الأربعاء، 20 يناير 2016

مذكرات من العالم السفلي : ف. دوستويفسكي ، ترجمة / زغلول فهمي

الفصل الأول 


ف. دوستويفسكي
دأنا رجل مريض .. رجل حقود. رجل بليد المظهر غير جذاب. وأعتقد أن كبدي عليل . وأنا مع هذا لا أعلم شيئا عن مرضي. ولا أدري ماذ يؤلمني علي وجه التحقيق . فأنا لا أستشير طبيبا في ذلك. ولم يحدث أن استشرت طبيبا رغم احترامي الطب والأطباء . وفضلا عن هذا فاني مؤمن بالخرافات ايمانا راسخا. ايمانا يجعلني أحترام الطب علي أية حال ( فعلي الرغم من أن ثقافتي العالية تكفي لانكار الخرافات فانني أومن بها ). كلا، اني أرفض استشارة الطبيب بسبب حقدي .قد لا تفهمون هذا ومع ذلك فاني أفهمه . ولا ريب أنني أستطيع أن أبيّن علي وجه التحديد من ذا الذي أوذيه بحقده في هذه الحال . فأنا أعلم علم اليقين أنني لا أنتقم من الأطباء بعدم استشارتهم كما أعلم أكثر من غيري أنني بكل هذا لا أوذي الا نفسي . ومع ذلك فاذا كنت لا أستشير طبيبا فذلك بسبب حقدي . ان كبدي عليل . فلتشتد به العلة!

هكذا ظللت أعيش فترة طويلة تبلغ عشرين عاما . فأنا الآن في الأربعين من عمري . وكنت موظفا في الحكومة ولكنني الآن لم أعد في خدمتها . كنت موظفا حقوداً فظاً وكان يطيب لي أن أكون كذلك. لم أكن مرتشياً فكان لابد لي من أن أجد ما يعوضني عن ذلك علي الأقل . ( نكتة سخيفة ولكنني لن أحذفها . فلقد كتبتها ظنا مني أنها غاية في الفكاهة . ومع أني قد أدركت الآن اني لم أرد بها الا الاستعراض فطنتي استعراضاً مبتذلاً فسأبقيها عن عمد ) . 

وعندما كان يأتي أصحاب الحاجات الي المنضدة التي كنت أجلس اليها يسألون عن مطالبهم كنت أظهر لهم غضبي وأشعر بلذة غامرة عندما أنجح في تكدير صفو أحدهم. وغالبا ما كنت أنجح في ذلك. فقد كان معظمهم ممن يغلب عليهم الخوف والخجل ولا عجب في ذلك فهم أصحاب حاجات. أما المتغطرسون فقد كان من بينهم ضابط بالذات كنت لا أطيق وجوده. كان يأبي التواضع ويظل يضرب بسيفه علي ساقه بطريقة منفّرة. فظللت أحمل له في نفسي حقدا وعدواة مدة ثمانية عشر شهرا بسبب هذا السيف. وأخيرا انتصرت عليه. اذ أقلع عن عادته في ضرب السيف علي ساقه. علي أن كل هذا قد حدث في صباي.

ولكن أتعلمون يا سادة ماذا كانت النقطة الجوهرية في هذا الحقد ؟ ان الحافز هو انني كنت أدرك دائما بيني وبين نفسي حتي وانا في أشد حالات الحقد والغضب ـ انني لست حقودا ولا حتي رجلاً ممروراً وأن ما أفعله لا يزيد علي تسلية نفسي بتخويف العصافير دون غاية أو هدف ـ فقد أرغي وأزبد ولكنني قد أهدأ ويزول غضبي عندما تأتون لي بدمية أعبث بها أو قدح من الشاي المحليّ بالسكر. وقد يبلغ شعوري حينئذ حد التأثر الصادق مع أنني قد أثور علي نفسي بعد ذلك بسبب هذا الضعف فأقضي الليالي يقظان مؤرقا لخجلي من نفسي. هكذا كانت طريقة حياتي . 

لقد كذبت عليكم اذن عندما قلت لكم انني كنت موظفا حقودا. كذبت عليكم بدافع من حقدي. فان ما كنت أفعله لا يعدو أن يكون تسلية مع أصحاب الحاجات ومع ذلك الضابط الذي حدثتكم عنه والحقيقة انني ما كنت لأستطيع أن أكون حقودا . فقد كنت دائما أحس في نفسي بعوامل كثيرة وكثيرة جداً تتنافي تماماً مع هذا الشعور. كنت أحس بها احساساً لا ريب فيه وهي تتزاحم في نفسي. كما كنت أعلم أن تلك العوامل كانت تتزاحم في نفسي طوال حياتي متلهفة علي منفذ. ولكنني لم أكن أسمح لها بذلك. لم أكن أسمح لها بالظهور في عمد واصرار، فكانت تعذبني حتي اشعر بالخزي. بل كانت تدفع بي أحيانا الي تشنجات عصبية ـ وأخيرا تسقمني ـ نعم لشد ما أسقمتني! ـ ألا يخطر ببالكم أيها السادة انني أعبرعن الندم علي شيء ما وأنني أستغفركم لشيء ما ؟ اني واثق من أنكم تتخيلون هذا .. ولكنني أوكد لكم انني لا أبالي بذلك. 

لم يقتصر الحال علي أنني لم استطيع أن أكون حقودا فحسب بل انني لم أدر كيف أكون شيئاً علي الاطلاق لا حقوداً ولا شفوقاً ولا نذلاً ولا أميناً ولا بطلاً ولا حشرة، والآن أقضي ما بقي من عمري في عقر داري ساخرا من نفسي بهذا العزاء التافه الحاقد وهو أن الرجل الذكي لا يمكن أن يكون شيئا بحق وأن الرجل الأحمق وحده هو الذي يستطيع أن يكون شيئا ما. نعم ففي القرن التاسع عشر لابد أن يكون الرجل ـ بل ينبغي أخلاقياً أن يكون ـ الي حد كبير مخلوقاً لا طابع له . فالرجل الايجابي ذو الشخصية القوية هو قبل كل شيء إنسان محدود الي درجة كبيرة . هذا هو اعتقادي مدة أربعين سنة. فأنا الآن في الأربعين من عمري. وأربعون عاماً كما تعلمون حياة كاملة. انها أقصي مراحل الشيخوخة . فالحياة بعد الأربعين ضرب من سوء السلوك والابتذال والفساد. ومن ذا الذي يعيش بعد الأربعين ؟ أجيبوا عن هذا السؤال في اخلاص وأمانة . سأخبركم بمن يفعل ذلك. انهم الحمقي والتافهون . أقول هذا في وجه جميع الشيوخ ـ جميع الشيوخ المبجلين ذوي الرءوس البيضاء بل اني أقول هذا في وجه العالم أجمع. فمن حقي ان أقول هذا في وجه العالم أجمع. من حقي أن أقول هذا لأنني سأعيش أنا نفسي حتي أبلغ الستين،فالسبعين،ثم الثمانين، انتظروا حتي ألتقط أنفاسي .

لا ريب أنكم تتخيلون يا سادتي أنني أبغي أن أرفه عنكم، ولكنكم مخطئون في هذا أيضا . فأنا لست مطلقاً شخصاً مرحاً كما تتخيلون أو كما قد تتخيلون. ومع ذلك فأنتم ترون أنه يليق بكم قد ضقتم ذرعا بكل هذه الثرثرة ( كما انني أشعر أنكم ضيقون بي ) أن تسألوني عمن أكون . فأجيبكم بأنني مثمن قانوني . ولقد عملت في خدمة الحكومة حتي أحصل علي قوتي ( ولم أعمل الا لهذا السبب ) . وفي العام الماضي عندما ترك لي أحد أقربائي الذين تربطني بهم قرابة بعيدة في وصية ستة آلاف روبل اعتزلت العمل في الحال واستقر بي المقام في عقر داري. كنت أعيش في هذا الجحر من قبل ولكنني الآن قد تم استقراري فيه . انه غرفة قذرة ريفية بشعة في احدي ضواحي المدينة، وتقوم علي خدمتي فيها عجوز ريفية حادة الطبع بسبب حماقتها وفوق ذلك تنبعث منها رائحة عفنة. ولا يفتأ الناس يقولون لي ان الجو في بطرسبورج له أثر سيء علي صحتي وان الحياة فيها بالنسبة لدخلي الضيئل باهظة التكاليف. اني أعلم كل هذا أكثر مما يعلمه جميع هؤلاء الناصحين العقلاء المحنكين .. ولكني باق في بطرسبوج، ولن أرحل عن بطرسبورج! اني لست راحلاً عنها لأنني ....أه! ولكن سواء رحلت عنها أو لم أرحل فهذا أمر لا يهم علي الاطلاق. 

ولكن عمّ يستطيع الرجل المهذب أن يتحدث في سرور عظيم ؟ أجيبوا : عن نفسه .
اذن فسأتكلم عن نفسي . 


..........
(المرجع) مذكرات من العالم السفلي، فيودور دوستويفسكي، ترجمة زغلول فهمي ، مراجعة د. عبد القادر القط ، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، مطبعة مصر ديسمبر 1964. 

الجمعة، 1 يناير 2016

قصيدة: (ترسيمُ قبلة) للشاعر الاسباني: ليوبولدو ماريا بانيرو I ترجمة الشاعر محمد عيد إبراهيم

للشاعر الإسبانيّ: ليوبولدو ماريا بانيرو (1948-2014)

ترجمة الشاعر محمد عيد إبراهيم 

....................




سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ

سأقتلكِ غداً قُبيلَ الفجرِ

حينَ نرقدُ بالفِراشِ، ضائعينَ في الأحلامِ

ويبدو أن الجِماعَ أو المنيّ على شفتَيكِ

كأنهُ قُبلةٌ أو عناقٌ، أو عِرفانٌ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ

مستَحضراً لي موتَكِ مُسوَّغاً بمنقارهِ،

كأنهُ قُبلةٌ أو عِرفانٌ

أو صلاةٌ لن يقطعَها الليلُ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

حينَ يعوي الكلبُ الثالثُ بالساعةِ التاسعةِ

جنبَ الشجرةِ العاشرةِ جرداءِ الورقِ والنُّسغِ

لا يعلمُ أحدٌ كيفَ لا تزالُ منتصبةً

سأقتلكِ غداً حينَ تسقطُ

الورقةُ الثالثةُ عشرة على الأرضِ الشقيّةِ

وتنقلبينَ أنتِ ذاتَكِ الورقةً أو الطائرَ الغِرِّيدَ الشاحبَ

وهو يعودُ إلى سِرّهِ الليليّ البعيدِ

سأقتلكِ غداً، وقد تطلبينَ السّماحَ

لأجلِ لُحمتكِ الفاحشةِ، جنسكِ الداكنِ

فنتوءكِ سيكونُ حديدةً لامعةُ

وفي القبرِ سيهلّ السُّلوانُ بديلاً عن القُبلةِ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

سترينَ كم أنتِ جميلةٌ بعدَ موتكِ

والأزهارُ تُغطّيكِ، ذارعاكِ معقودتانِ

شفتاكِ مُحكَمتانِ كأنكِ في صلاةٍ

أو تضرعينَ إليّ بكِلمةٍ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ،

ومن الجِنانِ، كما تمضي الأسطورةُ،

تتوسّلينَ نيابةً عنّي وعن خلاصي

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

حينَ ترينَ ملاكاً يتدبّرُ خِنجراً

كلّهُ عارٍ وصامتٌ عندَ فِراشِكِ المُصفَرّ

سأقتلكِ غداً، سترينَ أنكِ تقذفينَ

حينَ يدخلُ ذلكَ الباردُ بينَ فَخِذَيكِ

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

غداً سأقتلكِ لأحبّ طيفَكِ

وأجري إلى قبركِ كلّ ليلةٍ حيثُ

سُعارُ الجنسِ وأُحجِياتُ المنيّ

تشتعلُ من جديدٍ في قَضيبيّ الرَّجَّاجِ،

فتستحيلُ شاهدةُ قبركِ إلى فِراشٍ بدائيٍّ

حيثُ يحلمُ المرءُ بالأربابِ والأشجارِ والأمهاتِ

حيثُ يلعبُ المرءُ بالنَّردِ ليلاً

سأقتلكِ غداً عندَ بزوغِ القمرِ

حينَ يهمسُ لي أولُ الطيرِ المهاجرِ بكلمتهِ. 

................ 

(*) اللوحة، للفنان الإسبانيّ: خوليو روميرو دي توريس