الاثنين، 28 نوفمبر 2016

الشمسُ تُدبّر الرأفة


الشمسُ تُدبّر الرأفة
قصيدة: تشارلز بوكوفسكي
ترجمة: محمد عيد إبراهيم


والشمسُ تدبّر  الرأفةَ
لكن كمِشعلِ النفّاثةِ تحملُنا لأعلى،
وكالنفّاثةِ تخطفُنا بمنظرها،
وتثِبُ الصواريخُ كالعُلجُومِ،
ويخرج الأولادُ من الخرائطِ
والقمرِ  الوِسادةِ،
جبنٌ أخضرُ  قديمٌ،
ليسَ بهِ ثمةَ حياةٌ ويعني الكثيرَ  على الأرضِ:

أبناءَنا الهنودَ المتّسخين،
متقاطعي الساقَين، وهم يعزفونَ المزاميرَ،
جائعينَ، ببطونٍ مَمصُوصةٍ،
يشهدونَ الثعابينَ وهي تتلوّى
كجميلاتٍ في الهواءِ الأنيقِ؛

تثِبُ الصواريخُ،
تثِبُ الصواريخُ كالأرانبِ،
تقطعُ الأشجارَ  وبدلَ 
الكلبِ رَصاصٌ منتهيَ المفعولِ؛

ولا يزالُ ينقشُ الصينيون
باليَشْمِ، يحشونَ بالأَرزِ
جوعَهم، وهو جوعٌ
من ألفِ عامٍ،
تفيضُ أنهارُهم الموحِلةُ بالنارِ
والغناءِ، بالزوارقِ، يدفعون
المراكبَ بالأشرعةِ،
لانتظارِ ما لا يريدونَ؛

يواجهون الشرقَ،في تركيا
على سَجّادهم،
وهم يصلّون لربٍّ أرجوانيٍّ
يدخّنُ وهو  يضحكُ
ويلصِقُ بأعينهم أصابعَهم
ليُعمِيَهم، كما يفعلُ الأربابُ؛

لكن الصواريخَ جاهزةٌ: فلم تعد ثمةَ سَكِينةٌ،
ولعلّةٍ ما، فهي عزيزةٌ؛
الجنونُ يجرفُنا كنِصالِ السَوسَنِ،
على بِركةٍ تطوِّفُ عبثاً؛

ويرسمُ الفنانون بغَمسِ
أحمرِهم وأخضرِهم وأصفرِهم،
يوقّعُ الشعراءُ وحدتَهم،
ويتحرّقُ الموسيقيون كالعادةِ
ويتفقّدُ الروائيون العلامةَ،
معَ أنهم لا يتفقّدون البجعَ والنوارسَ؛

فالبجعُ يغطسُ منغَمراً، ثم يبزغُ،
يهتزُّ، كالسَمكِ المشعّ
مشدوهاً،مِن مناقيرهِ، كأنصافِ موتَى؛

تغسلُ المياهُ ، حقاً، عن حقٍ،
الصخورَ بالوحلِ؛ وفي "وول ستريت"،
يتمايلُ المتسَوّقُ كالسِكّيرِ الضائعِ
بحثاً عن مِفتاحهِ؛ آهٍ،
سيُطَيّبهُ الله:

قد نستعيدُ
أسنانَنا القواطعَ، قِردَنا المجنّحَ،
وهو يحكّ خَوذتَه 
نُتفةً نُتفةً،
أجهزتَنا والمرايا؛

يندفعُ البرقُ عبرَ
النافذةِ وفي مليونِ حجرةٍ
حيثُ يرقدُ العشّاقُ مشتَبكينَ ضائعينَ
ومرضَى بالسَكِينةِ؛

ولا تزال تنشَقُّ السماءُ عن أحمرَ  وبرتقاليٍّ
للعشّاقِ والفنانين،
تتفتّحُ الأزهارُ  كما تتفتّحُ
دائماً، لكن مغطّاةً بغُبارٍ خفيفٍ
من وقودِ الصواريخِ والفِطْرِ،
الفِطْرِ المسمومِ؛

وهي ساعةُ نَحسٍ،
كلبٌ ـ على سَجّادٍ ـ مريضٌ،
وهو الفصلُ الثالثُ، غرفةُ ستديو  فقط،
مُباعةٌ، مُباعةٌ، ومُباعةٌ من جديدٍ،
للهِ، لأحدٍ ولشيءٍ ما،
للصواريخِ والجنرالاتِ،
للزعماءِ، الشعراءِ، الأطباءِ، وللهَزليّين،
لمعاملِ الحساءِ
والبسكوتِ
للباعةِ ذوي الوَجهين
من غيرِ حِذقٍ؛

قد أرى الآنَ غبارَ  الفحم
يلوّثُ الحقولَ، حلزوناً أو اثنين،
مَرارةً، زُجاجاً بركانياً، سَمكةً أو  ثلاثاً
في المياهِ الضّحلةِ، افتراءً على
مَنشَئنا بل ومنظرنا...

أَهْوَ  حدَث من قبلُ؟ هل التاريخُ
دائرةٌ تلحقُ ذاتَها مِن ذيلها،
حلمٌ، كابوسٌ، حلمُ جنرالٍ، حلمُ رؤساءَ،
حلمُ طُغاةٍ...

أوَ  لا نفيقُ؟ 
أم أنها أكبرُ  منا، قوى الحياةِ؟
أوَ  لا نفيقُ؟ أم علينا، للأبدِ،
أعزائي الأصدقاءَ، بنومِنا، أن نموتَ؟

................................

(*) تشارلز بوكوفسكي: (1920/ 1994)، أمريكيّ، من أصل ألمانيّ، شاعر  وقاصّ وروائيّ، يمثّل "الواقعية القذرة" ومتجّهات الفنّ العدوانيّ الانتهاكيّ، من دواوينه: قبض قلبي بيديه، شارع الرعب ودرب اللوعة، محترقاً في الماء وغريقاً في اللهب، الحبّ كلبٌ من الجحيم، الحرب طيلةَ الوقت، الليلة الأخيرة على الأرض، ليلة جُنت من وقع الأقدام، ومضة برق وراء جبل، يشبه الناس الأزهار  في النهاية. من رواياته: نساء، مكتب البريد، هوليود. من مجموعات قصصه: بيانات عن عجوز قذر، جنوب بلا شمال، حكايات عن جنون عاديّ.  

(*) الشكر للأستاذ والشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم .

الأحد، 27 نوفمبر 2016

هيدغر والرؤية السياسية[1]

بقلم  :بيتر سلوتردايك

ترجمة: سعيد  بوخليط.



بأي معنى يمكننا التحدث عن "سياسة هيدغيرية" ؟ سؤال مركزي حاول بيتر سلوتيردايك ، الإجابة عليه في محاضرة ألقاها شهر دجنبر 2004 بمدينة ستراسبورغ.
انطلق هذا الباحث، من أطروحة تتناقض مع شهادات كثير من الزملاء والتلاميذ وكذا الأقارب، الذين تمسكوا بصورة عن هيدغر تظهر انتفاء "أية علاقة له بالسياسة" ـ مما يفسر عدم تبصره سنة 1933 ـ فقد توخى  سلوتيردايك إظهار الوجود الفعلي لإشكالية سياسية في فلسفة هيدغر خلال المراحل الأولى.
بترخيص حميمي من الكاتب وناشره الفرنسي "مارين سيل"، ننشر  القسم الأول من مداخلته، حيث قام "أوليفيي مانوني"  بإنجاز ترجمتها عن اللغة الألمانية.
تجد الفلسفة الهيدغيرية ذاتها في سياق فلسفة نموذجية للتاريخ، أثناء  سنوات 1930، ينعتها سلوتيردايك ب " الواقعية الجديدة". فالدازين Dasein الهيدغيري ، سيتم التفكير فيه داخل مسار حقق مجموعة من التحولات جاء بها كل من ماركس و داروين و نيتشه ثم فرويد، يقود إلى واقع " يتأسس من الأدنى إلى الأعلى".
يقوم إذن السؤال السياسي، في إطار صعوبة توفيقية، بين مغامرة جديدة للكائن، محض فردية، مع حجم تاريخ فوق ـ فردي، "زمانية أنطولوجية لجماعة تستعملها من أجل حقيقة، تتوخى تجسيدها أو الحفاظ عليها".
" سياسة هيدغر"، هذا يشير كمرحلة أولى إلى مشاركة مفكر شاب،  في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الأولى. رجل، طبعته الكاثوليكية القديمة، الوسط القروي، والجامعة، ثم ذلك الحدث الكبير لتاريخ الذهنيات، أقترح لتسميته تعبير " قيامة الواقع" . ليس هناك من شك، في ابتداء هذا الحادث فعليا قبل سنة 1918. يمكننا مثلا،  إظهار بأن ذلك أضحى بارزا بعد موت هيغل ، حينما دفع النزاع حول تراث الأستاذ، يسارا ميتافيزيقيا لكي يأخذ منعرجا ويضع على عاتقه مهمة جعل لغز الفلسفة شعبيا إلى أقصى حد. بناء على دعاية اللا-إيمان، فإن اللغز الأكثر حماية من قبل أساتذة الحكمة القدماء، تفشى في الوسط البورجوازي : الاكتشاف الباطني بعدم وجود إله أو آلهة. وبالتالي يشكل العالم الواقعي، حيث نقيم، الوجود الحقيقي. بالطبع، ليست لنا غير معرفة ضئيلة جدا بهذا الخصوص، لأن رؤيتنا التي تربت على التعالي تنساب عادة، دون إدراك للقوى المؤسسة للواقع.
على امتداد آلاف السنين، تركنا الشعب سواء بأفراده الساذجين أو المتعلمين، يفترض بأن هذا العالم الحقيقي المحتمل، يوجد في عالم آخر متعالي، لكن ها هي ساعة استرجاع الواقعي للحقيقي قد دقت وحانت. في هذا السياق، تمكنت اتجاهات حركة ما بعد ـ المثالية من وضع جدول أعمال يتمحور حول الهنا.
 أسماء الأربعة : ماركس ، داروين ، نيتشه ، وفرويد. أو أساتذة التفكير في القرن التاسع عشر، كما اعتبرهم "أوجين روزنستوك هيسي" سيرسمون، أهم أبعاد الأدب الواقعي الجديد القائم على الكشف : حينما تحدثوا عن الإنتاج المادي، حيوانية الإنسان، إرادة القوة، ثم أقنعة الليبيدو. فذلك، ليهذبوا فكر المحدثين على الإيمان بالقدرة الكلية وكذا الحضور المطلق لواقع يتأسس من الأدنى إلى الأعلى، بحيث تبقى دائما البنيات الفوقية في ارتباط مباشر تقريبا مع قوى القاعدة الضخمة.
علماء الفيزيولوجيا، ثم البراغماتيون وكذا الأنثروبولوجيون هم أساتذة الخلف والسلف. ينتشون بنظريات الأصل والسلالة والجنيالوجيات، التي ترى فينا ذواتا تنحدر من أسلاف مختلطين. في حين،  عمل البرغماتيون على انتشالنا من أوهامنا المتعالية. يتمثل الموضوع كل مرة، في الوصول إلى أرض الوقائع والقوى التي تنهض عليها مطلق ممكنات العصر الجديد. من الآن، نستخلص حقيقة الواقع من الأجساد، المال، إرادة القوة وكذا حركات هذه القوى الأساسية.
علينا، ربما العودة بقيامة الواقع إلى تاريخ الثورة الفرنسية. إبان، هذه اللحظة وللمرة الأولى منذ التوقف الكبير للمسيحية، سادت برغماتية ذات مسحة رومانية جديدة، تحولت إلى طريقة حياة le modusvivendi هيمنت على أوروبا. يقوم هذا المركز الخفي  في الباطنية الطبيعية للماركيز دوساد ، حيث تنكشف تلك الحقيقة الأخيرة حول المادة القادرة على الإسعاد، خاصة للعقول الحرة النادرة التي تصبح وسائل إعلام  حقيقية للطبيعة، ما إن تعلن اعتقادها بالجريمة التي تعتبر كأقصى تقنية للسعادة. من غير المفيد تفسير، لماذا النسبة الكبيرة من الواقعيين الجدد حتى ولو أضافوا صفة "جذري" إلى راياتهم، فقد ظلواعلى مسافة حيال هذا النوع من التفاقم.غير أن، ما يربطهم ثانية ب ساد Sade، هو الأفق الأنثروبولوجي الجوهري، الذي يحتم مساعدة الإنسان، المبدع والطموح كي يجد إشباعه داخل العالم.
لا يكمن دورنا هنا، أن نفسر بشكل دقيق كيفية دخول هيدغر في اتصال مع تيار الواقعيين الجدد. يمكننا، أن نأخذ إذن كما هو  التحول الذي عرفه من شاب مدرسي إلى آخر راديكالي. الذين فحصوا سيرته الذاتية، وقفوا على الانطباع العميق الذي تركته لقاءات هيدغر  الكاثوليكي مع أعمال لوثر  وكير كجورد أثناء الحرب العالمية الأولى. يظهر من المؤكد أيضا، قراءته ل دوستويفسكي  سنوات 1920، فأفاده ذلك كثيرا، مستعيرا بعض الدوافع  مثل الخوف والضجر. علينا إدراك خاصة، بأنه بعد قطيعة هيدغر مع أصوله في الدين والفلسفة المدرسية، تميزت أعماله الناضجة بتفخيم متطرف، وحضور قوي للمزاجية، لكنها تتماثل مطلقا مع الحقبة.
لم يكن قط المفكر، أكثر اقترابا من القطب المولد لطاقته المفهومية، إلا اللحظة التي اشتغل فيها على هجرة شبه أبدية للمعرفة المدرسية، مع دخوله الزمان المتمرد للدازين Dasein المعاصر. يتموضع هذا الدازين كليا، تحت الإضاءة المضطربة لارتباكه وهيجانه. أفصح المفكر، في هذا الشأن عن قوة تفسيرية تشكل أفضل شهادة عن عبقريته. مفهوم، الدازين أو الوجود - هنا، يتحمل على الفور تذبذب وعي بالزمان يتحقق بقوة. يعمل الوجود، في الأسلوب الواقعي الجديد، على إبراز الحركية ضدا على التعالي. ويمارس بالتزامه الذاتي، عدم خلوده. ثم، بانحداره من هذا العالم الثاني الذي أضحى حينئذ غير قابل لكي يدافع عن نظرية التباعد، فإنه يتوخى الانصهار مع تدفق وسيلان الحاضر (التعبير عن ذلك بنبرة لينينية : تحققه)، مندفع باستعداده الذاتي نحو الحقيقة، لكي يؤكد على انتمائه للعصر المتهور. تضخيم الخروج من العالم الآخر، ينفذ إلى طمأنينة بطولية، سمة لا تميز فقط الفكر الهيدغيري فترة الأوج، بل يمثل إحدى الخاصيات البارزة للممارسة الفلسفية، والإبداع الفني في أوروبا بين الحربين العالميتين. المفكر الذي سعى القيام بوساطة إعلامية لمهمته الطليعية، وأن يصير مكبر صوت بخصوص قيامة واقع يحتضن بشكل مضاعف "زمانه الخاص".
 من جهة، أكد هيدغر استعداده للانخراط والمشاركة في اضطرابات العصر. لكنه، من ناحية ثانية، يغرق في قلقه الانعزالي الذي هيمن على وعي سلوكه الخاص. يتسم إذن العنصر المميز لوجود يخضع جذريا للإثارة، بتمرينين للسلب. يتجلى المظهر الأول ، في افتقاد  مقبول، لموقع ثابت أمام الزمان الذي يعبره أو يمر خارجه، مادام وحدها الوضعية التي تنساب معه، يمكن الإقرار بها كنموذج إلزامي للواقعية المعاصرة. بينما يتجسد المنحى الثاني، في إقرار المفكر بالسلب النهائي لذات مؤجلة، ستحمل له موته الذاتي. لقد غير بذلك، فيلسوف الطليعة المنظور البورجوازي والأكاديمي لمقولة : (( أفكر، إذن أنا موجود. وبقدرما أنا موجود، أتملك ذاتي بيقين)) ضد المنظور البطولي/الفني ل : ((سأموت لكن، ليس الآن. أريد، القيام بشيء خالد خلال الزمان الذي تبقى لي)).
مثل كل الواقعيين الجدد للقرن التاسع عشر، الذين طوروا قيامة العمل والحيوانية. تميزهيدغر في مرحلته الواقعية الجديدة الصاخبة، تميز بقيامته المستندة على الزمانية الوجودية، ينفتح في إطارها معنى الوجود فقط، للوهلة الأولى بناء على كائن - للموت.
مع ذلك، لم يكن هيدغر  صائبا، في إعادة تجميع بطريقة مقنعة، التزمن الفردي للكائن من أجل الموت (وتعبئة ما تبقى له من وقت في حياته لمشروع تحتاج إليه الآنا) مع التزمن الجماعي، بالانتماء لجماعة، يغيرها التاريخ داخل العالم. حول هذه الإشكالية بالضبط، تبدأ سلسلة العمليات الذهنية، التي قد نسميها بنوع من المشروعية الموضوعية : سياسة هيدغر.
 يتعلق الأمر في هذا الصدد، كيف لي، أنا الفرد الملقى به داخل العالم أو العدم، معرفة كيفية التخلص من التقادم الذي يقودني نحو موتي الذاتي. أن أقتحم الزمان الذي يفصلني عن الموت حتى "أعبر" إلى زمان الحياة وتأسيس تاريخ  جماعي شامل.
إن مكتشف معادلة الوجود والزمان، مجبر على تفعيل انتقال لهذا النموذج. لأنه طبيعيا، لم يكن بإمكانه حصر الفرد داخل وجودية (يمكننا أيضا القول : الوصف الافتتاني) كائن – في - الزمان. بوجهة النظر تلك، فكتابه "الوجود والزمان" كما لاحظنا باستمرار، ليس له إلا وظيفة تهيئ. لكن، مفاهيم هيدغر خلال هاته الحقبة تميزت بالإبهام بخصوص الطريقة التي يمكننا بها التفكير لإدماج تاريخ الدازين في تاريخ  للكائن، بل وكيف نتمثل هذا الأخير كما هو. لكي يقود عمليته الحاسمة (تأهيل الزمانية عبر تحقق الذات أو "مشروع" دازين : Ek-statique) نحو أعمق يتطابق مع السيرورات التاريخية، الفوق ـ ذاتية، فإنه يظهر  نفسه مسؤولا عن التحقق من عقدة أو جماعة تمكننا من إدراك على نطاق واسع اتجاه التزمن الأساسي. من الضروري أن يكون ذك جماعة أو عقدة، تشكل بوجودها الواقعي شرطا لإنجاز مهمة تاريخية ذات طابع كلي، غير قابلة للتفويض أو الرفض.
هيدغر ، حسب ديلتاي Dilthey رائد نقد العقل التاريخي، يدرك سلفا لماذا الانتقال من زمان الفرد إلى زمان العالم لا يمكنه أن يحدث بطريقة مباشرة. وبالتالي،  لا يتم دائما إلا بشكل غير مباشر. إذا كانت المعرفة السيرذاتية الفردية تنطوي بالتأكيد على قدرة لإضاءة السيرة الذاتية الخاصة، كمجموع يفهم نفسه. فعلى النقيض، لا فرد له القدرة على أن يعيش ويحكي تاريخ العالم، مثلما يفعل مع سيرته الذاتية. عليك، أن تصير شخصيا فكر العالم حتى يحصل عندك حدسا بمجموع كائن يتغير بتاريخ وضعيته الحالية.
يتعلق الأمر إذن باكتشاف منفذ آخر، داخل التاريخ ما فوق ـ الفردي. نعرف، بأن هيدغر في سعيه لتحديد الزمانية الجماعية، فقد جرب  تتابعيا كثيرا من الحالات وكذا نماذج مختلفة جدا بل ومتعارضة. انطلاقا، من زمان للبدء ثانية وانقلاب الشعب الألماني، بالانتقال من زمان نضج الاشتغال الفني إلى غاية انتظار الصامتين بالريف، الذين يترقبون وحيا جديدا أو إلها أخيرا. هذا الإله سيضع ظهوره أو "مروره" نهاية لسلسلة القيامات اتجاه العالم الدنيوي. يتحدد الأمر  في كل مرة، بالنسبة للمفكر تشييد جسر بين الزمانين النوعيين. إذا كان هذا المعبر حقيقيا، فمن الضروري أن يؤسس انتقالا مستساغا بين الزمانية الوجودية للفرد المنقطع لموته الذاتي، ثم المشروع الذي عليه أن يخلقه قبل ذلك، ويتحمل مسؤوليته. ومن ناحية ثانية، فالزمانية الأنطولوجية لجماعة تخدم حقيقة، سواء بتحقيقها أو الحفاظ عليها، أو من أجل عمل يقوم بصياغة العالم.
سنلاحظ على الفور، الجانب التهكمي لهذا التحول. لقد حملت بالتأكيد الأنطولوجيا الوجودية، توضيحا خالدا حول النقطة التالية : يؤسس سلوك الفرد بنية زمانية فريدة، والتي بقدر ما هي وجودية، تميزت كليا، عن الزمان الفيزيائي والكوسمولوجي ثم الزمان الثري، كيفما كانت شروط الحضارة (حتى ولو كان على الطب المعاصر، أن يجيز مكتسبات جليلة جدا، لزمان الحياة). لكن هذا لا يقال، إذا توخينا الحصول على إثباتات واضحة جدا بالنسبة للبناء الزماني للعقد والجماعات. يبقى أيضا، سؤال المعرفة منفتح كليا إذا أمكننا في كل الظروف، القيام بتشكيل دائم لوظائف أخرى أو حركات تاريخية. ثم، إذا كان "التاريخ" في كليته مع المهام التي يستدعيها، لا يمكنه من ذاته الوصول إلى نهايته. من يستبعد، بأن التاريخ في مجموعه ينتقل إلى حالة أخرى، تكون بدورها أكثر قربا من الأزمنة الدائرية لتطورات الطبيعة والاقتصاد ؟ إذا كان هذا حقيقي، فإننا سنفقد أكبر قطب للحدث والتحول المبحوث عنه بين  الزمانين الفردي والجماعي، الذي أتلف في نطاق ما رأس العبور إلى الضفة الأخرى. أريد هنا تطوير الدليل، عن الارتباط الفعلي لكل ترددات هيدغر المنطقية والسياسية، بذبول المحور العمومي والجماعي للزمانية الأساسية.
يعرف منذ 1929 أو بعدها، بأن أشخاص الزمان الحاضر، لا يمكنهم في جميع الأحوال، تأكيد كونهم لازالوا يعيشون في "التاريخ" قدر اقتناعه، بعدم إمكانية بقائهم دائما أمواتا. أؤكد بأن أستاذ تودنبرغ Todtnauberg ـ مثل ألكسندركوجيف فيما بعد ـ كان قد اكتشف على طريقته "نهاية التاريخ" أو على الأقل الإمكانية الحالية لنهايته، وسأحاول تبيان ما هي المقاييس التي اتخذها للانفلات من نتائج اكتشافه هذا.
إذا حقا وجد شيء اسمه "سياسة هيدغر "، فذلك فقط في الطريقة التي من خلالها أوحى إلينا المفكر بمشاركته الفريدة إلى أبعد حد في رحيل الواقعية الجديدة خارج الأعراض المرضية الميتافيزيقية لأوروبا الشائخة. إذ أدركنا، بأن الفلسفة عاشت دائما على طموحها لاكتشاف حقيقة الواقع وضبطه بمصطلحات مفهومية، سنفهم بشكل أفضل لماذا كان على الفكر المعاصر امتلاك هذه القضية بطريقة صريحة أكثر من قبل، والارتماء بحماسة زائدة عن كل ما سبقه، في التنافس مع الواقعيات التي أعلنت عن نفسها منذ ذاك الحين عمومية. واقعية هيدغر  الطليعية، القائمة على المنطق الزماني، تظهر ببعد أكثر راديكالية، مقارنة مع باقي الواقعيات الأخرى. لأنه برؤيته، العنيدة ل الدازين  كوجود للموت، انتقل بالزمان الاعتيادي، المبتذل والهامشي بعد إذلاله ودحضه بشكل قصدي ما دام يمسك بالجزئي على حساب الكلي، ثم شيده على أرض سيادة الوجود المتحرك ؟ فهي باعثة مطلقة للأقدار، تحول للأشياء التي أخذت سابقا دورا واقعيا جدا، بل وحتى الزمان المدمر كعنف للتلاشي، يبدو الآن على منوال من يذهب في إطار تراجيديته المظلمة، إلى ما وراء الخطاب الهيغيلي حول التاريخ باعتباره مستودعا للأموات. لم يبق للفيلسوف أولا  أمام هذا الإلحاح،  غير دور المحرض البطولي : أي، الدازين الذي صمم على أن يكون ذاته، يحدد شكل قدرة الوجود المندثر والوجود المتحول داخل الزمان. لكن، كما قلنا، لا يمكن اختزال الزمان الوجودي إلى التباعد بين "لازالت هناك خطوة الآن"، ثم "الآن النهائي" لموته الذاتي. يتمثل الأمر بالنسبة للمفكر، في إعادة تشكيل  زمانية تتموقع فوق نزوعه الخاص نحو الموت، وإدماج هذه الأخيرة. بالضبط زمان " تاريخ"، علينا إظهار، أنه لا يجسد فقط تحولا تحطيميا للأفراد والأجيال، لكنه يقدم البراهين أيضا على إبداعيته وكونه صاحب مشروع. وبشكل أفضل، مثل وعاء يتضمن سيرورة حقيقة كلية. كما أوحى لنا بعد ذلك، بمفهوم عن تاريخ للكائن سيمكن هذا المبتغى desideratum  من التمفصل.
الترافع لصالح إبداعية هيدغر  المفهومية أثناء أقصى مرحلة ذكائه، لا يمكننا على الأرجح، تمديدها أبعد من سنة 1930، مع دخوله أفق أنطولوجية دراماتيكية للراهن  بعد الانتهاء من كتابه : "الوجود والزمان". السمة القوية للوجود - هنا l'être -là داخل زمان حاضر ومؤرخ، سيكتشفه هيدغر  حاليا فيما سماه .stimmungen : "خصائص عميقة".
الخاصية، حمام صباغة ينغمس فيه الوجود مبكرا جدا، بنوع من السبق والاختراق الكافيين، حتى تتمكن الصبغة التي اكتسبها من مجابهة كل شيء فردي كيفما كان، سيقدم نفسه بعد ذلك على طريقة الوجود المعطى موضوعيا. مهما التقيناه فيما بعد، تفصيليا، باعتباره موضوعا، حالة موقف ووضعية، فإن هذا لا يمكنه الظهور إلا من خلال تلون الصبغة التي تسبق (مباشرة) كل من توخى، التوجه إلى الإنسان بطريقة أكثر عمقا من صنيع الفلسفة التقليدية وامتدادتها داخل فلسفة الأنوار، عليه التموضع عند هذا المستوى ما قبل الموضوعي، ثم الشروع من هنا في الاشتغال على الخصائص العميقة. هذا يدنو بنا في الآن ذاته من القطب الكبير لمجرى التاريخ، مادام أن الصبغة العميقة قد تخبرنا عن مرحلة التاريخ (حتى وإن تعذر عليها توجيهنا نحو كيفية مساره وكذا غايته).
مع اكتشاف تيمة الصبغة، تحول الفيلسوف الأكاديمي إلى طبيب سريري ميتا- سياسي أو بالضبط : عالم نفس ومدرب، تكمن مهمته الأولى في تحضير مرضاه للعلاج وإثارة انتباههم بخصوص أحكامهم  القبلية، الأكثر مغالاة وحميمية حول الدازين في مجموعه، وخصائصه الوجودية. يقوم الإجراء تقريبا على مبدأ الطب التجانسي الذي وفقه من الضروري البدء بتهييج أعراض المرضى إلى حد الذروة قبل أن تأتي أزمة تحمل النهاية أو المنعطف. التشخيص دون انفلات للخطأ، حيث معاناة الإنسان المعاصر  من ذيوع معمم، شر يتجلى في عدم القدرة على اقتناعه حقا بشيء ما، يصاحبه نزوع لكي يركض مع الآخرين، ما إن ينبعث إحساس عمومي وجعل الأذن مستعدة لأية محاولة اقتناع.
في خطابه الجديد حول الخصائص العميقة، اكتشف هيدغر عمليا التغير الأنطولوجي لأعراض الحيوية القصوى وكذا الشخصية المتعددة. لكن مع ذلك، لا يميز إلا بطريقة سطحية حمولة  اكتشافه. إذا كان من اللازم، أن يصير المزاج العميق مهما، فلأنه يمفصل أول رباط إيجابي بين الوجود في زمانه الخاص والوجود داخل الحقبة. من جهة، يشكل الجسر المفتقد (أو على الأقل، نقطة الارتكاز لجسر محتمل) بين الفردي والجماعي، في نطاق انصبابه على فئة من الموجودين داخل وضعية زمانية مشتركة. ومن جهة  ثانية، يمنح توجها يسبق أية نظرية، لكن أيضا كل واجب، في نطاق كونه يقود إلى تخفيض مستوى تأسيسات توجهاتنا الذهنية، المرور من "مجرد" البداهة المنطقية والإيتيقية إلى بداهة وجودية مخترقة، أي الانفعال Ergriffenheit.
تعبير الانفعال، كما أصبح دالا عند هيدغر منذ نهاية سنوات 1920، يقصد به، كيف يمكننا التفكير، في أن قطب الكائن يستولي على الوجود. الانفعال، بخاصية عميقة أسعى إليها واعيا، هي في إطار ما صيغة قدرة امتثالي، لبداهة وضعية تحدد المستقبل منذ الماضي.
ما بين سنة 1928/1929، كان هيدغر عند نقطة أمكنه خلالها التفكير في إطالة عمله حول زمانية الوجود انطلاقا من محور كوني أبعد حقا من ولوج الحقول التي هيأت لعمله :الوجود والزمان. فهو يتوفر حاليا، على بنية مفهومية تمكنه من الربط بطريقة واعدة الدازين بالعقدة الجماعية زمان- مكان للقائم المباشر. واقعة بارزة، حيث يتعلق الأمر دائما بمفاهيم تخول تمييز الإقامة في حقبة بين مائين، لأن ما يمكن قوله للوهلة الأولى حول حاضره الخاص، هو الفراغ، الضجر، الغموض مع الافتقاد للأحداث الحقيقية. إذا استندنا إلى الصيغ التي ركز عليها هيدغر  سنوات 1920 حتى يحدد الوسط الجمعي، فسينتقل حينئذ إلى المكتشف الحقيقي وصاحب نظرية : ما بعد التاريخ. أوصافه المتعلقة بالوجود الزائف، في الفصول الشاذة حول الجماعية "On" الواردة في كتابه :الوجود والزمان. لكن أيضا تحاليله للضجر في درسه حول "المفاهيم الأساسية"، لا يترك أي شك بصدد النقطة : توجد عندنا، قضية تشخيص للحقبة من الطراز الأول. تصف هذه النصوص الوضعية الوجودية لأشخاص سقطوا خارج كل تاريخ عاقل. حينما نوجد اليوم، تؤكد الفلسفة الواقعية الجديدة، فإننا نصطدم في كل مكان بالتصنع الخالص، ونلاحظ انكشافا للآني في كليته داخل الفضاء "الدنيوي" الغامض.  



[1]  ـ  Peter Sloterdijk : La politique de Heidegger. Les collections du magazine littéraire – Hors, Série n° 9, 2006, PP :  42/45.

عبد الرحمن بن خلدون : السقطة التاريخية


بقلم الباحث: سعيد بوخليط


ستلبث، صورة سقراط متجرعا السم، فداء للحقيقة.المرجعية المثلى لما ينبغي أن يكون عليه المثقف، أو العارف بسر النار.اعتبارا،لأفق عصره وكذا مصير المجموعة الإنسانية التي ينتمي إليها. فنادرا، إن لم يكن منعدما، استساغة حديث سلبي عن مثقف وازن، فما بالك بمؤسس من بناة الحضارة،كما الشأن مع ابن خلدون،ومن على منواله.
في مقام كهذا،يختلط لدينا غالبا التهيب بالانذهال، إلى درجة التوثين والتقديس. هكذا ،لن تذهب الجرأة العقلية،بأي واحد منا،مهما بلغ دماغه فطنة و اتساعا لحمولة الاختلاف، كي يعثر لدى ديكارت مثلا،عن فضيحة بشكل من الأشكال، تخلخل صرحه الفلسفي. أو، يبرز عند ابن رشد تناقضا فجائعيا بين مادعا إليه فكره، ثم تصرفاته على مستوى حياته اليومية. إلخ.
بمعنى، ذاك التطابق الهوياتي، في أقصى تجليه الميتافيزيقي،بين الإنتاج المذهبي للمفكر، وممارسته التجريبية. اللهم، ما كان يدخل في إطار الجانب الشخصي، المحض لحيواتهم، ولا يمس من قريب أو بعيد منظومتهم المفهومية، أو يخل بقاعدة مماهاة المفكر لفكره، حينما يختبره الموقف و المسؤولية.
لقد نمذج لنا التاريخ، حالات كثيرة عن علماء وفلاسفة و أدباء وروائيين، مارسوا الشذوذ واللواط ومختلف الانحرافات الجنسية، وعاشوا يومياتهم متسكعين وبوهيميين ومعربدين ... .ذلك شأنهم الخاص،واختياراتهم الفردية، ولايحق لأي محاكمتهم عليها.
ما يهم أساسا، السلوكات الموضوعية المفصلية، التي بانتقالها إلى دائرة العام، تحول مجرى التاريخ نحو هذا المنحى أو ذاك المنتهى.عندما، تطرح الأبعاد الأنطولوجية الكبرى: الشجاعة، الوفاء ،الاختيار، المصير،الرهان، التحدي، المجابهة، إلخ. وهي المرتكزات، التي استفاض في تحليلها، الفلاسفة الوجوديون وجل منظري التجارب اليسارية، إلى حد أن سارتر سيتنكر مطلقا لجدوى الأدب، حينما يعجز هذا الأدب،عن القيام بشيء لصالح الإنسان في لحظاته المأساوية.
بالنسبة، لبيوغرافيا مفكري أوروبا البارزين، تموضعت حالات رصدها المختصون، لاسيما المولعون بالخبايا السيرية، من بينها مثلا، تصنيف النسق الفلسفي الهيجيلي ضمن الاتجاهات الرجعية، وتمهيده الطريق أمام أنظمة حديدية كما الشأن مع بسمارك وهيتلر.
أو أن ألتوسير ، استمر في فترة من الفترات منتجا إيديولوجيا للحزب الشيوعي الفرنسي،على الرغم من الأخير أضحى كتلة عقائدية جامدة، يبرر كليا الممارسات السياسية لموسكو التي تحولت بدورها إلى وجه إمبريالي، مع أن ألتوسير مفكرلامع، ولايبدو أنه حقا منسجم بانفتاح تأويلاته الفلسفية الذكية، مع انتمائه التنظيمي البيروقراطي.أو، شيطنة الموقف السارتيري من الفلسطينيين والعرب إبان حرب1967 ، وتصنيفه ضمن الدعاية الصهيونية، بالرغم من شهرة سارتر الواسعة، كمدافع صلب بالقلم والقول والممارسة،عن كل الشعوب المناضلة من أجل حقوقها... .
لكن أبرز حالة، في هذا الإطار تلك النقطة السوداء التي ظلت لصيقة بمسار مارتن هيدغر، لأنه رغم عقله الجبار ونظريته الغارقة في التجريد، رضي لنفسه الانسياق المستلب وراء المنظور النازي، الذي يتنكر لأبسط أوليات العقل، و إن كان هيدغر يعثر بسهولة لكبوته ، عن أسبابها ودواعيها المقنعة من خلال الفوهرر وذات القائد التي تبلور نداء القوة.
لم أكن أعلم قطعا،أن ابن خلدون العالم الاجتماعي الجليل، سيخذل فكره وتراثه وقومه، موظفا بطريقة أكثر من ميكيافلية، رمزيته المعرفية وشهرته وحظوته لدى علّية القوم، وخاصة تطلعه السياسي، كي ينتهي في أواخر حياته منحنيا جاثما على ركبتيه، يقبّل يد تيمورلنك زعيم التتار، الذي كانت جيوشه تحاصر أسوار دمشق. ابن خلدون، لم يكن يطلب خلاصا للمدينة وأهلها، بل يلتمس فقط لنفسه ملجأ آمنا.
الفقيد الكبير،الروائي عبد الرحمن منيف، استعاد حيثيات هذه الواقعة، عبر دراسته لمسرحية سعد الله ونوس" منمنمات تاريخية". نص، يطرح مضمرا إشكالية المثقف ودوره التاريخي وكذا حدود ارتباطه الأخلاقي بما يؤمن به:(( العلاقة بين المعرفة والسلوك،دور الثقافة والمعرفة، وهل يجب أن يكونا في خدمة القوة والسلطان، أو في زيادة وعي الناس وصقل أرواحهم، العلاقة بين الطموح المشروع للمثقف وإغراءات السلطة والمال، ثم ماذا يعني المثقف...هل هو مجرد تقني أم صاحب وجهة نظر وضمير؟)).(عبد الرحمن منيف:   لوعة الغياب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.والمركز الثقافي للنشر والتوزيع.الطبعة الثالثة 2003. ص 30).
التقط، سعد الله ونوس، فترة زمانية قصيرة لا تتعدى الشهرين، لكنها مفصلية في حياة ابن خلدون. وتشير أساسا إلى حقبة إقامته بدمشق أثناء حصار تيمورلنك لها، ومايقتضيه الوضع من ترقب لنوعية التصرف الممكن صدوره عن رجل من عينة ابن خلدون. هو ذاته الإشكال، الذي يتربص بجميع المثقفين في علاقة أولا بذواتهم وضمائرهم، إلى أن تبلغ أحيانا تصوفية الربط بين النظر والعمل، ثم تلك الاختيارات واللحظات الحدية،التي تكشف حقا وبوضوح عن معدن كل مثقف كما يقال.
ابن خلدون، صاحب نظرية في التاريخ والعمران، ومن علماء الإنسانية الأفذاذ، يريد أن ينأى بنفسه عن ابتذالية دوامة كهذه ، لكنها الحقيقة الساطعة التي لاغبار عليها. منيف بدوره، لم يستسلم من الوهلة الأولى للادعاء، مما أجبره على قراءة ثانية لعدد من المصادر التي تناولت الحدث:((لأني كنت،مثل كثيرين، أميل إلى تركيز نظري على الجانب الايجابي في هذه الشخصية ، ووضعها في سياق من اليقين أقرب إلى الثبات، رغم المرارة الدائمة التي كنت أحس بها نتيجة سقطة ابن خلدون تجاه تيمورلنك)).(نفسه. ص31).
طبعا، سيمكن ترميم جزئيات المعطى التاريخي، من بلورة موضوعية، تقوّم شخصية ابن خلدون في أبعادها، بعدم إغفال جوانب وقائعية في حياته، مادام يجب أن نضع دائما في الاعتبار.هذا التمييز: ((بين ابن خلدون العالم،صاحب النظرية، وابن خلدون السياسي.الذي وظف معارفه وكفاءاته من أجل الوصول إلى السلطة. ومعظم الذين كتبوا عن ابن خلدون كان يعنيهم، بالدرجة الأولى، الجانب النظري. لذلك أهملوا، أو تغاضوا عن الجانب الآخر))(نفسه ص32).وهذا ربما، ما يقود إلى انقسام في الآراء، وتعدد الأحكام، حسب ما ينبغي  استثماره من ذاكرة ابن خلدون. هل ينبغي التقاط زبدة فكره الرائع دون التفات إلى حياته الشخصية التي يكتنفها الغموض والالتباس؟.أم يلزمنا  فعلا، تشرب منطق الثقافة ذاته، والتحلي بالنزاهة بغية قياس العالِم بمكيال من ذهب، حيث عقله جنس غرائزه، و الأخيرة توأم لروحه.  فيغدو، المثقف كل هذا: معتقد وسلوك وواجب وموقف.
مع كل ذلك، لايمكن حسب الروايات الواردة في هذا المقام، فصل خذلان ابن خلدون لشعبه و انبطاحه غير المتوقع أمام تيمورلنك، عن مسارات هذه الشخصية السياسية الطموحة بكل الصيغ، و تواجده الدائم في المواقع الأمامية لجهاز الدولة، وعلاقاته الواسعة بالحكام والأمراء والولاة، ودأبه على حياة البلاط، فازدادت تطلعاته وكبرت:(( الاعتماد أو الاقتصار على أحد   المرتكزين اللذين شكلا حياته :  الممارسة العلمية او الكتابات النظرية، لابد أن يقود إلى فهم ناقص أو خاطئ لهذه الاشكالية الشديدة الغنى والتعقيد والتنوع والتناقض في آن واحد))(نفسه.ص39). وبالرغم من مغامراته السياسية، وتقلده لمناصب عديدة، وامتلاكه للأموال، وماينعم به من حياة الترف، فقد حرص ابن خلدون دائما، على الارتباط بمهنة التدريس : ((كوسيلة لايصال أفكاره وبث آرائه، ولكسب الأنصار والمؤيدين، وأيضا لمعرفة كيف يفكر الآخرون، وماهي المشاكل والهموم التي تشغلهم أكثر من غيرها))(نفسه.ص.39)
إذن، حين بدأ تداول الأخبار، عن فضائح الغزو التتري وما ارتكبوه في حلب، انطلق السلطان "الناصر فرج" على رأس جيشه من مصر للتصدي لهذا الغزو، فاصطحب معه هيئة ، تضم كبار موظفي الدولة، ومن بينهم ابن خلدون :   ((الذي يحاول السير في الحملة، لكن حاجب السلطان "بلين القول وجزيل العطاء")) (نفسه .ص.43.) سيرغمه على تغيير رأيه. إشارة أساسية أوردها منيف، تكشف عن الطبيعة الزئبقية لشخصيته.
تواجه الجيشان، وكانت الكفة مائلة إلى جانب معسكر السلطان، نظرا لشدة الدافع النفسي وشدة العزم، من أجل الدفاع عن دمشق ضد الغزو التتري. لكن، فجأة وقع تفكك في صفوف جيش الناصر، لما انسحب عدد من الأمراء وقرروا العودة إلى مصر. لذا، اضطر السلطان إلى ترك المعركة، وأخذ الطريق ثانية وجهة مصر، كي يلاحق المتمردين. طبعا، في خضم أجواء كهذه تراجع زخم المقاومة، وأصبحت دمشق مستباحة أمام تيمورلنك.
بقي ابن خلدون مع المجموعة، التي لم تغادر. بعد أن حدس بعقليته السياسية الذرائعية، موازين القوى فقرر تجنب الهلاك قبل فوات الأوان، بالارتماء في أحضان التتار،لأنهم منتصرون لامحالة. يقول ابن خلدون : (( وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ماوقع من الاستنامة إلى القول، وبلغني الخبر فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب وطلبت الخروج أو التدلي من السور، لما حدث عندي من توهمات الخبر))(نفسه.ص.45). ثم،التقى ابن خلدون بتيمورلنك : ((فلما دخلت عليه فاتحته بالسلام،وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إلي فقبّلتها، وأشار بالجلوس حيث انتهيت، ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم بيننا))(نفسه.ص.45). لم يفصح فقط ابن خلدون، عن موافقته غير المشروطة لتسليم دمشق، بل، أقر طلبا لتيمورلنك، يحيل مضمونه على ماننعته بلغتنا المعاصرة، إنجاز تقرير استخباراتي عن أحوال المغرب، حين كلفه بكتابة وصف لبلاد المغرب، وكل مايتعلق بجغرافيتها و أماكنها.
عاد ابن خلدون إلى جماعته، وشرع في لعب دور جوهري كي يقنع الوجهاء والقادة، بضرورة تسليم مفاتيح المدينة إلى تيمورلنك، الذي سيدلي أمامه ابن خلدون، بشهادة تنم عن أقصى دلالات التملق والمداهنة السياسية ((إنك سلطان العالم،وملك الدنيا،وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك))(نفسه.ص.46). لم يقف ابن خلدون عند هذا الحد، بل دفعه موقفه الغريب، ملتمسا : ((أن يكون في بطانة تيمورلنك، وفي خدمته،كما فعل مع أمراء وسلاطين عديدين سابقا،وربما طمع بلعب دور سياسي جديد،لكن تيمورلنك لم يستجب لمثل هذه الرغبة.ومع ذلك لم ينقطع ابن خلدون عن الزيارة وتقديم الهدايا)).(نفسه.ص.47).
إضافة، إلى هذا الحدث التاريخي، الملغى من طرف الباحثين،ربما حفاظا على نقاء صورة ابن خلدون، أدرج عبدالرحمن منيف ، على ضوء مسرحية ونوس، حوارا في غاية الإثارة بين العالِم الجليل وتلميذه شرف الدين، بحيث يبدو ابن خلدون متهافتا كل التهافت.
تتزاحم أسئلة شتى، داخل رأس التلميذ التابع حد الحرقة، نتيجة المواقف غير المفهومة لأستاذه، الذي يحاول الدفاع عن قناعاته، محتميا بقيم العلم وصرامته الموضوعية، مما يدعو إلى التخلي عن كل نزوعات الهوى و الانفعالات والميول القومية والوطنية. لذلك، وباسم قانون-موجها الكلام لشرف الدين-((حين تريد أن تسجل الوقائع، ينبغي أن تسيطر على الانفعالات والعواطف أو تلغيها))(نفسه.ص.50) ، يرفض ابن خلدون تماما، تعبئة الناس وتحريضهم وشحذ هممهم، كي يجاهدوا دفاعا عن مدينتهم: (( لايتحدث عن الجهاد هذه الأيام، إلا رجل يضرب في الوهم، أو يريد أن يلبس على الناس))(نفسه.ص50). إذن، سينأى بنفسه  عن دائرة المؤدلِج كي يظل عالما. قد يبدو كلامه صحيحا، لو اتصف ابن خلدون بنزاهة العلماء وحيادهم منذ البداية، ولم يتدلى من سور المدينة، مسرعا نحو النجاة بجلده. كما أنه مارس التضليل، فأوهم الناس،ومارس في حقهم خديعة لا تغتفر، لما ساهم إلى جانب آخرين طبعا، على إقناعهم بضرورة تسليم دمشق سلما كي يتجنبوا الوحشية التتارية. لكن العكس ماسيحدث، فرغم ميثاق الأمان، غدت دمشق أنقاضا خربة. إذن، حتى ولو أخل تيمورلنك بوعده، و أطلق العنان لهمجيته اتجاه المدينة و أهلها، فابن خلدون على إيمان مطلق: ((أنك، إذا لم تسيطر على قدرة عواطفك فلن تحوز ملكة العالِم وشروطه))(نفسه.ص.51). بل، ويستهجن سلوك عالم آخر، من نفس طبقته، وهو هياج التاذلي الذي قتل في المعركة، فقد وصفه ابن خلدون، بأنه تغلبت لديه :(( انفعالية الدهماء ،على حكمة العلماء))(نفسه.ص.51). كما، أن هذا التاذلي: ((لم يكن إلا موسوسا، وأنا أنفر من الموسوسين))(نفسه.ص51).
يستنكر ابن خلدون، وصفه بالحياد إزاء محنة أهله، كما جاء على لسان تلميذه، بل يفسر تصرفه كونه رجل واقعي يلم إلماما واسعا، بقوانين الأحداث ومجريات الوقائع، لذلك فلا علاقة للعالِم بمهمة، أن يتلمس الناس بواسطته طريق الحقيقة. بل، دوره يقف عن مستوى(( أن يحلل الواقع كما هو، وأن يكشف كيفيات الأحداث و أسبابها العميقة))(نفسه.ص.52).
يلح، ابن خلدون في التشبث بقيمة المعرفة المجردة ، مفندا رأي تابعه المؤمن بالمضمون النهضوي والتحفيزي لكل معرفة ، و إلا فما جدواها.
 فالمعرفة في منظورها الخلدوني ،تجعلنا نفهم سبب تآكل حكم السلطان ، مقابل تألق تيمورلنك ، الذي سيمثل له في نهاية المطاف ،فرصة كي:((يلتقي الملك على الطبيعة))(نفسه.ص53). فرغم ماضيه الحافل ، بمعاشرة الحكام والآخذين بزمام الشأن العام ، إلا أن ابن خلدون يقر لتلميذه عدم اقتناعه الصميمي بتجاربه السابقة ، واليوم يلاقي في طريقه تيمورلنك الذي يجسد نموذجه المبحوث عنه:(( طول حياتي وأنا أعاشر وأخدم أمراء وسلاطين ناقصين ،لاتتوفر لهم من شروط الإمارة إلا أقلها... ،لقد سرت في ركاب أمراء وسلاطين لا يستحقون أن يكونوا جزمة لتيمور))(نفسه.ص.53/54).
أخيرا ، قرر التلميذ الباحث بصدق وشغف عن علم يستجيب للحق ويحارب كل أشكال الظلم والطغيان ، تبني طريق المقاومة ،لأن دعوة الواجب يحتم عليه الأمر،والانفصال عن ابن خلدون الذي يريد إفراغ العلم من نبله الإنساني. لكن قبل رحيل شرف الدين ، استجمع أنفاسه وفجر أمام أستاذه تلك القنبلة الخانقة: ماذا سيقول التاريخ في ابن خلدون ،حينما يستحضر موقف الإذعان؟ سيعتقد القارئ ، أن الرجل تلقى ضربة قاضية بالتالي لن ينطق بعدها ببنت شفة ، لكن ابن خلدون أجاب بهدوء الواثق جدا من صنيعه: (( لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته ، والكتاب الذي دفعته. أما الأحداث والمواقف العابرة ، فلن يذكرها أو يهتم بها إلا موسوس مثلك))(نفسه.ص55).
سقطة ابن خلدون ، صاغها سعد الله ونوس ثانية ، قصدا وعمدا في قطعة مسرحية ، كي يثير الانتباه مرة أخرى ،إلى قضية تأسيسية لازلنا نعاني سلبياتها ، في مجتمع عربي لم يحسم بعد معادلاته الصائبة حول منظومته الجوهرية. أقصد هنا ، موقع المثقف داخل السياق المجتمعي وطبيعة الدور الموكول إليه قياسا إلى شعبه. ثم، الموقف النقدي والمسافة التأملية التي ينبغي عليه الاحتفاظ بها ، حيال السلطة والمال والإغراءات التي تستهدف تدجينه كليا ،وإفراغ مشروعه من أية قيمة مضافة.
استخلص منيف ،أفكارا أهمها: الثقافة موقف ،لذا لايمكنها أبدا أن تكون محايدة ، كما أن مسؤولية المثقف تكبر وتصبح أكثر حساسية ، بالتناسب مع الموقع الذي يحتله المثقف في سلم الارتقاء المعرفي ، بحيث تبرز حاجة الآخرين إلى معرفته ، فيمتلك حيزا واسعا من التوجيه و والتأثير التأطير.
يفرض الوضع الطبيعي للمثقف ، الارتباط بقضايا عصره ، مستوعبا حمولتها،  مجتهدا في سبيل إيصالها إلى الآخرين ، لكن مستويات إشعاعه متوقفة على:((الجدية والنزاهة والجرأة))(نفسه.ص60). عليه أن يميز ، عصره بطابعه كمثقف، انطلاقا من مواقفه المبدئية التي تروم استشراف بدائل أكثر إنسانية ، فالثقافة سند لصاحبها ، لكنها خاصة فعل وفيصل.
هذا المثقف الرمز، يقابله نوع ثان ، يتوخى فقط المصلحة الشخصية ويبحث من أجل صقل مهارة الثقافة بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة ، فينحدر بالثقافة إلى مجرد سلعة وكأي سلعة: (( دون أن تلزم صاحبها ، أو لا تعني له إلا بمقدار ماتدره من ربح. فعندئد تصبح الكلمات –الأفكار لعنة ، ويصبح الأكثر إتقانا لهذه "الصنعة"هو الأكثر خطرا))(نفسه.ص61). فيتحول ،إلى مجرد خادم للسلطة و أصحاب الماليغير الحقائق ويزيف، الأشياء ويضلل عن مدارج الحقيقة والحرية. إنه المثقف المرتزق المماثل ، تماما ل:(( الجندي المرتزق الذي يحمل السلاح ليس من أجل قضية يؤمن بها ويدافع عنها ،و إنما من أجل المال ،ولمن يدفع هذا المال))(نفسه.ص.62).
وتتضاعف مسؤولية المثقف،وتشتد محاسبته ، خلال الظروف التاريخية الاستثنائية. فتعبيره عن الضمير الجمعي ،يمكنه من شفرة سرية في غاية الدقة، يديرها حسب معاييره الخاصة ، إن إيجابا أو سلبا.