفه المظلمة"، حيت يلقي الخارج بصورة مرشحة ومختارة منذ مونتسكيو وديدرو على الأقل، فإن الشيء الدخيل قدم وسيلة فعالة من أجل تطوير فن النقد، أي أعطى وسيلة أدبية لرؤية وفحص المجتمع من الخارج: نظارات مضخمة تمكننا من أن نرى عن بعد الشيء الذي لا يمكننا رؤيته عن قرب أو من داخل المجتمع. وضعية تخلص الذات من ثقل السوسيوثقافي الذي يحكمها، ويمكنها من محاورة ثقافتها بطريقة “موضوعية” نسبيا، ثم ترى ما تملكه برؤية برانية كما لو كان شيئا مغايرا وغريبا. كل الفن الرواني، سيرتكز إذن على هذا الذهاب والإياب بين ما هو داخلي وخارجي: نوع من السفر داخل الذات نفسها ولكن كآخر. وقد وجدت بأن الروائية أحلام مستغانمي تجيد هذا النوع من السفر، لذلك فإن بطلها لم يتوقف عن السفر من جهة إلى أخرى، داخل الرواية بين قسطنطين وباريس… بالنسبة لنا، نحن المغاربيين فإن الهجرة إلى أوروبا تشكل جزءا من تاريخنا: ‏قد تكون ثقافية (الطلبة) أو اقتصادية (العمال والأطر)، أو سياسية (المعارضون). ذلك ما سميته في عملي “أوجه الهجرة” وقد خصصت فصلا لكل واحد من هذه الأنواع. يمكن أن نضيف عنصرا في غاية الأهمية: ‏كل حركاتنا المعارضة منذ حركات التحرر الوطنية نشأت من خلال الهجرة وبشكل خاص في فرنسا.
4 ـ أنتم أستاذ للفلسفة وهنا تشتغلون على الأدب؟
‏ج: صحيح أنا مؤرخ للفلسفة والعلوم. لكن، رغم ذلك لا أحس بأي غربة عن الفن والأدب بشكل خاص. في الواقع منذ شبابي، استهواني الأدب العربي وخاصة القصيدة الكلاسيكية والرواية اللبنانية والمصرية. وقد توجهت إلى الأدب، حتى اليوم الذي تعرفت في قسم الباكالوريا على صوفيا، أقصد الفلسفة. ثم عاودني هذا العشق للأدب العربي أثناء الهجرة. وأتذكر، أنه حينما كنت قادما لكي أشغل منصبي الجامعي في “كليرمون فيران” قضيت مسافة السفر في قراءة رواية الطيب الصالح. حديثا، خصصت في كتابي حول ديدرو Diedrot فصلين أساسين للفن. وفي العمل الحالي، فتحت نقاشا مع سارتر حول مفهومه للأدب. لاأنزاح في الحقيقة عن ميداني، مادمت أتكلم دائما عن الفن ك”فيلسوف” وحينما يتعلق الأمر بالأدب فإن العمق هو الذي يهمني أكثر من الشكل.
5ـ ما دواعي اختياركم لنماذج: توفيق الحكيم والطيب الصالح وأحلام مستغانمي؟
ج: لأنها بدت لي تمثل المراحل الثلاثة لتطور الوعي العربي المعاصر: الحكيم نموذج للنرجسية العربية والشرقية، أما الطيب الصالح فإنه يمثل أدب النكسة أو ما اصطلحت عليه بـ “الوعي الشقي” والتعبير هنا ل“هيجل”، أدب ذات مرهقة ومستسلمة لمآسيها، إنها تتلاشى وبالكاد تحافظ على القدرة بأن تصرخ: النجدة! النجدة في حين تجسد كتابات أحلام مستغانمي صحوة الوعي العربي وزوال الوهم. نظرة جديدة، تقوم موضوعيا على “الخراب الجميل” الذي يظهره اليوم العالم العربي ثم تحمل أعباء تراجيديا هذا الماضي وكذا الحاضر بتوجيه المسؤولية للفاعلين أنفسهم، للشعوب العربية التي بإمكانها وحدها تغيير تاريخها: لا يد سواء ل” لله” أو “الغرب” في إخفاقاتنا. وحدنا مذنبون وفقط نحن مسؤولون عن ذلك؟.
6 ـ هل يتعلق الأمر هنا بعمل مستمر للمفهوم أو نصوص للاستراحة؟ وفي إطار أي مشروع؟
ج: هما معا، عمل للاستراحة حيث جاء في فترة أصبت فيها بإحباط شديد (المرض من جهة وغزو العراق من جهة ثانية) وغير قادر على مواصلة أبحاثي. إنه وفاء دائم، اتجاه الثقافة العربية (ما دام أنني قضيت حياتي في الاشتغال على ثقافة أخرى)، وكذا بلدي (نظرا لهجرتي). رد فعل كذلك على غزو العراق: عوض التوجه إلى الجبهة قصد القتال أو النزول إلى الشارع فإن المثقف عليه أن يكتب، أفضل ما يمكنه القيام به. مع ذلك فإن اشتغال المفهوم ليس غائبا هنا، خاصة إذا أمكننا تحديد أنفسنا كما هو الشأن معي ك”ميكانيكي للمفاهيم”. وسيلاحظ القارئ بأنني أسست في هذا العمل آلة مفهومية صغيرة تشتغل بشكل مترابط وفعال جدا. بطبيعة الحال، لا تتوفر على ضخامة الآلات الأخرى التي شيدتها في مؤلفاتي السابقة ولكن أعتقد بأنها تشكل نواة يمكن أن تتطور يوما في إطار مشروع أكثر ضخامة.
7 ـ هل هناك مشروع وراء كل ذلك؟ وما طبيعته؟
ج: كما قلت، هناك مشروع؟ هل هو مشروع شخصي؟ لا يهم. ليس وضعي داخل الثقافة العربية بـ “المتخصص”. فالأمر لا ينطبق علي، إنه بالأحرى وضع مناضل ينطوي ضمن مشروع جماعي حيث يقوم هنا على قدر ما يمكنه ذلك. المشروع الكبير، الذي أحمله على عاتقي وكما قلت سابقا يقوم على النقد والنقد الذاتي. لا زلنا نعيش على نرجسية الحكيم، نواصل دائما الاعتقاد بأننا الأفضل ونتوفر على أحسن المسيرين السياسيين وأعظم المفكرين وأجود الأطباء  إلخ، والحال أنه لدينا أسوأ ما في هذا العالم. إذا أمكن اليوم للثقافة العربية وهي في الأساس نواة هاته الدراسة، أن تزعزع بقوة حكم القيمة هذا فلا محالة قد حققت ثورة صغيرة. إنه مشروع جيل بأكمله. يجب أن نقول ونكرر ذلك بأننا الأوطان الأكثر تخلفا في العالم ولا زلنا نعاني من الاحتلال والأسوأ من ذلك أن نستعمر من جديد، وبأن جامعتنا لا قيمة لها، وأنظمتنا تستمد مشروعيتها من القمع. نحن وباء على العالم فيما يخص قضايا الحضارة والأسئلة المتعلقة بالمرأة أو الحريات السياسية والفردية إلخ. بطبيعة الحال، في ذلك شيء من الكاريكاتورية لكننا بالتأكيد، نحتاج إلى هذا الخطاب حتى نستيقظ من سباتنا النرجسي وننسلخ عن طفولتنا ونأخذ التاريخ بجدية لكي نسجل حضورنا بوجه آخر عن كوننا مجرد ضحايا.
8 ‏ـ إصدارك الحالي هو صرخة إذن ضد كل أشكال التوتاليتارية؟ أليس كذلك ؟
ج: نعم بطبيعة الحال وخاصة تلك التي نعانيها عن قرب. أعتقد بأن العالم بأكمله سيؤاخذ اليوم على المفكرين العرب كونهم لم يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الإطار وكما أوضحت سالفا، فإن الوطنية والصراع المفترض ضد الاستشراق لعبا دورا مؤسفا بهذا الصدد. اليوم كذلك، يعتقد الكثير بأن انتقاد مجتمعه وثقافته يعني القيام بلعبة العدو. بالعكس أظن أن أفضل جواب سريع هو أن تقوم بذلك. أحيي بطبيعة الحال القلة الموجودة بتونس أوالجزائر وبيروت وفي مدن عربية أخرى وهي تقاوم بشدة بنيات الفكر القديم. وفي نفس الوقت أتأسف، كون أغلب الزملاء الجامعيين وكذا الذين يزعمون كونهم فنانين وصحافيين إلخ…، يسقطون في النرجسية والمداهنة الذاتية. بطبيعة الحال يمكن أن نتفهم الظروف الصعبة التي يوجد فيها كل واحد من هؤلاء. لكن أعتقد بصدق، بأن هناك اليوم حيز واسع للفكر المتحرر وخاصة في بلدان المغرب وهو ضرورة حيوية بالنسبة لمجتمعنا وكذا ثقافتنا. القوى العربية في حاجة إلى غذاء روحي ومتعطشة للحرية. وحدهم المفكرون المتحررون يمكنهم بلوغ ذلك. أستحضر هنا مثلا نجاح أحلام مستغانمي مما يجعلني أقدر هذه السيدة. لقد تجرأت على القيام بالخطوة الجريئة فوصلت إلى المجد. ويمكنها أن تقدم لنا درسا وهي تقول ‏انظروا إن ذلك ممكنا. يجب فقط أن نتجاسر.
9 ـ كل ذلك يحتم مرة أخرى مجابهة المثقفين العرب للبنيات القديمة؟
ج: ما أتيت على قوله، إجابة في جزء على هذا السؤال. ولكن أضيف شيئين، أو ثلاثة أشياء. توجد اليوم بنيات بدائية لأنه لم يكن عندنا مفكرين حقيقيين. أعتقد اليوم، ومنذ قدمت إلى فرنسا بأن التمدرس وبالرغم من الامتيازات المهمة (خاصة في تونس والمغرب) كان في مجموعه فشلا. هناك مقطع رائع في رواية الطيب الصالح وقد ترجمته حرفيا في مؤلفي، يحكي كيف أنه في بداية الاستعمار ‏كان الناس يخفون أطفالهم عن شرطة المستعمر، لكي لا يأخذوهم إلى المدرسة. وكما، سيذكر هذا الكاتب ‏فإن المدرسة في نسختها الحديثة جاءتنا مع القوات الاستعمارية. أفسر في كتابي، أن الفشل كان مرسوما منذ البداية، لم يكن للمدرسة الاستعمارية من هدف سوى تكوين مجموعة من الموظفين يعملون مستقبلا لصالح أجهزة الدولة الاستعمارية (بطبيعة الحال لا يمنعنا ذلك من التعبير عن امتناننا العميق لأساتذة الجمهورية، وهم ليسوا لامن السوريون أو المدارس الكبيرة، وقد أتوا عندنا كي يبعثوا بنا نحن أبناء الفلاحين إلى مؤسسات كتلك. هذا درس كبير في السخاء). فقط استمرت الدولة الوطنية في هذا الاندفاع ‏لأنها لم تكن تتوخى شخصيات مفكرة بل مجموعة من الناسخين. كل تذبذب إذن للفكر تم خنقه في المهد لأنه ينطوي على الخطر، اليوم أعتقد بأن الأشياء تغيرت إلى حد ما ومن جهة أخرى فإن ‏المهام المفروضة على المفكر العربي ليست ضخمة. لا نطلب منه أن يكون هيغل أو ماركس بل فقط أن يفتح عينيه ويصف ماهو موجود. أما موليير فقد طور مجتمعه والإنسانية بأن عمل على وصف ما هو مثير للسخرية بطريقة تثير الضحك. في حين، أن ديدرو أكد بأنه يكفي أن تكون حقيقيا، ‏يكفي أن تكون نفسك. ستقول لي: من السهل قول ذلك والصعوبة تكمن أصلا في الفعل، وقد تعودنا منذ الطفولة أن نكون الآخر، وأن نعيش بالآخرين ونتمرأى من خلال عيونهم… أتفق معك في ذلك. كل ما سيمكنني من الرهان على ما قلت والذي هو رهاننا اليوم: ‏الصراع لكي تكون أنت نفسك أو كما قال الإغريق “ما نحن عليه” للوصول إلى “الرشد”على حد تعبير كانط.
10 ـ ما هو الدور يمكن أن يأخذه اليوم كل تفكير في العالم من خلال الماورائي؟
ج: بالتأكيد لأن لم نتوفر على مفكرين، ‏نعاين اليوم هذه العودة المذهلة وغير المتوقعة لما سميته بالتفكير الماورائي. هذا يطرح، مسألة تثبيت الحداثة في بلداننا كما يظهر كذلك وبطريقة بديهية فشل المدرسة عندنا. هناك،لا توازن فظيع تقوم عليه مجتمعاتنا ‏لقد استوردنا الأجهزة الأكثر تكلفة و التقنيات المتطورة جدا، ‏لكننا نواصل التفكير مثل أفراد القرون الوسطى، بل ولم نخرج أبدا من العصر الوسيط. وكان،للا ستعمار دور في ذلك. باستثناء، تونس والمغرب وشينا ما لبنان، ‏فتد أبقى على الشعوب بشكل مقصود داخل بناءاتها البدائية. تصور معي، أنه في سنوات السبعينات ادعى أحد “العلماء” من بلد خليجيى ـ وقد تحول لحكاية ساخرةـ بقدرته على البرهنة دلائليا على أن الشمس تدور حول الأرض.نعم دون تبسم ! وقد قامت الدول الوطنية بالباقي: انظر اليوم إلى كارثة العراق، البنيات الوحيدة التي تظهر هي البنيات العشائرية. هذا ما يفسر دون تبرير موقف مفكرين أمثال علال الفاسي والذين أكدوا على أن ما سميته بالفكر الماورائي كان الوسيلة الوحيدة التي تمكن القوى العربية من الدفاع عن ذاتها.
11 ـ الكتابة منفى في عالم تحكمه البربرية من كل جانب؟ أي دور للأدب؟.
ج: لا أعتقد بأن الأدب يمكن أن يكون منفى، بل على العكس من ذلك الأدب ارتباط والتقاء وتواصل. سارتر، والذي ناقشت موقفه في خلاصة كتابي، كان محقا كليا حينما قال بأنه دعوة ‏للحرية، لحرية أخرى، كما قلت سابقا هناك تعطش كبير في بلداننا للمعرفة والحرية. طلبتي في فرنسا ليسوا أكتر عشقا ولا تطلعا للمعرفة من طلبتي في تونس أو موريتانيا، ربما هم أ كثر حرية. بالتالي، يمكن للأدب أن يقوم بالشيء الكثير في بلداننا. أقول جيدا الأدب وليس الفلسفة أو العلم، لأنه كما يقول فولتير: “الآداب تغذي النفس وتسليها”، وهو بالطبع ما نحتاجه اليوم لأننا شعوب مجروحة نفسيتها ومصدومة ذاتها. وكما قالت مستغانمي، يحتاج الوعي الممزق إلى العزاء مثل أطفال كبار. العرب اليوم هم أطفال العالم ! لكنهم أطفال أشقياء، يحتاجون للبكاء وإلى تراجيديات كبيرة مثل “سوفوكليس ” و “إيسخيلوس”. تأمل معي نجاح رواية الطيب صالح! وكذا شهرة القصيدة الفلسطينية؟ والحال أن العكس هو ما نشاهده في الساحة العربية أي غلبة ثقافة التسلية واللهو. لأننا نتوخى نسيان الجروح: نعمل على إضحاك الناس. في هذا السياق يجسد المسرح التونسي باستثناء المسرح الجديد أفضل نموذج لهذه الثقافة. الضحك مثل الدموع شأن للأطفال، لكن في حين البكاء يصنع أطفالا مسؤولين وأكثر عمقا وانشغالا، فإن الضحك لا ينتج إلا أطفالا مدللين أي سطحيين وغير مسؤولين.
12 ـ لقد عبرتم لي في كثير من رسائلكم عن تقديركم الكبير للفكر المغربي، ماذا يمكنكم أن تضيفوا في هذا الإطار؟
ج: نعم أعتز كثيرا بالفكر المغربي وإن كنت لا أعرف منه إلا القليل. بالتأكيد قرأت أهم كتابات عبد الله العروي بالفرنسية والعربية، وتبادلت معه بعض الرسائل منها تلك التي ذيلت بها العمل الحالي. لكن ذلك يرجع إلى حقبة بعيدة حينما كنت طالبا في السوريون. في جميع الأحوال، فإن عملي يتموقع ضمن الإشكالية التي طرحها، بل أعتبره حوارا مع العروي وهو الحوار الذي توقف لسنوات كثيرة نتيجة تماطل ذاتي وكذا مجموعة من الاقتضاءات الموضوعية. قرأت كذلك مؤلفات السي عابد الجابري، وكانت لي به معرفة شخصية، كما احتفظت له دائما باحترام عميق. أعرف كذلك زملائي في حقل الفلسفة وقد التقيت ببعض منهم في ندوات في تونس. لقد أحلت على كتاباتهم المتعلقة بـ: غاستون باشلار. في البحث الذي قدمته بديجون Dijon والذي قُمتَ بترجمته إلى العربية. أعتقد بأنه في المغرب، تطرح مجموعة من الأسئلة الحقيقية وبشكل سليم وبجدية وصبر وكذا ثقابة فكر، الشيء الذي يوفر العناصر الضرورية للتفكير. في الوقت ذاته الذي أثني فيه على هؤلاء، أشير إلى أنه يوجد بالمغرب نشاط متعلق بالنشر وهو ما تفتقده البلدان المغاربية الأخرى، مما يشجع المفكرين والباحثين. باختصار يمثل المغرب أملا يجب العناية به وتطويره لأنه أساسي بالنسبة لكل العرب.
13 ـ نريد في الأخير أن تطلع القارئ على مشاريعك المستقبلية؟
ج: مشاريعي بالأساس “أكاديمية” سأواصل القيام بمجموعة من الأبحاث في تاريخ وفلسفة العلوم. وأنجز بالعمل الذي أشتغل عليه الآن، سلسلة من أربعة أجزاء حول الانتقال في الثقافة الكلاسيكية من الفكر المفهومي إلى الحسي. كما أفكر كذلك في تكريس سنة أخرى لكتابة عمل حول أحد فلاسفة القرن السابع عشر، وكتابة عمل شخصي أظن بأنه سيستغرقني طويلا. مع ذلك لن أنسى ثقافتنا العربية.
(1) ـ الإشارة هنا إلى:
Amor cherni: Bachelard chez les arabes, in Bachelard dans le monde. Peuf 2000.pp115/ 135ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق