الخميس، 1 ديسمبر 2016

الرؤية النقدية عند محمد مندور

بقلم الباحث: سعيد  بوخليط  

ولد محمد مندور عام 1907، وتوفي سنة 1965، بعد أن ترك بصمات نظرية واضحة على النقد العربي، فهو من الرموز الأولى، التي ساهمت في  التأسيس المفهومي لهذا النقد.
  تلقى مندور، تكوينه الأدبي الأول في الجامعة المصرية، إذ التحق بها سنة 1925، ومن الصدف الغريبة أن طه حسين، كان الموجه الأساسي له نحو دراسة الأدب، بعد أن كان مندور مقبلا على دراسة الحقوق : (و الذي لا شك فيه ـ  كما يؤكد غالي شكري ـ أن الدكتور طه حسين "هو أول من صاغ التحول الحقيقي في نظرة  مندور للأدب والنقد عندما لفته إلى أهمية المناهج الغربية في دراسة الأدب وتذوقه، وبخاصة المنهج الفرنسي ... ولعله سمع عن "سانت بوف" و "تين" و "برونتير" لأول مرة في محاضرات طه حسين". ويمكن أن نعد المدة التي قضاها مندور في الجامعة المصرية (1925-1929) بمثابة المقدمة التمهيدية الأولى في حياته) (1).
يعد لقاؤه إذن مع طه حسين، العامل الأول في تكوينه الفكري. أما إقامته الطويلة بفرنسا (1930/1939)، حيث أطلع عن قرب على الحضارة الأوروبية، وتشبع بأسسها العقلانية المتينة، فقد شكلت  العامل الثاني في تأسيس رافده المعرفي: (ولعل أهم ما درسه مندور في فرنسا فقه اللغة وعلم الأصوات La phonétique . فاطلع على كتابات  عالم الأصوات الفرنسي الشهير "أنطوان مييه" Antoine Meillet، ودرس نظريات الألسني الكبير "فرديناند دي سوسور"، فافتتن مندور بالصوتيات وأجرى بحوثا  مفيدة على الشعر العربي في معمل  الصوتيات بباريس، حيث حلل ثلاثة أبحر هي الطويل والبسيط والوافر. كذلك، تأثر مندور بمنهج الدراسة الأدبية في السوربون، وهو منهج يقوم على شرح النصوص)(2).أما العامل الثالث في تكوين مندور النظري والمنهجي، فيرجع إلى تشبعه بآراء وتصورات الناقد "جوستاف لانسون" : (وقد اطلع على آرائه عن طريق أتباعه الذين كونوا ما يسمى بالمدرسة اللانسونية le lansonisme. ولاشك أنه تعرف على كتاباته النقدية والأدبية من خلال دروسه بالسوربون)(3). في ظل كل هذا، كان محمد مندور، داعية للعدالة الاجتماعية والحرية الفكرية، وقد عاش  مجموعة من التقلبات السياسية والثقافية لبلاده، متأثرا خاصة بثورة الضباط الأحرار.
فما هي إذن أهم المحددات النظرية، للممارسة النقدية عند محمد مندور ؟ بعد أن حددنا، أهم المكونات النظرية،  والأصول المعرفية، التي استقى منها مندور مرجعياته الفكرية ،المتمثلة في :1) التقائه بالأستاذ طه حسين، 2) إقامته بفرنسا، معاينا عن قرب المشروع العقلاني الغربي، 3) اطلاعه على أراء  جوستاف لانسون، 4) ثم، لحظة فكرية أخرى من حياته وبالضبط عام 1956، سيتعرف محمد مندور على التوجه الواقعي الاشتراكي، مما أثر في توجهه الفكري العام، حيث سيهتم بإدخال البعد الاجتماعي لتفسير الظواهر الأدبية.
يحدد مندور في مقدمة كتاب "النقد المنهجي عند العرب"، تصوره للعملية النقدية، وكذا مبررات الأخذ بالمنهج التاريخي، بقوله : (أساس كل نقد هو الذوق الشخصي  تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية، والنقد ليس علما ولا يمكن  أن يكون علما وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم. بل لو فرضنا جدلا إمكان وضع علم له لوجب أن يقوم ذلك العلم بذاته، ومن المعروف أن العلوم المختلفة لا تنمو وتثمر إلا بفضل استقلال مناهجها ومبادئها التي تستقي من موضوع دراستها (...) وإذن فمن الخطأ أن ننظر إلى النقد في جملته، ونصرف النظر عن مراحله التاريخية، ونرى فيه علما كامل التكوين نحاول أن نميز بينه وبين علوم اللغة الأخرى بعد أن تحجرت تلك العلوم، لأن في ذلك ما يخلق مشاكل باطلة. كما أنه لن يؤدي إلى نتائج  يعتد بها في فهم حقائق الأشياء فهما تاريخيا، بل ولا فهما تقريريا،  ومن الثابت  أننا لا نستطيع  فهم شيء  فهما صحيحا بالنظر فيه عند آخر مراحله. ومعنى هذا هو أننا نفضل  الأخذ بالمنهج التاريخي حتى عندما نحاول أن نضع للنقد  حده)(4).
جاء تحديده إذن لمفهوم النقد، ولطبيعة المنهج الذي يريد مندور الاشتغال عليه، في مقدمة عمله الهام النقد المنهجي عند العرب، الذي يشكل أحد  المرجعيات الأساسية في قراءة التراث النقدي العربي. الكتاب في الأصل  أطروحة دكتوراه، أعدها  تحت إشراف أحمد أمين، بعد عودته من  فرنسا، محاولا إيجاد مجال نظري لتطبيق اشتغالاته المنهجية والنقدية، وخرج بخلاصة مفادها أن النقد العربي، لم يتشكل كممارسة  منهجية خاضعة لأسس نظرية ومفاهيمية إلا في القرن الرابع الهجري، مع الآمدي مؤلف "الموازنة"، ثم الناقد القاضي الجرجاني، صاحب كتاب "الوساطة": (فالآمدي على حسب مندور أكبر ناقد عرفه الأدب العربي،  ومنهجه منهج علمي سليم. أما وسائل نقده ـ ما دام لكل منهج روح ووسائل ـ فهي المعرفة والذوق "وهو في الكثير من نقده يقوم على معان إنسانية، وذوق دقيق، وإدراك لنزعات النفوس". وأما القاضي أبو الحسن الجرجاني (1290-1366) فهو ناقد إنساني ترجع مقاييس الجودة عنده إلى الخلو من الابتذال، والبعد عن الصنعة والإغراب، ثم التأثير في نفس السامع وهزها) (5).
بخلفياته  اللانسونية، انطوى النقد المنهجي عند العرب، على قراءة جديدة للنقد العربي. خلفيات، تتجلى في التحديدات المفهومية للممارسة النقدية، التي لم  تختلف كثيرا عن ما وضعه جوستاف لانسون، فبالإضافة إلى تأكيده على ثلاث حقائق  ضرورية للممارسة النقدية، هي : ضرورة  تبني المنهج التاريخي كمنهج يتابع ويساير تطور المعطيات، ثم تأسس النقد على الممارسة الذوقية بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى استعانة النقد بالعلوم الأخرى، لأن في حدود فهم الخصوصية المنهجية  والنظرية لكل حقل معرفي، وهذا يذكرنا  بمؤاخذة لانسون، عن الموقف الدوغماطيقي الذي  تبناه كل من "تين"، و "برونتيير". قلت علاوة على التحديدات السابقة، يضيف محمد  مندور، تعريفات أخرى لحدود المفهوم ثم طبيعة المنهج، تؤكد تقاطعه الكبير مع المدرسة  الفرنسية، وبالضبط تصورات لانسون، التي عبر عنها هذا الأخير، بشكل نظري صرف في مقالته "منهج البحث في تاريخ الآداب"، المقالة التي سيترجمها  مندور مباشرة بعد عودته من فرنسا سنة 1939، بالإضافة إلى مقالة العالم (مييه)، بعنوان "علم اللسان" وقد ألحق المقالتين بكتابه النقد المنهجي عند العرب. يقول مندور :(النقد هو فن دراسة النصوص الأدبية، والتمييز بين الأساليب المختلفة وهو لا يمكن أن يكون إلا موضعيا، فهو إزاء كل لفظة يضع الإشكال ويحله. النقد وضع مستمر للمشاكل، والصعوبة هي في رؤية هذه المشاكل، وهي متى وعت وضع حلها  لساعته) (6).
 نفس التصور، الذي كان سائدا في السوربون، حيث  يقوم منهجه على شرح النصوص، ومعرفة أسلوب كل نص، من خلال  تحليل صياغة خصائصه الفنية والجمالية، ثم مقارنة أسلوب هذا الكاتب بذاك، واستخلاص وجهة نظره في الحياة : (تقوم  هذه الدراسة على وضع المشاكل وطرحها طرحا مستمرا ومتجددا، نابعا مما تزخر به الألفاظ من طاقة فنية، وتتلخص العملية النقدية في "التنبه للمشاكل التفصيلية التي تثيرها  اللفظة أو الجملة أو الفقرة في نص أدبي"، إذ "لكل جملة أو بيت مشكلته التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها". وهذا ما يدفع الناقد في رأي مندور إلى أن يحبس نفسه في النص لا يفلت منه، لأنه منطلق كل عملية نقدية، وهذا هو النقد الموضعي)(7)، وهو نقد يتوخى  الدقة والتركيز يحاول الوقوف عند الجملة الواحدة، وكذا اللفظة، والتنبه  للمشكلات التي تثيرها.
إنه البقاء في حدود الإطار النصي، ومحاولة  الوقوف على تجلياته الفنية والجمالية : لهذا سيرفض محمد مندور، إقحام علوم خارجية على النص الأدبي، كعلم  النفس وعلم الاجتماع، وكذا علم الجمال. مهاجما التصور النقدي ل الناقد محمد خلف الله، صاحب كتاب [من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده]، أحد مبشري الاتجاه النفسي في النقد العربي، وقد دار بينهما جدالا نظريا فيما يخص تقاطع الأدب بالعلوم، وخاصة علم النفس : (فالأستاذ خلف الله يعتقد أن علاقة الأدب  بالمعرفة وطيدة عبر التاريخ، وإذا كان الأدب قد اتصل بالفلسفة قديما فهو متصل في عصرنا الحاضر بالعلم ؛ ف "تيارات العلم تحتك بالأدب"، وأهمها "دراسات النفس، أو السلوك الإنساني في أوسع معانيه" فهذه  وثيقة الصلة بالأدب. ولا غرو في ذلك ؛ "أليس  الأدب من أروع ما تنتج نفس الإنسان ؟ أليس وليد الشخصية الإنسانية ؟ أليس المعبر عما تنطوي عليه النفس من شعور وإحساس ؟) (8).
 اقتنع خلف الله ، بضرورة  تطبيق نتائج علم النفس على الظاهرة الأدبية، أفق سيرفضه محمد مندور بناء على المرجعية اللانسوية، التي كانت تعتقد، بأن ما يجب أن نستعيره من العلم  ليس معادلاته، ولا اصطلاحاته، ولا قوانينه، وإنما روحه. وإن ظل، مفهوم "الروح العلمية" سواء عند لانسون أو مندور، مبهما وغير واضح لأن روح العلم، لا تختلف عن  مكوناته المفهومية والمنهجية. انطلاقا من ذلك، سيرفض  مندور المنهجية النفسية، بل وكل المنهجيات الأخرى،التي تستند على علوم خارجية لمقاربة الظاهرة الأدبية. هكذا  في رده على الناقد خلف الله، يعتقد مندور. بأن : (الإنتاج الأدبي  لا يفسره علم النفس ؛ فهذا  العلم "لا يسعى إلا إلى إدراك القوانين النفسية العامة، التي قد تفسر حياة الأفراد العاديين إذا صح أن هؤلاء، يتشابهون". وخالقوا الأدب لا يخضعون للتحليل النفسي، ولا ينجح علم النفس في دراسة شخصياتهم : لأن نفوسهم "نفوس أصيلة، بكل نفس منها حقائق، فكيف نريد أن نطبق عليهم قوانين علم النفس العامة ؟"، ولأن النفوس ـ في رأي مندور ـ وحدات غير متشابهة في خصائصها المميزة) (9)، أو بلغة أخرى،يسعى علم النفس إلى تعميم قوانينه وتقنيناته المنهجية على كل الذوات، مع العلم أن هناك اختلافات أنطولوجية بين هذه الذوات.
 مندور، بهذا التصور وضع  يده على مجموعة من الحقائق المتقدمة جدا: أن مفهوم الشخصية كما تشكل عند علماء الاجتماع، يخترق أي محاولة لتعميم حقائق نفسية نظرية مجردة. لا توجد إلا في ذهن الناقد، وإسقاطها على ذوات متعددة. كل شخصية لها طابعها الوجودي، الذي يعطيها تفردها. كذلك أن مفهوم التحليل النفسي تحكمه خلفية ميتافيزيقية، لأنه يتأسس على مقولات التعميم، والاختزال، وكذا الحصر. بالتالي فالناقد، لا يؤمن بالاختلافات، بل يؤسس عمله على مفاهيم الأصل، والوحدة، والتماثل.
لم يقتصر، محمد مندور كما قلت سابقا، على مهاجمة وجهة نظر خلف الله، إنما تجاوز ذلك إلى نقد كل مشروع  نقدي، ينطلق من مبدأ إسقاط العلم على الأدب، نظرا لاختلاف طبيعة الحقلين، وخصوصية كل واحد منهما. فالاستعانة: (بالعلوم "محنة" ستنزل بالأدب، "لأن معناه الانصراف عن الأدب وفهم الأدب، والفرار إلى نظريات عامة لا فائدة منها لأحد". وموضع الداء في النقد الأدبي بحسب مندور ـ أن بعض النقاد لا يخضعون أنفسهم للنص الأدبي، وإنما يحمل كل منهم فكرة مسبقة في مسألة من المسائل  التي يثيرها، في حين أن النضج الأدبي المنشود هو أن يخضع الناقد للفن، وينتزع منه  مدلوله، بدلا من أن يملي عليه رأيا". وانطلاقا من هذا المبدأ يدعو مندور إلى "استقلال الأدب، وإلى أن يحبس "الناقد نفسه في الأدب")(10). لهذا حث مندور، النقاد على البقاء في حدود المعطيات الداخلية للنص، والبحث عن تجلياته الأدبية. فالنص لا يكتسب  شرعيته إلا من إطاره الداخلي، وحضوره في ذاته.
 سيبحث ناقدنا عن أصول منهجيته، مستقيا منها مفهومه للدراسة الداخلية للنص. فوجده في المنهج اللغوي : (وإذ يستمد هذا المنهج أسسه ومقوماته من اللغة فإن المعرفة التي ينبغي أن تتوافر للناقد ليست معرفة نظرية بل معرفة لغوية وفنية، تكتسب بالدربة، وبدراسة علوم اللغة، لا بدراسة المنطق والسيكولوجيا والجمال وما إليها) (11). استقى هذا المنهج من التراث النقدي العربي القديم، ومن اطلاعه على "لانسون"، والتصورات اللسانية ل "فرديناند دي سوسير" وكذا كتابات عالم الأصوات الفرنسي" أنطوان مييه" Antoine meillet .
بالنسبة لتأثيرات النقد القديم، أكد  مندور، بأن هذا النقد كانت تتوفر له معرفة لغوية واسعة. بل إن ناقدا  مثل  عبد القاهر الجرجاني ـ  الذي أعجب مندور به كثيرا ـ في تصوراته النقدية، استند إلى نظرية في اللغة  تساير التصورات اللسانية الحديثة، ونقصد بذلك نظريته في النظم، التي تمثلت اللغة كمجموعة من العلاقات، وهو نفس التصور، الذي أكده سوسير : (يرى مندور أن منطلق الجرجاني ونقطة الارتكاز في منهجه هي أنه يفرز ما يقرره علماء اللغة اليوم من "أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات". وعلى هذا الأساس بنى الجرجاني كل تفكيره  اللغوي وقد استضاء مندور في دراسة  الجرجاني، أو بعثه بعثا جديدا بالمناهج الألسنية المعاصرة، فربط بينه وبين مدرسة "دي سوسور"و "مييه"، وقد توقف مندور طويلا عند نظرية النظم عند الجرجاني، وأولاها أهمية  كبيرة،  إذ العبرة عند الجرجاني ليست باللفظ في ذاته، وإنما هي بالنظم)(12).
وجد مندور في الجرجاني ـ الذي يتقاطع في تصوره اللغوي للنص، مع ما وصل إليه الفكر اللغوي الغربي، وكذا الممارسة النقدية ـ المبدأ المنهجي، الذي كان يتبناه، ألا وهو البقاء في حدود ما يبوح به النص، والوقوف على خصائصه الجمالية، وعدم تجاوزه إلى إطارات أخرى. فالجرجاني في تصوره لتفاعل المكونات اللغوية للنص الأدبي، من خلال نظرية النظم، بمضمونها الذي يؤكد على أن الكلام يبني بعضه على بعضه، سيشكل الثابت المرجعي لمحمد مندور في مرحلته الجمالية، الذوقية من مشروعه النقدي، إذا اقتنعنا بتأطيره ضمن لحظتين نقديتين أساسيتين : هناك لحظة 1] النزعة الجمالية الإنسانية، 2] ثم المرحلة الإيديولوجية، حينما أخذ يدعو إلى تبني النهج الواقعي الاشتراكي.
إن رهان مندور، على المنهج اللغوي يتوخى الوقوف على الخصائص الجمالية والفنية ؛ والأسلوبية للنص اللغوي، مما يؤدي منطقيا إلى استحضار الذوق الأدبي في الممارسة النقدية، على اعتبار أن الذوق هو التدليل العياني المباشر، وكذا الإحساس الحدسي  التلقائي والعفوي بجمالية النص، هكذا يلتقي الذوق الأدبي بالمنهج  اللغوي الفيلولوجي، فمن العبث في رأيه : (أن ندعو النقاد إلى أن يكونوا علماء فيتجردوا من كل ذوق شخصي، وذلك أنه ليس في الأدب قواعد عامة نستطيع أن نطبقها آليا. وإنما هناك ذوق هو أساس كل نقد  أدبي وهناك خبرة بالشعر ومعرفة بالأدب وباللغة نحاول أن نعزز بها أذواقنا ونعللها كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا) (13).
الذوق من منظور مندور، لا يتأسس على أحكام جزافية غير معللة، إنما يرتبط بمعرفة لغوية. ملكة تتأتى بالمعاشرة الطويلة، والدائمة للنصوص الأدبية، فهي ملكة إذن كما  يقول مندور تصقل بالمران.
عموما، يمكن أن نختزل  أهم تصورات محمد مندور ونزوعها الجمالي الذوقي في مرحلته النقدية الأولى، كما عبر عنها بين صفحات كتابه "الميزان الجديد" في : ([1] ـ النقد هو الدراسة الموضعية للنص الأدبي. وبذلك يصبح الأداة  الوحيدة لتمييز الأساليب  المختلفة، يضع الإشكال لكل لفظة، ومتى اتضحت  معالم المشكلة التي تثيرها حلت على  الفور، لأن الصعوبة الحقيقية كامنة، في القدرة على رؤية  المشاكل، لهذا كان النقد الأدبي بمثابة "وضع مستمر للمشاكل".2] وضع المشاكل إذن لا يدخل في اختصاصات علم الجمال أو علم النفس ولا أي علم آخر، وإنما هو الذوق الأدبي كملكة غير ضبابية أو غيبية أو مبهمة. وإنما حصيلة التأثيرات الواعية واللاواعية، أو هي رواسب العقل الخفي التي يمكن صقلها بالمران المستمر .. 3] لقد  استفاد مندور من أستاذه لانسون، فهو على رأس الدعاة، إلى الأخذ بالنقد التأثري شرط اصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة)(14).
تلك إذن، أهم الملامح النظرية للممارسة النقدية عند مندورالتي أسست أبعادها النظرية المنهجية في المرحلة الأولى من مسيرته النقدية وتحددت تاريخيا مباشرة بعد عودته من فرنسا، بحيث جاء عمله في الميزان الجديد، ليضع للممارسة  النقدية العربية أسسها انطلاقا من الأصول النقدية التي تشبع بها أثناء دراسته في فرنسا.
أما اللحظة الثانية في الممارسة النقدية عند محمد مندور، فيمكن أن نسميها باللحظة الواقعية الاشتراكية، حينما تعرف على النهج الاشتراكي سنة 1956، مما أثر على كتاباته التأويلية في الشعر، والمسرح،والقصة،  والرواية، مبينا على المستوى المنهجي خلال هذه  الفترة، البعد  الاجتماعي والواقعي. بالتالي،  ربط العمل بلحظته التاريخية وبالمعطيات الاجتماعية والسياسية.
فمع ثورة الضباط الأحرار لسنة 1952، سيرفع محمد مندور شعار ومبدأ "الأدب نقد للحياة" داعيا إلى الالتزام في الأدب، والاهتمام بالفن القصصي، كما دعا إلى القصة الواقعية، الملتزمة بأداء وظيفتها الاجتماعية.هكذا حدد، المنهج الإيديولوجي، انطلاقا من فهمه النظري للأدب الواقعي، في ثلاث مهام أساسية :
1] (تفسير الأعمال الأدبية والفنية، وتحليلها مساعدة لعامة القراء على فهمها وإدراك مراميها القريبة والبعيدة، وفي هذه الوظيفة يعتبر النقد عملية خلاقة قد تضيف إلى العمل الأدبي، أو الفني قيما جديدة)(15).
2] (تقييم العمل الأدبي، والفني، في مستوياته المختلفة، أي في مضمونه وشكله الفني، ووسائل العلاج كاللغة في الأدب، والتكوين والتلوين وتوزيع الضوء والضلال في التصوير)(16).
3] (توجيه الأدباء والفنانين في غير تعسف ولا إملال، ولكن في حدود التبصر بقيم العصر وحاجات البشر ومطالبهم وما ينتظرونه من الأدباء والفنانيـن)(17).
تلك إذن باختصار شديد، أهم أطروحات محمد مندور أحد رواد المنهج التاريخي في النقد العربي، وأحد الذين دعوا إلى مأسسة الممارسة النقدية العربية في بناءات تفسيرية، مستلهما في ذلك النموذج الحضاري الغربي وخاصة  المدرسة الفرنسية، التي استقى منها  أصوله النظرية والمنهجية.
 

  هــوامــش :
(1)            مجلة فصول، اتجاهات النقد العربي الحديث، المجلة 9، العدد 3/4 فبراير 1991، ص 56.
(2)            نفسه، ص 57.
(3)            نفسه، ص 57.
(4)            محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار النهضة. مصر للطباعة والنشر القاهرة، ص 11.
(5)            مجلة فصول، مرجع سابق، ص 58.
(6)            نفسه، ص 59.
(7)            نفسه، ص 59.
(8)            نفسه، ص 60.
(9)            نفسه، ص 60.
(10)      نفسه، ص 60.
(11)      نفسه، ص 60.
(12)      نفسه، ص 60.
(13)      نفسه، ص 61.
(14)      غالي شكري : محمد مندور، الناقد والمنهج. دار الطليعة للطباعة  والنشر. بيروت 1981، ص نفسه، ص 3433  -.
(15)   عمر محمد الطالب، مناهج الدراسات الأدبية الحديثة. دار اليسر للنشر والتوزيع. ط2، 1992، ص 148.
 (16)نفسه، ص 149.

 (17)  نفسه، ص 150

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق