الجمعة، 30 ديسمبر 2016

ثلاث قصائد

ثلاث قصائد

للشاعر الأمريكيّ: وليم بوروز
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



(1)        صلاة الشكر
(إلى جون ديلنجر[1] وآمل أن يكون حياً، 
عيد الشكر[2] 28 نوفمبر 1986)

الشكرُ على الديكِ الروميّ[3] البريّ
وحَمامِ المسافرِ، المُعدّ
للتبرّزِ عبرَ أحشاءَ
أمريكيةٍ عَفِيةٍ.

الشكرُ على قارّةٍ للسَلبِ
والسمّ.

الشكرُ على الهنودِ لتزويدنا
باليَسيرِ من التحدّي
والخَطرِ.

الشكرُ على القَطيعِ الرحيبِ من ثيرانِ البايزن[4]
لنقتلَهُ ونسلخَهُ مخلِّفينَ
الجِيفَ لتتعَفّنَ.

الشكرُ على سَخاءِ الذئابِ
والقَيّوطِ[5].

الشكرُ على الحلمِ الأمريكيّ،
للبَسطِ والتزييفِ حتى
لتسطعَ عبرهُ الأكاذيبُ حاسرةَ الرأسِ.

الشكرُ على الكو كلكس كلان[6].

على القُضاةِ قَتلَةِ الزنوجِ،
لتلَمُّسِ شَجّ الرؤوسِ.

على المُحتَشماتِ الذاهباتِ إلى الكنائسِ،
بأوجهٍ شرّيرةٍ
ساديةٍ، مُغيرةٍ، ممرورةٍ.

الشكرُ على ملصقاتِ "اقتل
شاذّاً، لأجلِ خاطرِ المسيحِ".

الشكرُ على إيدز المعاملِ[7].

الشكرُ على الحظرِ
محاربةِ المخدّراتِ.

الشكرُ على بلادٍ
لا تدَع أحداً يتدبّر
أمرَه.

الشكرُ على أمّةِ المُخبرينَ.

الشكرُ، نعم، على كافّةِ
الذكرياتِ ـ طيب، أَرِنا
ذراعَيكَ! 

أنتَ دائماً في صُداعٍ
أنتَ دائماً مزعجٌ.

الشكرُ على الخيانةِ العُظمى
والأخيرةِ، لأحلامِ البشريةِ
العُظمى والأخيرةِ.
..............................................



(2)        (من غير  عنوان)

مع أني سكنتُ مدينةَ أحلامكَ
كمصباحٍ مقلوبٍ
طلبتهُ ولم أجده
في الأسواقِ المقفرةِ  ما وراءَ الصمتِ العميمِ
في البلادِ المشغولةِ بالجرادِ ظُهراً ــ
غيرَ  أنّ ــ
حكايةُ الظلالِ على جدراننا
رحلاتُ الإوزّ البريّ في رائحةِ الصباحِ العفنةِ
الوردُ ونوافيرُ الفضةِ في دخانِ الأحلامِ.
..............................................



ألحانُ البابون الأزرق

أنا قردُ بابونَ
أنا قردُ بابونَ أزرقُ
أنا قردُ بابونَ حقيقيٌّ
وإني لملحوظٌ
كقردِ بابونَ زاعقٍ!

أحبّ قردَ البابون
وهو  ينبحُ في القمرِ
في شهرِ  يونيو  المخبولِ
الشهرِ  الأكثرِ  خَبلاً
من بينها جميعاً!

طلبَ مني أن أغترفَ
من بحيرةِ ضوءِ القمرِ
ثُمّتَ، عاجلاً،
رحتُ في إغماءٍ
من منتصفِ الليلِ حتى الظهيرةِ
رحتُ في إغماءٍ، إغماءٍ، إغماء!

لأني قردُ بابونَ
قردُ بابونَ صغيرٌ  
أضعفُ قردِ بابونَ
من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

رحتُ في إغماءٍ
بينَ ذراعَيْ هذا الأبلهِ
ثُمّتَ، على كَثيبٍ،
استَدرتُ، ومنحتهُ
نفسي، نفسي، نفسي!

لأني قردُ بابونَ
قد تُطعِمهُ بمِلعقةٍ
أضعفُ قردِ بابونَ
من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

أنا قردُ بابونَ نحيفٌ
أنا قردُ بابونَ مصغَّرٌ 
بهذا الطولِ فقط!
أكثرُ  قردِ بابونَ أملسَ
أكثرُ  قردِ بابونَ وديعٍ
معَ أني أكثرُ  قردِ بابونَ أنيقٍ
من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

أنا أَوهَنُ قردِ بابونَ
أنا أمكرُ  قردِ بابونَ
أنا أميَلُ قردِ بابونَ
مع أني أحلَى قردِ بابونَ
من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

مِزاجي ليسَ حادّاً
ولا أقاتلُ أحداً
لا دافعَ عندي كي أقاتلَ
مُطلقاً أبداً!

أنا قردُ بابونَ
لا أنضَمّ إلى شِرذِمةٍ
لا إليكَ ولا  للجميع!
إزاءَ هجومكَ
أرقدُ منبَسِطاً على ظهري
أو أُثبِّتُ نفسي
على حائطٍ، أيّ حائطٍ،
أيّ حائطٍ بالٍ،
من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

لأني أرشَقُ قردِ بابونَ
أكثرُ قردِ بابونَ مغلوبٍ
مع أني أكثرُ  قردِ بابونَ بارعٍ
 من بينها جميعاً، جميعاً، جميعاً!

...........................
(*) وليم بوروزWilliam S. Burroughs(1914/ 1997). روائيّ وقاصّ وفنان وناقد، وأحياناً شاعر، له قصائد متفرقة، من أبرز مبدعي جماعة "البيت" Beat Generation، طليعيّ ما بعد حداثيّ، انتهاكيّ ساخر، من رواياته: غداءٌ عارٍ، شاذ، مدمن، المتوحشون: كتاب الموتى، ثلاثية ليل أحمر: مدن الليل الأحمر/ محلّة الطرق الميتة/ الأراضي الغربية، ميناء القديسين. ومن مجموعاته القصصية: مترو أنفاق أبيض، شارع المصادفة، الخطايا السبع المميتة، قطة بالداخل. (م)
(*) اللوحتان، للشاعر نفسه: وليم بوروز. 





[1]John Dillinger: لصّ بنوك مات في الثلاثينيات بأمريكا، ثمة نظريات للمؤامرة تقول إنه وضع تحت الحماية القانونية ولا يزال حياً. (م)
[2]Thanksgiving: عيد الشكر، يُعقد في الخميس الرابع من نوفمبر، وهو عيد علمانيّ لشكر الربّ على النعم. (م)
[3] من شعائر عيد الشكر تناول الديوك الرومية. (م)
[4]Bison: ثيران أمريكية صديقة الهنود الأصليين، قُتل منها 50 مليوناً لمجرد اللعب والمزاح، بعد فتح أمريكا. (م)
[5]Coyote: نوع من الذئاب البرية، يعيش شماليّ أمريكا، وفي أمريكا اللاتينية يسمونه الثعلب الإسبانيّ. (م)
[6]KKK: جماعة أمريكية عنصرية، كانت تُحرق السود على الصلبان. (م)
[7]AIDS: ثمة شائعات أن الإيدز من تصنيع المخابرات الأمريكية. (م) 

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

حريمي : ها رون الرشيد (1)


بقلم: فاطمة المرنيسي
ترجمة : سعيد بوخليط
http://saidboukhlet.com


كلما فكرت في الحريم، يحلق خيالي اتجاه القرون الأولى من تاريخ الإسلام. بعد موت الرسول محمد في السنة الحادية عشرة هجرية (632 ميلادية). تعاقبت دولتان على حكم العالم الإسلامي : الأمويون (750-661) وعاصمتهم دمشق، ثم الدولة العباسية (1258-750) التي اختارت بغداد مركزا لحكمها. لا يقل، عن 51 خليفة حكموا خلال هذه الحقبة الزمانية، إلا أن الاسم الذي يقفز إلى ذهني من بينهم جميعا، هو هارون الرشيد. اسم، جعل العرب يحملون منذ القرن التاسع. يتمثل أحد عوامل ذلك، في مزجه السحري بين خصائص فيزيائية وذهنية، اتصف بها : كان هارون الرشيد شابا وسيما،رياضيا، ذكيا، وأيضا مثقفا جدا، له طموحات كبيرة على المستوى العسكري. تميز، بخبرة حربية وقدرة عظيمة على ممارسة شؤون الحكم. لكن، مع كل ذلك، يبدو أنه كان عاشقا كبيرا. لم يزعجه الوقوف على انكساراته، حينما يتحول إلى عاشق. يمارس حبه، بنفس التوقد الذي يظهره على جبهات المعارك، ويعبر إراديا عن الأحاسيس التي تلهمها إياه عشيقاته. بل ذهب به الأمر غاية الاعتراف، بأن رجلا مغرما قد يجازف، بافتقاد سلطته أمام النساء. هذا الاعتراف بالضعف، يعد أحد أكبر مفاتنه. من منكم، لم يصبه رعب التحول إلى موضوع للسخرية، حينما يكشف عن حبه لامرأة، لا تبادله أي شعور. ثم، يقف بطريقة متضايقة متجمدا خلف تجاوزاته ؟ هارون الرشيد، لم يرهبه الوقوع في مثل هاته الوضعيات الحساسة.
تظهر حكاية استلهمته في كتاب "ألف ليلة وليلة"، مثل زوج تعيس خدعته وخانته جارية  خائنة، قامت بإغراء أحد موسيقييه الخصوصيين،كان يمر في الشارع. هكذا دعته للالتحاق بها، ولتسريع الأمور ألقت له بسلم من نافذة القصر، كي يتسلق.
ولد هارون الرشيد يوم 16 فبراير 766 (146هجرية) بمدينة راي Rayy، الفارسية التي لازالت أطلالها قائمة إلى يومنا على بعد كيلومترات من جنوب طهران الحالية. وحسب كل الشهادات، كان جميلا، دون أن يجعله ذلك سطحيا أو مزهوا. إنه في جميع الأحوال خليط نادر، للبحر الأبيض المتوسط. مؤرخوا الحقبة ـ أغلبهم رجال ـ وصفوه كما يلي : "لون جلده فاتح جدا، طويل، يشع منه وقار كبير وفصاحته تبهر. كما أنه ضليع في العلوم والأدب". كان يظن أن رشاقة الجسد تتعلق بتلك التي للفكر، بالتالي، تعهد بنمو أحدهما وكذا الآخر.
يعتبر هارون الرشيد "أول خليفة حوّل إلى معطيات جماهيرية، ألعاب البولو Polo، ومباريات الرماية بالقوس، ثم كرة المضرب، ويقدم مكافآت للمتفوقين في هاته التخصصات الشعبية. كان أول  خليفة عباسي مارس لعبتي الشطرنج والنرد. ويبدي إعجابه اتجاه أمهر اللاعبين مع منحهم تعويضات. بهاء ورخاء حكمه، جسد ما يسمى في تلك الحقبة "الأيام الذهبية". لكن، لو اكتفى هارون الرشيد بكونه فقط لاعبا ممتازا في الشطرنج، فسيُنسى بسرعة كما هو حال اليوم أغلب أغنياء البلدان البترولية المنغمسين في الملذات. ذلك، ما أدركه الخليفة وهو يتوقف عن اللعب للانكباب على العمل.
تعتبر كلمة "وسط" مدخل أساسي للحضارة العربية، وهي تدل على الطريق المعتدل بين طرفين نقيضين. لقد، تعلمنا منذ الطفولة الحفاظ على التوازن بين العقل واللذة، الفكر والجسد. على النقيض من المسيحية التي فصلت بشكل قاطع بينهما، من خلال التسامي بالفكر مقارنة مع الجسد، تميز الإسلام بموقفه الكوني المتوازن جدا. لم يقف هارون الرشيد، عند حدود الاعتناء بملذاته بل : "يؤدي بانتظام واجباته كحاج بالموازاة مع خوضه لحرب مقدسة. فقد شيد آبارا وصهاريج وكذا مآوي على امتداد الطريق المؤدية إلى مكة (...). عمل، على تعزيز الحدود، وتعمير كثير من الحواضر،وتحصين مدن عدة، أنجز مشاريع هندسية لا تحصى، كما شيد منازل للضيافة.
إن الحاكم الجيد، يضع مصلحة شعبه في مقدمة اهتماماته، غيرمتردد في فتح خزانة ماله قصد مساعدة أصحاب الحظ السيئ : ((سنة 189 (810 ميلادية)، أدى فدية عن الأشخاص الذين وقعوا أسرى عند الرومانيين (البيزنطيين)، بحيث لم يعد لديهم أي مسلم أسير)). بل وحتى هذا لا يشفع إعادة تولية الخليفة عبر القرون، فمن الضروري أن يكون قائدا حربيا كبيرا : ''سنة 190، تمثل من جديد هيرقليس فانتشرت قواته على كل الأراضي الرومانية"، تلك، معركته ضد العالم المسيحي، تحول معها إلى بطل إسلامي. لقد، ردد تلاميذة جيلي رسالته الشهيرة إلى الإمبراطور البيزنطي "نيسفور": ((بسم الله الرحمن الرحيم، من خادم الله، هارون الرشيد، أمير المؤمنين إلى نيسفور كلب الرومان. حقا، فهمت تعابير رسائلكم ولديّ جوابكم. لن تسمعوه، ولكنكم سترونه بأعينكم)). فعلا، سيجد "نيسفور" أمامه جيشا متحركا. يحيل موضوع هذه الرسالة على معاهدة وقعت عليها الإمبراطورة إيرين (882-797) أمّ نيسفور، بعد غزو هارون لبيزنطة. رفض، الإمبراطور الجديد بعنف مضمون الوثيقة، فكتب إلى الخليفة : "من نيسفور ملك الرومان إلى الرشيد ملك العرب، ما يلي : هذه المرأة رفعت شأنكم وكذا أخوكم و أبوكم إلى رتبة ملك، وانحدرت هي إلى صف الرعية. أما، أنا فسأعيدكم لموقعكم وسأغزو أراضيكم  ومدنكم إذا لم تسددوا ما أدته لكم هاته المرأة. الوداع". اشتد الغضب بأمير المؤمنين، بحيث قرّر قيادة جيشه بنفسه وعدم التراجع قبل تحقيق انتصار شامل : "توغل الرشيد داخل الأراضي الرومانية دون توقف. يقتل، يسلب، يغنم، يحطم،
ويقضي على الأقوياء إلى غاية وصوله الطريق الضيقة التي تفضي إلى القسطنطينية. لكنه سيكتشف بأن "نيسفور" قطع الأشجار واعترض بها الطريق ثم أشعل
النار فيها (...). بعث "نيسفور" إلى الرشيد بمجموعة هدايا واستسلم بإذلال، ثم أدى ضريبة الجزية عن نفسه وعشيرته".
أيضا، لو بقي هارون الرشيد مجرد محارب، فلن يظل عالقا بالذاكرة. بل، يتجلى الأمر في قدرته على وقف المعركة  والابتهاج بالحياة ثم الالتفات إلى ملذاته المرهفة والشبقية، التي جعلت منه بطلا حقيقيا. لقد كرّس  لها شبابه (كان يبلغ من العمر 21 سنة حين توليته العرش، وتوفي عن سن 42 سنة).
هذا الوجه الرومانسي لشخصيته، أخذ صورة خالدة جراء الروايات الكثيرة
التي تداولها الحكواتيون العموميون ببغداد، وهم يكتشفون باستمرار "ألف ليلة وليلة".
المرأة الأولى، التي أحبها هارون الرشيد وهو في سن السادسة عشرة، كانت ابنة عمه زبيدة، أميرة متكبرة. احتفلا بزواجهما، داخل القصر الأسطوري المسمى : الخلود. يقول، ابن خلدون أحد مؤرخي الفترة الأكثر اتزانا : "لقد تقاطر الناس من كل الأمكنة. وبهذه المناسبة وُزعت مبالغ مالية لم يشهد لها الإسلام من قبل مثيلا". كثيرة هي الوثائق، التي تطرقت إلى تفاصيل شغف الرشيد بزبيدة والبذخ الذي أحاطه بها.
يروي المسعودي : " لقد كانت الأولى التي تناولت الطعام في أواني من الذهب والفضة، تزينها أحجار نفيسة. الملابس الأكثر نعومة بالنسبة إليها، تلك التي نسجت بحرير متعدد الألوان يسمى "واشي" حيث مقياس واحد يساوي 50 ألف دينار. هي، الأولى التي اصطحبتها حراسة تتكون من ذكور تعرضوا لعملية
خصاء وعبيد يصطفون بجوانبها يمتثلون لأدنى أوامرها، ويطبقون إشاراتها. هي، الأولى أيضا التي استعملت محملا فضيا من الأبنوس وخشب الصندل، مع أقفال من الذهب والفضة. ابتكرت موضة النعال المزركشة بأحجار ثمينة وكذا
المصابيح ذات الإنارة الرمادية، نماذج ستنتشر داخل كل البلد".
على الرغم من خيلاء زبيدة وعشقها للترف، فقد أظهرت اهتماما كبيرا بالوسط ومعطيات التمدن : بالتالي، كانت مصدر إلهام بناء الأحواض المتواجدة على الطريق الرابطة بين بغداد ومكة، من أجل تسهيل السفر إلى الحج. بخلاف،
المؤرخين العرب المعاصرين، الذين يبغضون النساء وتعميهم نزعتهم المحافظة، فإن نُظرائهم إبان العصور الوسطى، لم يجدوا أية مفارقة بين زوجة للخليفة،
بقدر ما هي جميلة ومتغنجة، تخوض أيضا في القضايا العمومية وتهتم بوقائعها الدقيقة.
تعلق هارون الرشيد، بزبيدة، لم يمنعه حينما تبوأ العرش أن يضع رهن إشارته جواري، من كل بقاع العالم : "جاء في شهادة لأحد كُتّاب الأخبار :
"توفرت للرشيد ألفي جارية بعضهن يتقنّ فن الغناء (...) لكن أغلبهن يتزينّ بالجواهر". لأنه في هذه الحقبة، لا يمكن لمسلم أن يستعبد مسلما آخر (وهو ما لم يحدث أيضا بعد ذلك) فأغلبية الجواري قدمن من بلدان تعرضت للغزو منذ عهد قريب، بالتالي فهي أجنبية. تبرز، مواهبهن مع ما يحملنه من أشياء غريبة وكذا خاصيتهن الثقافية. لكن، حتى تصبح الجواري مغنيات، يتحتم عليهن
الخضوع لتكوين صعب : فإلى جانب التقنيات الصوتية والآلية، يجدر بهنّ إتقان اللغة العربية وبنائها النحوي المعقد، في أفق تنافسهن مع نجمات محليات
مثل الجارية "فضل" باعتبارها النموذج الأعلى الذي يُحتذى به، فهي مثال للمغنيات العربيات طيلة قرون : "كان جلدها داكنا، تمتلك معرفة أدبية واسعة (أديبة)، جارية بليغة وصاحبة مهارة رائعة على مستوى الردود السريعة". روايات أخرى، استحضرت قدرتها على تضليل محاوريها من خلال تلاعبها بالكلمات وإذهالهم بتشكلات لسانية غير متوقعة. موهبة، تقدر حتى أيامنا في الأمسيات العربية :
"تعتبر "فضل" من بين أجمل مخلوقات الله. كان خطها رائعا، وتفوقت على أقرانها بفصاحتها حينما تتكلم، ثم تهيئ بوضوح  دلائلها عندما تنخرط في نقاش...".
باستثناء صعوبات إتقان اللغة العربية، بالنسبة لكل جارية تتوخى اقتفاء نموذج جارية محلية كما هو مثال "فضل"، فأن تكوني أجنبية في بلاط العباسيين لم
يشكل قط عائقا. بالطبع شجعت الحضارة الإسلامية التعدد ونظرت إيجابا لكل ما هو أجنبي وكافأت كل من يتكلم لغات مختلفة وتردد على ثقافات  شتى. في ظل سلطة العباسيين : ((أتى العلماء والسياسيون والشعراء والمؤلفون من مناطق عديدة. هكذا نعثر إثنيا على كل الأجناس، البيض، السود وكذا الملونين. أما بخصوص الديانات، فنجد المسلمين إلى جانب اليهود والمسيحيين وكذا الصابئة والزرادشتيين. ثم، بموازاة العربية نسمع الأرمينية والفارسية والتركية. إن استثمار التباينات باعتبارها امتيازات والتعامل مع ما هو أجنبي كلحظة طارئة تتعزز معها المتعة، أعطى لبغداد هذا التنميق الكوني، الذي ضمن لها إشعاعا استمر طيلة قرون)). كتب، جمال الدين بن الشيخ : "بلغ ثمن مغنية متميزة 3000 دينار، وتحددت الأجرة السنوية لشاعر مثل ابن زيدون في 500 دينار. أما، البنّاء فيكتسب درهما واحدا في اليوم. وبدرهم، يمكننا شراء ثلاث كيلوغرامات من الرغيف".
بقدر ما تكون الجارية مهذبة، تسعد أكثر سيدها وتزداد قيمتها. ذلك، ما حدد أهم مميزات الحريم  العباسي خلال العصر الذهبي. تجار العبيد يدركون
نمط النساء القادرات على إرضاء الخلفاء. مثلما هي حالة المأمون، ابن هارون الرشيد وخليفته " لقد سمعت تاجرا للعبيد، يقول ما يلي : أظهرت للمأمون أمَة موهوبة في نظم الشعر والبلاغة، مثقفة جدا، تتقن لعبة الشطرنج، طلبت بخصوصها 1000 دينار. فأجابني، بأنه سيدفع الثمن المطلوب بل وأكثر، إذا استطاعت الرد على قصيدة هجاء ارتجلتها جارية أخرى". كان الخليفة المأمون، يحب خاصة ممارسة لعبة
الشطرنج صحبة امرأة قبل توجهه إلى الحرب، بغية شحذ ذهنه، ومنح ذاته اهتزازت "ظنا منه بأن التباري بين لاعبين، لا يمكن أن يصير ملتهبا إلا إذا تداخلت فيه الأجساد والأنفس معا". نعرف، بالتأكيد اليوم مع كل التحاليل التي نتوفر عليها حول الإغراء المذهل للرياضة، وكذا البعد الإيروسي الذي ينطوي عليه التنافس. لكن في حقبة الخليفة المأمون، فمثل هذا المفهوم للعبة الشطرنج يمكنه أن يدهش أكثر من واحد. إن، ما يجذب الخلفاء نحو رغباتهم الشبقية، طبعا، هو استعداد المرأة للمواجهة
والمنافسة على قدم المساواة، وليس انهزامها وخضوعها القبلي. مادام، أن رباط الحب يشبه عند هؤلاء الخلفاء مجالا للصراع يشكل الارتياب قاعدته الوحيدة التي تدير الصلة بين الأطراف. يصعب إذن، تخيل هؤلاء الخلفاء المبتسمين، ينطقون كلمة "الحريم"، لكن ما يدهشنا شيئا ما، توفر العرب على مائة كلمة تعني "أحبك" بينما لا تتضمن اللغات الأخرى إلا واحدة.
في القرن الرابع عشر ، أخذ الكاتب ابن القيم الجوزية على عاتقه مشقة حساب عدد التعابير العربية التي تشير إلى كلمة "أحبك" ثم استجمعها في عمله : روضة المحبين.
برؤية بارعة، وضح ابن القيم الجوزية أن مثل هذا التفتق ليس بالضرورة إشارة جيدة. فالعرب، حسب رأيه، لا تبذل مجهودات كثيرة إلا لتسمية الأشياء المعقدة والصعبة على التناول أو الخطيرة. على كل حال، حينما تتعدد الكلمات لتناول كل تحققات ظاهرة ما، فمن أجل تخليدها. مع ذلك، كثيرة هي الكلمات المحصية التي تحيل على الحب، كسبيل إلى الخبل الذهني أو التيهان. نجد كذلك، الحديث عن القفزة في الفراغ (الهوى)(2). أيضا، اقتُرن الحب غالبا هنا بالحمق (جنون، ولع...) أو أقصى أنواع المعاناة (حُرقة، شجن...). مع ذلك، فأجمل الاكتشافات التي وقفت عليها بين طيات قائمة الجوزية ـ وجدت فيها عزاء وأعطتني أملا ـ هي التعابير الإيجابية، وقد بينت الحب في صيغة صداقة متميزة، حيث يقودكم الود إلى الحوار (المحبة) وينسج بين الشركاء ألفة عذبة. خاصة، حسب الجوزية، فإن الإحساس بالحب يفوق مفعولة تأثير الفياغرا (وأضيف أرخص ثمنا) لأنه يبعث فيكم القوة والطاقة.
الحب مصدر المقدرة ...، مفهوم مألوف لدى الروحيين ولاسيما المتصوفة. لكن أيضا، النسبة لنا جميعا أصحاب التطلعات الروحية المتواضعة جدا.
وفق تصور ابن حزم، رجل سياسة وخبير في القانون الإسلامي خلال القرن الحادي عشر ،الذي كرس دراسة لأسرار العواطف، يعمل الحب على تحويلكم إلى درجة أن يدهشكم ذلك حقا : "إن رجلا عاشقا، سيبلور إمكانياته حتى أقصى الحدود، وبشكل لم يكن يتصوره قبل ذلك (...) في أفق أن يبدو ملائما وتتوجه الرغبة إليه". ثم، يتابع : "كم هي المرات التي نشاهد فيها بخيلا يفتح كيس نقوده، والشرس يبسط حواجبه، والجبان يسرع للمعركة، والأحمق يبيح بكلمة عاقلة، والفظ يتصرف كإنسان نبيل، ثم رث الثياب يتقمص دور المتأنقين، والأخرق يصبح دقيقا، والشيخ يستعيد فتوته، أما الورع فيصير سافلا، والخجول يستعرض ذاته، كل تلك الأشياء تحدث بالحب !". ينقلك الحب إلى ما وراء حدودك، نحو آفاق لم تفكر فيها قط. كثيرة، هي كلمات ابن القيم الجوزية التي وصفت الحب باعتباره هياما، خطوة إلى المجهول،  مغامرة في أرض غريبة. مثلما، أن المغامرة مجازفة بالنسبة للجميع، فالأمر يزداد حدة عند الخليفة : لذلك، لم يفسح هارون الرشيد المجال للصدفة كي تصنع له  غرامياته. لأنها منظمة ومصممة مثلها مثل المعارك. من أجل اختراق عالم الأحاسيس العاشقة دون تعذيب ولا اضطراب، يجب أن نستبقي للذة منطقة زمان استثنائي، ونتهيأ لها كما نحضر لحفل ديني. لكن، إدراج اللذة في إطار برنامجه المقدس، لا يعني زحلقة يوما أو يومين للراحة أيام سفر مثقل بالأعمال. على النقيض، الأمر يعني فقط تغييرا للأوليات، التخطيط لأسبوعين قصد الاستجمام وربطها عند الاقتضاء بسفر الأعمال. ذلك، ما استوعبته على الأقل، وأنا أدرس كيف كان هارون الرشيد يرتب مجلسه، "لحظة متعته".
الهـــوامــش :
(1) Fatéma Mernissi : le Harem Européen, éditions, le Fennec, 2003, PP 135/146.
(2) يقابله في الإنجليزية fall in love، أما مع الفرنسية فنجد تعبير "Tomber amoureux".

الأحد، 25 ديسمبر 2016

النزعتان الإنسانيتان(1)


بقلم:ادغار موران
ترجمة : سعيد بوخليط


أخذت الإنسانية،ضمن مسار الحضارة الغربية،وجهين متناقضين.يتمثل الوجه الأول،في شبه تأليه لإنسان، منقطع  للطبيعة. إنه، في الواقع  ديانة إنسان، حل محل إله متقادم،وتعبير عن مزايا الإنسان الحديث المتطور بيولوجيا،الصانع،الاقتصادي. بهذا المعنى، الإنسان مقياس كل شيء،ومصدر لكل قيمة، يبتغي التطور. يُطرح باعتباره، ذاتا للعالم،والأخير بالنسبة إليه،عالما-موضوعا،تشكله موضوعات. هو سيّد، على هذا العالم، يتمتع بسلطة لانهائية على كل شيء،ضمنها حقه اللانهائي في التدبير.
بناء على أسطورة(الإنسان المتطور بيولوجيا)قدرات تقنيته ثم استئثاره بالذاتية،أرسى دعائم الشرعية المطلقة لتمركزه الأنثروبولوجي.وجه كهذا للإنسانية،يلزمه الاختفاء ،ثم نتوقف عن التحمس للصورة البربرية،المشوهة،المعتوهة،عن إنسان مكتفيا بذاته،فوق الطبيعة،محورا للعالم،وهدفا للتطور،متسيدا على الطبيعة.
أما الثاني،فقد  صاغه مونتين بجملتين :''أكتشف في كل إنسان،مواطنا لي"،و"ننعت بالمتوحشين، شعوب الحضارات الأخرى".لقد مارس مونتين،إنسانيته عبر الإقرار لسكان أمريكا الأصليين،بمنتهى إنسانيتهم،والذين تعرضوا لغزو أليم واستعبادهم،ثم انتقاده لمستعبديهم. 
هذه النزعة الإنسانية، أغناها مونتسكيو،بمكون إتيقي،مفاده،أنه إذا استلزم الأمر الاختيار بين وطنه والإنسانية،فيجب الانحياز للإنسانية.
أخيرا،صارت هذه الإنسانية مناضلة لدى فلاسفة القرن الثامن عشر،وعثرت على تعبيرها الكوني في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789 .هذه النزعة الإنسانية، أقرت في مبدئها أوج الخاصية الإنسانية،لدى كل كائن ينتمي لنوعنا.تجد في كائن بشري، هوية مشتركة، وراء التباينات،مرتكزة ضمنيا ،على المبدأ الذي طرحه إيمانويل كانط : تعامل مع الآخرين،مثلما تتوخى،أن يتعاملوا معك.أيضا،تضمر تصور هيغل : كل كائن بشري، في حاجة إلى الاعتراف بأقصى درجات إنسانيته، من طرف الآخر.يطلب احترام،مانسميه "كرامة"كل إنسان،بمعنى أن لا تعرضه لمعاملة فظة.هذه النزعة الإنسانية،غذتها فيما بعد،طاقة للأخوة والحب،خاصية إنجيلية اكتست طابعا علمانيا. 
بما أن هذه النزعة الإنسانية، تهم مبدئيا جميع الكائنات البشرية، فقد احتكرها الرجل الأبيض،الراشد،الغربي. هكذا،أقصي البدائيين، المتخلفين،الطفوليين،الذين لم يدركوا كرامة الإنسان المتطور بيولوجيا، فعوملوا كأشياء واستعبدوا، إلى غاية الحقبة الحديثة،جراء التحرر من الاستعمار.
لسنا في حاجة إلى نزعة إنسانية جديدة،بل أخرى تستعيد أصالتها ومتجددة.
تحوي النزعة الإنسانية في ذاتها، فكرة التقدم، وتهتدي به. لقد اعتُبر التقدم،منذ كوندورسي Condorcet،قاعدة يخضع لها التاريخ البشري.بحيث، يبدو أن العقل والديمقراطية والتطور العلمي والاقتصادي والأخلاقي،كانت غير منفصلة.اعتقاد، ولد في الغرب، تكرس، ثم عٌمم عالميا،بالرغم من التفنيدات المرعبة،الناتجة عن التوتاليتاريات،وكذا الحروب العالمية فترة القرن العشرين.سنة1960،وعد الغرب بمستقبل متناغم،والشرق بمستقبل مشرق.هذان المستقبلان،انهارا قليلا قبل نهاية القرن العشرين،وحلت محلهما الشكوك والمخاوف،كما أن الإيمان بالتقدم،لم يعد قابلا لإدراجه ضمن مستقبل للوعود، بل الممكنات.بهذا المعنى،تقترح النزعة الإنسانية الجديدة، متابعة تطور الإنسان نحو أنسنة،بتبني المقتضيات الأنثروبو- إيتيقية (لنخلق الإنسان).
بالضرورة، النزعة الإنسانية المتجددة،هي كونية،بينما تضمنت السابقة كونية محتملة،وغاب هذا الترابط الملموس بين جميع البشر،فصارت رابطة للمصير،خلقت ووسعت العولمة، بغير توقف.
بما أن الإنسانية مهددة حاليا، بأخطار قاتلة(ازدياد الأسلحة النووية، الحروب الأهلية التي اتخذت بعدا دوليا،هيجان مختلف أنواع التعصب، التقهقر المتسارع للمحيط الجوي، أزمات واختلالات اقتصاد تهيمن عليه مضاربات غير مراقبة)،فحياة النوع الإنساني المتلازمة مع حياة المحيط الجوي،أضحيا قيمة أولية،ومقتضى مبدئيا.علينا أن ندرك، أنه إذا توخينا للإنسانية البقاء ،فيلزمها أن تعرف تحولا،وهو ماعبر عنه كارل ياسبرز فترة قليلة، بعد الحرب العالمية الثانية :''إذا ابتغت البشرية مواصلة الحياة،فعليها أن تتغير"بالتالي،فالقضية الأولى للحياة اليوم،صارت أولوية وعي جديد، يستدعي مسارا مغايرا.
ترتكز بوعي، الأنسنة المتجددة ،على المنابع الأنثروبولوجية للإيتيقا. منابع، حاضرة لدى كل مجتمع بشري،وتتمثل في التضامن والمسؤولية.التضامن نحو الجماعة،يحث على المسؤولية،والأخيرة توقظ التضامن.تبقى،هذه الروافد حاضرة،لكنها في قسم منها قد نضبت وجفت بالنسبة لحضاراتنا،نتيجة تأثير الفردانية وسيادة منطق المنفعة،وكذا البيروقراطية المعممة.يجب، على النزعة الإنسانية الجديدة، أن تظهر إحياء التضامن والمسؤولية، بهدف مواصلة تطور الأنسنة، في إطار نزعة إنسانية، أي من أجل كل تقدم بشري.
لكن بينما تبقى الثنائية،تضامن-مسؤولية،منحصرة ضمن جماعات محدودة أو منغلقة(أسرة،وطن)،وقبل ذلك،فالنزعة الإنسانية عند مونتين ومونتسكيو،اتخذت معنى إنسانيا كونيا.غير أن هذه الكونية،لم تصبح ملموسة إلا مع جماعة المصير الكوني.أن تصيرالنزعة الإنسانية كونية،يقتضي إذن،من ثنائية تضامن-مسؤولية،الاستمرار في الاشتغال دون توقف،داخل الجماعات المتواجدة،وأن تتضخم ،لدى جماعة المصير الكوني.
أيضا :يلزم البشرية أكثر، أن تتحمل على عاتقها بوعي،الطموح الكبير الذي يخترق كل التاريخ الإنساني،فبقدر نزوع الجماعات إلى خنق الأفراد، تبتغي الفردانية، تفتيت الجماعات : تنمية شخصيته وسط جماعة،ثم تفتّح الأنا،بين طيات تفتّق النحن.
أخيرا،هل يصل الوعي الكوني من تلقاء ذاته،إلى فكرة الأرض- الوطن،كما كتبت في  مؤلف يحمل نفس العنوان(2:((ها نحن بشر جد صغار، حول القشرة الصغيرة جدا ،للحياة المحيطة بالكون الصغير جدا،التائه وسط الكوكب العملاق.مع ذلك، فهذا الكوكب عالم،إنه عالمنا. كوكب، يشكل في ذات الآن،منزلنا وحديقتنا، نكتشف أسرار شجرة جينيالوجيتنا وكذا بطاقة هويتنا الأرضية،والتي تجعلنا نكتشف أمّنا الأرضية،في لحظة صارت معها المجتمعات المتناثرة حول الكرة الأرضية، مستقلة ثم يراهن جماعيا على المصير البشري)).ينبغي، أن يشكل امتلاك وعي جماعي،عن مصير الأرض،الحدث المفتاح لعصرنا.إننا، متآزرين في هذا الكون،باعتبارنا كائنات أنثروبو- طبيعية- فيزيائية،أبناء لهذا الكون.إنها،أرضنا- الوطن.
إن اكتمال الإنسانية عند إنسانية،الجماعة الجديدة المندمجة في الأرض-الوطن،ثم تحول البشرية، يمثلان وجهي المغامرة الإنسانية الجديدة، المتوخاة والممكنة.بالتأكيد،تراكم المخاطر وسباق السفن الفضائية،حيث ترتكز محركاتها على التطورات غير المضبوطة للعلوم والتقنية والاقتصاد، تجعل المنفذ بعيد الاحتمال.لكن، ذلك لايعني الاستحالة.حتما،يبدو من غير الممكن، تغيير السبيل،غير أن مختلف المسالك الجديدة التي عرفها التاريخ البشري،لم تكن منتظرة،بل هي وليدة انحرافات استطاعت التجذر، ثم صارت نزوعات وقوى تاريخية.تبدو، ضرورة عدد من التحولات، بنفس ذات إيقاع مطلب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية والإيتيقية(3).
لكن قليلا على امتداد كل العالم،يظهرعدد لا يحصى من الإنبات،كما يجري عدد لايحصى من المجاري الصغيرة ،بحيث تتلاقى كي تشكل جداول، يمكنها أن تصب في أنهار،ستلتقي عند نهر كبير.هنا، يكمن الأمل،ورغم هشاشته يبقى أملا،يلزمنا أن نفهم ضرورة أخذ الرهان والأمل،مكان اليقينيات.
تطوي في ذاتها، صيرورتنا الحالية، لبنات تحولين .الأول، أشرنا إليه،وهو حاليا بعيد الاحتمال،ينفتح على مجتمع-عالَم، يصير الأرض- الوطن.أما الثاني،فيتعلق بما بعد الإنسانية transhumanisme،والتي تقوم على احتمالات قوية،كانت مجهولة قبل عشرين سنة : إطالة الحياة الإنسانية، دون شيخوخة بفضل الخلايا الجذعية، الماثلة في الجهاز العضوي لكل واحد منا.ثم،تطوير تعايش حميمي أكثر فأكثر،بين الإنسان ومنتوجات تقنيته،لاسيما الأجهزة الإعلامية،والقدرة الكبيرة أكثر فأكثر،لآلات تكتسب مزايا بشرية، ضمنها الوعي ربما. كل هذا، يفتح وعيا للخيال العلمي، حيث يتحول فعلا المعطى الإنساني، إلى ما بعد الإنساني.بل، يمكن لما بعد الإنسانية هاته، التحول إلى أسطورة، من خلال نبوءة كون الإنسان، سيكتسب الخلود.
لكن هذه التطورات العلمية والتقنية،لن تكون لها خاصية إيجابية، إلا إذا صاحبها تقدم إنساني،هو في الآن ذاته، ذهنيا وإيتيقيا وسياسيا ومجتمعيا.إذا لم يكن تحول المعطى البيولوجي والتقني،مصحوبا بالتطور الإنساني،فسيؤدي إلى استفحال مشاكل، متفاقمة أصلا.من جهة، اتساع الفوارق الطبقية، بين الأغنياء والأقوياء،أول المستفيدين الوحيدين من إطالة عمر الحياة، ثم الفقراء  والمحرومين.قضية، الإقرار بحقوق بشرية، لروبوتات robots مفكرة، حين إثرائها بالوعي.إن إمكانية التحول العلمي- التقني،المستشرف لما بعد- الإنساني، يستدعي حتما وبالضرورة، تحولا سيكولوجيا وثقافيا واجتماعيا،ينبثق من سبيل جديد، تغذيه إنسانية متجددة.
أريد أن أنهي مع مكون آخر للوعي الإنسي،مثلما ينبغي في اعتقادي أن يكون حاضرا، لدى كل واحد منا.فأن تكون إنسانيا،لايعني فقط الاعتقاد، أننا نشكل جزءا من جماعة المصير هاته،وأننا بشرا جميعا،قدر اختلافنا،وليس فقط الرغبة في التخلص من الكارثة واستشراف عالم أفضل،ولكن الشعور ثانية، في عمق الذات،بأن كل واحد منا هو لحظة وقطعة صغيرتين جدا،ضمن مغامرة عجيبة ومدهشة،ونحن نواصل مغامرة الحياة.بدأت مغامرة تطور الأنسنة،منذ سبعة آلاف سنة، مع تعدد للأنواع وهي تتابع وتتلاقى،وصولا إلى الإنسان المتطور بيولوجيا.خلال، حقبة إنسان كرومانيون cro-magnon،ورسوماته الصخرية الرائعة،فقد امتلك سلفا دماغ ألبير أينشتاين، وليوناردو دافينتشي، وأدولف هيتلر،وكل الفنانين الكبار والفلاسفة والمجرمين،دماغا متقدما على فكره وكذا حاجاته. اليوم، لازال دماغنا يمتلك بلا شك كفاءات، لم نكتشفها بعد، وبالتالي توظيفها.
إننا في مغامرة عجيبة، مع تلك الإمكانيات العلمية،الأكثر إدهاشا ورعبا في الوقت نفسه.الإنسانية، بحسبي،لاتحمل فقط في ذاتها الشعور بالتضامن الإنساني،لكنه أيضا الشعور، بأن تكون ضمن مغامرة مجهولة ومذهلة، والرغبة كي تواصل، صوب تحول،حيث يولد مستقبل جديد. 
أنا فرد- ذات، بمعنى كل شيء في حوزتي تقريبا ،ولاشيء بالنسبة للكون. كِسرة صغيرة جدا وعاجزة  ضمن العلاقة مع الكون،وكذا الفكر البشري،حيث أساهم،ثم شيئا قويا، كغريزة تصل ما هو أكثر حميمية في ذاتي،بهذا الكون والفكر البشري،أي المصير البشري.أساهم، في هذا اللانهائي و اللا-اكتمال  والحقيقة التي نسجها الحلم بقوة،وكائن الألم هذا والسعادة والارتيابِ، الذي يسكننا، مثلما نسكنه.  
وسط هذه المغامرة الجميلة،أمثل جزءا ضمن كائن كبير، كما يتجلى مع سبعة مليار التي بلغها عدد البشرية،مثل خلية تنتمي إلى جسد بجانب مئات مليارات الخلايا،ألف مرة زيادة للخلايا عند شخص،كي نكون كائنات بشرية على الأرض .
أجسّد جزءا ضمن هذه المغامرة الخارقة، المندرجة في قلب مغامرة الكون ذاتها المذهلة.تحمل بين طياتها،جهلها ومجهولها ولغزها،ثم جنونها في عقلها،لاوعيها في وعيها،مثلما تطوي ذاتي الجهل والمجهول واللغز والجنون وعقل المغامرة. 
المغامرة،أكثر من ذي قبل،مريبة ومهولة ومثيرة،لكن :ليس لك من طريق أيها المشاء،بل تتأتى لك الطريق،وأنت تمشي.
هامش    :بقلم إدغار موران
-1 le monde diplomatique :octobre ;2015.
2-terre-patrie ;points ;coll essais ;paris2010. 
3-Edgar Morin ;la voie ;fayard ;paris 2011