الخميس، 6 أكتوبر 2016

حلم الوجودي : انتصار الوجود

بقلم الفيلسوف البريطاني: برتراندراسل
ترجمة: شاكر إبراهيم
مراجعة: عبد الحليم البشلاوي



ملأت شهرة "بورفير اجلانتين" الشاعر الفيلسوف العظيم، الآفاق بمؤلفاته العميقة الرائعة المتعددة ولاسيما بقصيدته الخالدة "أنشودة العدم".

في البيداء المترامية
حيت تمتد الرمال إلي ما لا نهاية 
أبحث
أبحث عن الطريق المفقود
الطريق الذي لا أهتدي اليه
وتحوم روحي هنا وهناك
في كل اتجاه وفج
تتلمس هذا الفضاء العريض
هذا الفضاء اللانهائي
هذه الرمال ..
هذه الرمال المتوهجة المزهقة للأنفاس
هذه الرمال الآسنة المملة
التي تمتد في غير مأحد
الي الأفق البعيد ..
ويترامي الي أخيرا
صــــــوت
صـــــوت مدو عذب معـــا
يهتف
أتظن أنك روح ضائعة
تحسب أنك روح ..
لكنك وأهم ـ فلست بروح
لا ولا أنت ضائع
فأنت عــــدم
ولا وجــود لك .

رغم زيوع هذه القصيدة وانتشارها فان نفرا قليلاً يعرف الظروف التي حملت علي نظمها وما أسفرت عنه من أحداث.
وأري لزاما علي أن أسرد هذه الظروف وتلك الأحداث رغم ما تنطوي عليه من ألم وضني.
كان "بورفير"، منذ فجر شبابه مرهف الاحساس ويعاني من ألم ممض، فلقد أستبد به الخوف من أنه قد لا يكون موجودا، وكان كلما تطلع إلي المرآة ساورته الشكوك في ألا تظهر صورته، فابتدع لنفسه فلسفة من شأنها، كما كان يأمل، أن تذهب بهذا الخوف وتبدد تلك الشكوك، لكن هذه الفلسفة كانت تخفق، من حين لآخر في أن تشفي غليله، واستطاع، بوجه عام، أن يواري شكوكه، لكن أنشودة العدم التي تعبر عن رؤيا مفاجئة محطمة، تكشف عن أن النجاح لم يحالفه. فعفد العزم علي أن يثبت وجوده بأي ثمن وبصورة قاطعة تخمد الصوت الذي يعذبه.

وبدوام تأمل النفس والملاحظة الدقيقة أقتنع في النهاية بأن ما من شيء حقيقي كالألم، وأن بالألم وحده يتحقق الوجود. فراح ينشد الألم في ربوع الأرض قاطبة بالقيام برحلة الحزن والأسي، حتي لقد قضي شتاء في القطب الجنوبي منعزلا وحيداً حيث كان الليل لا ينتهي يوحي بأحلام مزعجة عما يحمله المستقبل من كآبة وغم.
وعرض نفسه لألوان العذاب في ألمانيا زاعما أنه يهودي، لكن في عين اللحظة التي بلغ فيها عذابه حدا لا يحتمل، اقتحم "غراب بو"[1] معسكر التعذيب وحطم الصمت الرهيب معلنا بصوت حزين : "انك لا تتألم، أنك عدم، ولا وجود لك".

ورحل الي روسيا حيث ادعي أنه جاسوس يعمل لحساب الحكومة البريطانية، فقضي شتاء طويلاً يقطع الأشجار بجوار البحر الأبيض، وكان الجوع والتعب والبرد تنفذ إلي أعماقه يوما فيوما، وتراءي له أنه لو استمر هكذا طويلاً لأحس بوجوده ولاريب، لكن هذا لم يحدث ففي اليوم الأخير من أيام الشتاء حين بدأ الجليد يذوب، عاد الطائر الرهيب يردد كلمات الفشل عينها.

وطفق يفكر"لعل الآلام التي أنشدها هينة بسيطة، ولو أردت أن أكون بائسا حقا لتحتم أن أمزج أحزاني بعنصر الذلة والهوان".
وتحقيقا لهذا الهدف، انطلق الي الصين حيث وقع في غرام عنيف مع فتاة صينية بارعة الجمال تحتل مكانة مرموقة في لجان الحزب الشيوعي . وراح يلفق الوثائق ويزورها حتي أدينت الفتاة كجاسوسة للحكومة البريطانية، وتعرضت في حضرته لألوان من التعذيب المبرح. وحين بلغ العذاب حد الموت قال لنفسه: " الآن قد تألمت حقا، فقد أحببتها لآخر لحظة حبا جما، وحطمتها بخيانتي المشوبة بالجبن والنذالة، ولامراء في أن هذا يبعث في نفسي من الألم والضني أقصي ما تتحمله الطاقة البشرية". ولم تكن هذه هي الحقيقة، وبرهبة عنيفة أفقدته القدرة علي الحركة، راح يرقب طائر القدر يعود ليحلق في الأفق وينطلق ثانية بصوت الشاعر الخالد الذي قدم الطائر الي الوسط الأدبي في باريس.

وأخذ يعبر عن يأسه بمشقة بالغة بينما الطائر لا يزال يحلق في السماء قائلا: "أيها الغراب، هل هناك في هذا العالم الفسيح بأسره ما يحملك علي الاعتراف بأني موجود ؟" . فلم يفه الغراب الا بكلمة "عليك بالبحث" ثم اختفي عن الأنظار.
ولا يمكن الزعم بأن "بورفير" قد ترك بحثه عن الألم يستولي علي كل نشاطه، لكنه ظل دائما الشاعر الفيلسوف يحظي بالاعجاب والتقدير في كل مكان ولاسيما في أكثر الدوائر سرية. وعند عودته من الصين دعي لحضور مؤتمر للفلسفة عقد في باريس، كان هدفه الأسمي تكريمه وتبجيله، وحضر المدعوون ما خلا الرئيس، وبينما كان يتساءل عن موعد قدوم الرئيس أقبل الغراب واحتل مقعد الشرف، واستدار ناحية "بورفير" وعدل من عباراته المألوفة وصاح بصوت مجلجل تناهي الي سمع أعضاء المؤتمر جميعاً : "لا وجود لفسفتك، فهي عدم".. وما أن تفوه بهذه الكلمات حتي غمرت كل كيان الفيلسوف موجة من الرعب والكرب لم تدائها تجربة سابقة وسقط مغشيا عليه، وحين عاد إلي رشده، سمع الطائر يردد ما كان يتوق الي سماعه: "أخيرا أنت تتألم .. أخيراً أنت موجوداً".

واستيقظ فاذا هو حـــلم.

لكنه لم يعد بعد اليوم يتحدث عن الفلسفة أو يكتبها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الاشارة هنا الي الروائي والشاعر الأمريكي الشهير "ادجار الآن بو" الذي تتميز مؤلفاته بالخيالات الغريبة ومنها صورة الغراب المشار اليه هنا (المراجع).


المصدر : أحلام الأعلام: وقصص أخري، ترجمة شاكر إبراهيم، مراجعة عبد الحليم البشلاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 33:30.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق