الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

كـــيف نقــــرأ؟ بقلم : تودوروف

ترجمة: د. محمد نديم خشفة


أريد أن أتساءل هنا-بطريقة لا تناقض العنوان إلا ظاهراً- عن صيغ الكتابة ووسائلها حينما تجعل النص الأدبي موضوعاً لها. وبدلاً من نظرية عامة للفهم والتفسير سألتزم بوصف الممارسة التي تتركب أو تتفكك يوماً بيوم. هذا الوصف الذي ينتظم طبقاً لمقتضيات النظام مثلما يفعل كل وصف آخر، يستبقُ الجوابَ الذي لا أريد الوصول إليه إلا في نهاية هذا النص. فالجواب يسبق السؤال إذن، والكتابة حول"كيف نقرأ؟" تقتضي التخلي عن الصعود نحو بداية مطلقة.
لنذكّر في البداية ببعض الأمور المعروفة.

سأطلق اسم"الارتسام" على الفاعلية الأولى حول النص الأدبي.

وقد هوجم الارتسام بقوة وعلى الدوام منذ قرن، وخاصة خارج فرنسا، ولكنه ما يزال مُتسيداًفي المؤسسات لدينا أو لدى الآخرين. ويتحدد المعنى الارتسامي بمفهومه حول النص الأدبي على اعتباره نقلاً عن مجموعة أصلية. فالكاتب قد أسهم في النُقلة الأولى عن النسخة الأصلية إلى المؤلَّف الأدبي، وعلى الناقد الآن أن يأخذ بيدنا في الطريق المعاكسة، فيغلق الدائرة بالصعود إلى الأصلي.

ولدينا من الارتسامات بقدر ما لدينا من المفاهيم حول ما يتكون منه الأصل. فإذا اعتبرنا أن الأصل هو حياة المؤلف حصلنا على ارتسام من نوع السيرة الذاتية(بيوغرافيا) أو التحليل النفسي(من المرحلة الأولى): فيكون العمل الأدبي وسيلة للوصول إلى"الإنسان". أما إذا افترضنا أن الأصل مؤلف من الحقيقة الاجتماعية المعاصرة لصدور الكتاب أو للأحداث المعروضة فيه، فإننا نلتقي بالنقد(الارتسام) السوسيولوجي على مختلف أنواعه. وأخيراً، عندما تكون نقطة الانطلاق المفترضة هي"الفكر الإنساني" بمزاياه اللازمنية، فإننا نتعامل مع ارتسام فلسفي، أو أنتروبولوجي)وهناك أكثر من واحد). ولكن مهما كانت الفكرة التي يعتقدها القارئ عن طبيعة الأصلي، فإنه يتخذ موقفاً اختزالياً واصطناعياً في مواجهة النص.

أما الموقف الثاني من النص فأدعوه"التعليق" يستكمل الأول ويعارضه، وقد نشأ عن المصاعب التي يثيرها الفهم المباشر للعمل قيد التعليق. وهو يحاول أن ينير المعنى لا أن يترجمه. فيرفض المعلق أن يفعل شيئاً مهما كان من النص- الموضوع. وهو بالأحرى، يَطّرح كل إضافة يمكن أن تزيد فيه. فالأمانة هي رائده المبدئي ومعيار نجاحه بآن واحد. إن حد التعليق هو شرح النص (الذي حده التكرار(. ويتصف التعليق بالخصوصية القصوى، وربما كان هذا هو السبب في  غياب نظرية للتعليق)بهذا المعنى للكلمة(. وتحت اسم"شرح النص" اتخذ التعليق شكل التمارين المدرسية الأساسية في التدريس الأدبي، خلال سنوات طويلة.

وقد هيأت له مطامحه المحدودة حصانةً نسبية، هي نسبية ولكنها غالية الثمن.

سوف نصعد درجة أخرى للوصول إلى النمط الثالث من الاشتغال على النص، وهو ما ندعوه"الشعرية"(البيوطيقا). يتكون موضوع الشعرية من خصائص الخطاب الأدبي. والمؤلفات الخاصة هي الدعاوي التي يُتمثل بها على هذه الخصائص ذاتها.
فالشعرية تنتسب-ولو من بعيد- إلى الارتسام. فكلاهما يعتبران المؤلَّف الفردي إنتاجاً. وهنا يتوقف التشابه بينهما. فالنص-بالنسبة إلى الارتسام- هو إنتاج مجموعة متنافرة(حياة الكاتب، الشروط الاجتماعية، مزايا الفكر الإنساني).
أما بالنسبة إلى الشعرية فالنص إنتاج أوالية(ميكانيزم) متخيلة، ولكنها موجودة فعلاً وهي الأدب. وهكذا نجد أن موضوع"الشعرية" لدى أرسطو، ليس ذلك الشعر لهوميروس أو تلك المسرحية التراجيدية لإسخيلوس، بل موضوعها التراجيديا أو الملحمة عموماً.

إن خطاب الشعرية ليس أكثر جدّة من خطاب الارتسام أو التعليق. وقد شهد هذا القرن ميلاد الدراسات الشعرية المرتبطة بالعديد من المدارس النقدية الشكلانية الروسية، المدرسة المورفولوجية الألمانية، النقد الجديد الأنكلو- ساكسوني، الدراسات البنيوية في فرنسا(بحسب ترتيب ظهورها). هذه المدارس النقدية  كلها(على ما بينها من اختلاف) تتوضع على صعيد يختلف اختلافاً نوعياً عن كل اتجاه نقدي آخر من حيث أنها لا تحاول أن تحدد معنى النص، بل تحاول أن تصف العناصر المكونة له. وينتج عن ذلك أن الإجرائية الشعرية تنتمي إلى ما يُحتمل أن ندعوه ذات يوم"علم الأدب". سنة 1919 لخص جاكبسون بعبارة مختصرة ما كوّن نقطة الانطلاق للشعرية: "إذا أرادت الدراسات الأدبية أن تصبح علماً، فيجب عليها أن تعتبر"الإجرائية" الشخصية الوحيدة التابعة  لها".. إن موضوع الشعرية سيتكون، بالإضافة إلى المؤلفات، من"الإجرائيات" الأدبية، أي: المفاهيم التي تصف اشتغالية الخطاب الأدبي.

إن المرحلة النهائية للدراسة الشعرية هي"العام" دوماً، أي: الأدب أو أحد تفرعاته(الأنواع الأدبية)، سواء انطلقت من تحليل مؤلَّف بعينه، أو اقتصرت على حقل الخطاب النظري. وذلك بغض النظر عن قضية أن مسيرة الدراسة ذاتها هي-على الأغلب- جيئة وذهاب مستمران بين النص قيد التحليل وبين النظرية. والواضح أن الإجراء المعكوس من العام إلى الخاص ليس له سوى فائدة تعليمية. فحين نحدد الملامح الكلية للأدب ضمن مؤلَّف فردي فإننا لا نفعل شيئاً سوى أن نجسّد إلى ما لا نهاية. الطروحات التي افترضناها مسبقاً. وهذا على العكس من الدراسة الشعرية التي ينبغي لها أن تفضي إلى نتائج تستكمل أو تحور طروحات البداية.

يؤخذ على الشعرية إعراضها عن خصوصية النص الفردي، وانصرافها إلى تحديد ودراسة المفاهيم المجردة التي ليس لها وجود ملموس. وهذا المأخذ ناتج-تاريخياً- عن موقف سَبَّب الكثير من الضرر للنقد الأدبي. وأجدر ما يمكن أن نطلق عليه هو: "موقف النعامة". إن عدم الاعتراف بالشرعية لنظرية عامة حول الأدب، لا يعني مطلقاً غياب مثل تلك النظرية.. ولكنه موقف مسبق يؤدي إلى عدم توضيح هذه النظرية، أو عدم التساؤل حول وضعية المفاهيم المستخدمة. ففي اللحظة التي ننتج فيها خطاباً حول الأدب، فإننا نعتمد-شئنا أم أبينا- على مفهوم عام حول النص الأدبي. والشعرية هي مكان إعداد هذا المفهوم.
أما على الصعيد النظري فإن هذا المأخذ يذكرنا بخلطٍ قد عرفه تاريخ العلم جيداً- ألا هو الخلط بين: الموضوع الواقعي وموضوع المعرفة.

فإذا شئنا أن نجتنب الاعتراض علينا بأننا لم نترك موضعاً لدراسة المؤلَّف الفردي، لوجب أن نجعل في مواجهة الشعرية فاعلية مختلفة يمكن أن ندعوها القراءة.
إن موضوع"القراءة" هو النص المتفرد، وهدفها تبيان نظامه. تتكون القراءة من إقامة العلاقة بين كل عنصر في النص مع العناصر الأخرى. ولا يُنظر إلى  هذه العناصر من حيث دلالتها العامة، بل من حيث استخدامها في هذه العلاقة فحسب. فالقراءة-نظرياً- شيء يلامس المستحيل. إنها-بمساعدة اللغة- تريد فهم المؤلَّف على اعتباره اختلافاً صِرفاً، على حين أن اللغة ذاتها قائمة على التشابه، وعلى تحديد النوعي(أو الأجناسي GENERIOUE) لا الفردي. فعبارة"نظام النص" هي وصف الشيء بضده(Oxymoron). ولا تكون ممكنة إلا حينما لا يكون الاختلاف(الخصوصية، التفرد) صِرفا. فعمل القراءة لا يميل- بدرجة تنقص أو تزيد- إلى طمس الاختلاف بل إلى تبيانه وعرضه على اعتباره أثَر اختلاف يمكن معرفة اشتغاليته. فلا يمكن للقراءة الإحاطة بالنص أبداً، لكنهما تستطيع مقاربته إلى ما لانهاية.

لنفرق الآن بين القراءة وبين أنماط أخرى من الفاعليات التي وصفناها آنفاً. إن اختلاف القراءة عن الارتسام مزدوج: لأنه يرفض استقلالية المؤلَّف وخصوصيته معاً. أما علاقة القراءة بالتعليق فأكثر تعقيداً: لأن التعليق قراءة متذرية(ATOMISE)، على حين أن القراءة تعليق منهجي. لكنّ مَن يهدف إلى النظام ينبغي له أن يتحول عن مبدأ الأمانة الحَرفية التي يقوم عليها نشاط المعلق، كما رأينا. أما في عمل القراءة فإن الناقد مضطر إلى أن يحجز مؤقتاً بين قوسين(يوجّل) بعض أجزاء النص، وأن يعيد صياغة أجزاء أخرى حيث يجد فراغاً دلالياً. لقد قالها دريدا الذي أنتج مؤخراً عدة قراءات فلسفية تُحتذى: "بشكل متبادل، لا تقرأ ما استحوذ عليه"الحذر المنهجي" و"المعايير الموضوعية" و"حواجز المعرفة".
لا يمكن الوصول إلى الأمانة مباشرة، بل يجب اقتحامها. وهي تقتضي إهمال العديد من الأمور، لكنه إهمال العديد من الأمور، لكنه إهمال مسؤول.

كما أن علاقة القراءة بالشعرية ليست بسيطة أيضاً. فالأولى ليست معكوسة الأخرى، ولا التكملة التناظرية لها. تفترض القراءة وجود الشعرية، فهي تجد فيها مفاهيمها وأدواتها. وليست الشعرية-في الوقت نفسه- التصوير البسيط لهذه المفاهيم، لأن هدف القراءة شيء آخر هو: النص. إن جهاز الشعرية يتوقف عن أن يكون هدفاً في ذاته، ليغدو أداة(لا غنى عنها) في البحث عن النظام الفردي ووصفه. إن الإطار بهذا التخطيط، ما يزال واسعاً، وينبغي علينا لتحديده التمييز بين القراءة وأقرب ذويها إليها. ولهذا الغرض سأعارضها بفاعليتين اثنتين أدعوهما، مع أقصى حصر للمعنى: التأويل والوصف.

إن مرجعية مصطلح التأويل هي استخلاف أي نص بنص آخر. وهي كل إجراء يحاول الكشف عبر النسيج النصي الظاهر، عند نص ثان أكثر موثوقية. وقد سيطر التأويل كما نعلم، على التراث الغربي منذ التفاسير الكنائية واللاهوتية في العصر الوسيط حتى الهرمنوطيقية المعاصرة. إن مفهوم النص على اعتباره طرساً(1) ليس غريباً عن القراءة، ولكن بدلاً من أن نعوض نصاً بنص آخر، تصف القراءة العلاقة فيما بين هذين النصين، فلا ترى القراءة أن النص هو الآخر بل هو المتعدد دوماً.

هذا الرفض للاستخلاف جذري، ويغطي التأويلات التحليلية النفسية. وإن أحد المذاهب المنقرضة اليوم، يقول بأن نظام المؤلَّف تكونه المقاصد الشعورية للكاتب. وقد حدث في أيامنا انقلاب جدّ تناظري، فيقال إن الرغبات اللاشعورية  لهذا الكاتب نفسه هي التي تشكل النظام. إن قراءة النص ليست قراءة"الأعراض المرَضية" أي أنها لا تهدف إلى إعادة بناء نص ثان يتمفصل على عثرات الأول، ولا تفضل الشعور(وكذلك اللاشعور) في بحثها الاضطراري عن نظام"غير ملحوظ" للكاتب. فالتعارض بين اللاشعور والشعور يرمينا خارج النص الذي لا تهتم القراءة به.

لا ينبغي الاستنتاج من رفضنا لتفضيل العناصر اللاشعورية(أو الشعورية) للنظام أننا نرفض رفضاً عاماً تفضيل أحد أجزاء العمل الأدبي، أو نفضل قراءة رتيبة تضفي على كل جملة من جمل النص أو على جزء من الجملة أهمية متساوية. فلدينا نقاط تبئير، وعقد تتسيّد بشكل استراتيجي على الباقي، ولكننا لكي نكتشف هذه العقد لا نطبق إجرائية تستند إلى معايير خارجية. ولسوف نختار هذه النقاط طبقاً لوظيفتها ودورها داخل العمل الأدبي، لا للمكانة التي تشغلها في نفسية الكاتب. وهذا الاختيار بالذات هو الذي يحدد موقع قراءة ما بالنسبة إلى قراءة أخرى. والتفاتة التفضيل هذه هي التي تنتج عدداً لا نهائياً من القراءات.  إذا لم تعمد القراءة إلى تفضيل بعض النقاط من النص فسرعان ما تُستنفد: وهكذا تتحدد نهائياً القراءة"الصائبة" لكل مؤلف من المؤلفات. وإن اختيار العُقد الذي يتباين إلى مالانهاية، يُنتج في المقابل تعددية القراءات التي نعرفها، وهو الذي يدعونا إلى الحديث عن قراءة غنية، قليلاً أو كثيراً(ليست صحيحة أو زائفة بشكل مبسط) ويدفعنا إلى الحديث عن استراتيجية ملائمة تنقص أو تزيد.

نميز من ناحية ثانية قراءة الوصف. وهو مصطلح أحيل فيه إلى الأعمال المستوحاة من اللسانيات التي انصرفت أساساً إلى تحليل الشعر. وليس الاختلاف هنا في التوجه العام للدراسة بل في اختيار الافتراضات المنهجية الخاصة، ولنعدد أهمها:

1- يرى الوصف أن كل مقولات الخطاب الأدبي مطروحة مسبقاً دفعة واحدة، ومكانة المؤلَّف الخاص بالنسبة إلى المقولات كنسبة المادة الكيماوية الجديدة إلى الجدول الدوري لمندلييف(2) الذي هو لازمني. فالعنصر وحده جديد، أما النظام التركيبي فيبقى على حاله دوماً. أو بعبارة أخرى: تبقى القواعد كما هي، وما يتبدل هو ترتيب تطبيقها. وأما من منظور القراءة فإن النص هو-بآن واحد- نتاج نظام من المقولات الأدبية سابقة الوجود، وتحويل لهذا النظام ذاته. فالنص الجديد يحور النظام التركيبي نفسه الذي هو ناتج عنه، فهو لا يبدل ترتيب القواعد فحسب، بل يبدل طبيعتها أيضاً.

والاستثناء الوحيد الذي يؤكد هذا القانون، هي المؤلفات المنتمية إلى ما ندعوه"أدب الجماهير" التي يمكن استنباطها تماماً انطلاقاً من نوعها الذي نعرفه سابقاً.
وحين لا يتيح لنا العمل الأدبي أن نصف كيفية تحويره للنظام الذي  هو نتاجه، فإن الوصف يؤكد ضمنياً انتماءَ كل هذه الأعمال الأدبية إلى"أدب الجماهير".

2- ويرى الوصف أن المقولات اللسانية للنص هي ملائمة آلياً، على الصعيد الأدبي، طبقاً لترتيبها الدقيق الذي عليه تنتظم في اللغة. أما بالنسبة إلى مسيرة الوصف فإنها تتبع التراتب الطبقي للموضوع اللساني، وتتدرج من الملامح المميزة إلى الفونيمات، ومن المقولات النحوية إلى الوظائف التركيبية، ومن التنظيم الإيقاعي للأبيات إلى التنظيم الإيقاعي للقطعة... إلخ.. مما يعني أن كل المقولات النحوية- على سبيل المثال- ذات دلالة على مرتبة واحدة، وبعلاقة بعضها مع بعض(كما أشار إلى ذلك ريفاتير).

أما بالنسبة  إلى القراءة فإنها تلتزم بمصادرة مختلفة مفادها أن المؤلف الأدبي يصنع دارة(3) صغيرة مغلقة، مستقلة على المستويات اللسانية. فهذا الشكل النحوي يوضع في تماس مع تلك التيمة من النص، وأما الصيغة الصوتية أو الخطية لاسم العلم فتولد بقية السرد. تنظيم النص الأدبي يحدث حول ملاءمةٍ لا ترجع إلاّ إليه. وقبول التنظيم اللغوي بشكل آلي يعني خضوع النص إلى أمر"خارجي" عنه، أو على الأقل لأمر"متقدم" عليه.

3- ويرى الوصف أن ترتيب ظهور العناصر النصية والمسيرة الركنية(Symtagmatique) أو الزمنية لا أهمية لها تقريباً. وكما كتب ليفي- ستروس: "إن نظام التتابع الكرونولوجي تمتصه بنية رَجمية(أصلية( لا زمنية". وعملياً، فإن وصف الشعر يجب أن يفضي إلى رسم بياني يمثل نسق النص على شكل تنظيم فضائي.
فالقراءة-كما رأينا- تنطلق من مبدأ أن أي جزء من المؤلَّف لا يمكن اعتباره مسبقاً خاوياً من الدلالة، سواء كان الترتيب الركني، أو كان هذا الموضوع أو ذاك.

وكل محاولة لإقامة الثنائية: شكل-مضمون، أو إقامة زوج اصطلاحي أحدهما جوهري والآخر سطحي، يمكن تجنبها غير مأسوف عليها.

هذه الفوارق بين القراءة وأشباهها لا ينبغي أن تدفعنا إلى الظن بأن هوة واسعة تفصل بينها وأن لا شيء يجمعها. ينبغي لنا تحديداً أن نقرأ التأويلات والأوصاف، لا أن نقبلها جملةً أو نرفضها جملةً.  ولولا ممارسة الوصف، مثلاً، لما أمكننا الانتباه إلى المظاهر الصوتية والنحوية في النص.
هذا الرسم الإجمالي للقراءة جعلنا نتآلف مع بعض ممارساتها، فلنحاول الآن عرضها بالتفصيل. إن حركة البداية لكل قراءة هي بلبلة للنظام الظاهر للنص.

ويبدو المؤلف الأدبي في خطّيته(4) السطحية وكأنه مجرد اختلاف بينه وبين غيره من المؤلفات، ومجرد خلاف بين أحد أجزائه بالمقارنة مع الباقي. ويبدأ عمل القراءة بالمقاربة واكتشاف التشابه. وبهذا المعنى نجد تطابقاً بين القراءة والترجمة التي تقوم هي أيضاً على إمكانية إيجاد مكافئ لجزء من النص. لكن على حين يتوجه النص في الترجمة نحو سلسلة أخرى، نحو الخارج- النص، فإن القراءة تتوجه نحو داخل- النص: ويدور الأمر دوماً حول تشابه ضمن- نصّي، أو تناصّي(تستخدم كلمة"تشابه" هنا بمعناها العام القريب من"العلاقة"، ولسوف نحددها لاحقاً).

لنقل إنه تحدث بلبلة ما، لأن معنى البلبلة لا يؤدي إلى معنى التجاهل. فالنظام الظاهر ليس وحيداً، ومهمتنا أن نوضح كل أنظمة النص وأن نميز تعالقاته. فالقراءة الأدبية لا يمكنها أن تتخذ صورة قراءة الأساطير التي يقول عنها ليفي- ستروس: "إن السلسلة الركنية تكون على حالتها الخام حينما تكون خالية من المعنى، إما لأننا لا نجد فيها أي دلالة للوهلة الأولى، أو لأننا نلمح فيها معنى ولا ندرك إن كان هو الصائب".

إن الموقف ذاته، وهو عدم الاكتفاء بالتنظيم الظاهر للنص، يتخذ لدينا دلالات مختلفة عن ستروس، فمن منظور القراءة تتخذ كل طبقة في النص معنى.

سأحاول تبسيط العمليات المكونة للقراءة فأجعلها على مرحلتين أدعوهما: التراكب والتصوير. ولسوف أختبرهما بإيجاز على صعيدين متجاورين معاً، وهما: التضامّ(Intratextuel)، والتناصّ(Intertextuel).
يقوم التراكبُ المتضامّ على مبدأ ذكرناه آنفاً، هو: غياب العازل بين المستويات اللغوية في المؤلف الأدبي، وتوفر إمكانية المرور المباشر من مستوى إلى آخر فليس هدف التراكب إذن، إقامة طبقات من التكافؤ فحسب، بل إقامة علاقة وصفية شاملة: سواء كان بالتشابه(بمعناه الدقيق) أو بالتعارض، أو بالتدرج، أو بعلاقة سببية من وصلٍ، وفصلٍ، وقصرٍ. ونجد مثالاً رائعاً عن هذا العمل في دراسة بوريس إيخنبوم.؟.. التي قصرها، منذ إيخبنوم خمسين عاماً، على دراسة"المعطف" لغوغول.

فالتحليل الصوتي لأسماء الأعلام، وأسماء النكرات أتاح له الكشف عن تنظيم السرد، ووجد أن بعض صفات إيقاع الجمل تجد صداها المباشر في تحليل الموضوعات.

وفي دراسة ظهرت مؤخراً في مجلة بيوطيقا بينت كريستيان فيسشامبر تولدُ النص البروستي انطلاقاً من تحليل صحفي(Amag ram matique)(5) لأسماء الشخصيات.
هذان المثالان اللذان يبينان الأهمية الخطية أو الصوتية للكلمات، لا يجب اعتبارهما تأكيداً لتسيّد مشروع وكلي للطبقة الدلالية الأولى على سائر الطبقات الأخرى، وإلاّ عدنا من جديد إلى تفضيل جزء من النص على بقية الأجزاء(وبالتالي إقامة معارضة بين الشكل والمضمون  بكل تبعاتها)، أو نسينا أن كل مستويات المؤلَّف الأدبي ذاته دلالة وإن اختلفت طرقها. إن أمثلة التحليل التصحيفي لها قيمة الشاهد وليست قانوناً كلياً ينطبق على بنية النصوص.

سأضرب مثلاً على العملية الثانية التي دعوتها التصوير، عملاً آخر من أعمال إيخنبوم(ونبقى دوماً على مستوى التضامّ). في دراسته التي خصصها للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا يستخلص أولاً، تواتر البنيات في الصورة البلاغية"وصف الشيء بضده"، من نمط: "اكتأبتْ مرَحا مُزدانةً بعُريها"، أو"الخريف الربيعي"، ثم يطرح بعدئذ الفرضية القائلة بأن هذا المؤلَّف الشعري يستجيب على مختلف مستوياته، لوصف الشيء بضده، وأننا نجد فيه"نمطاً خاصاً قائماً على وصف الشيء بضده، وعلى التسلسل المفاجئ.

وهذا لا ينعكس في التفاصيل الأسلوبية فحسب، بل في الموضوع كذلك". وكذا الحال على مستوى التركيب"غالباً ما تنقسم القطعة الشعرية إلى جزئين لا وجود لأي رابطة معنوية بينهما". "فالشعر ممزق دوماً بين متوازيين، بحيث يمكن أن نقسمه إلى شطرين عندما نجمع كل أجزاء نصفه الأول، وكل أجزاء نصفه الثاني". والأمر نفسه بالنسبة إلى العنصر التيمي(Thematique) المنظم للمجموع وهو"الأنا الوجداني" في شعر أخماتوفا: "لقد بدأت تتشكل هنا صورة البطلة المتناقضة في ازدواجيتهما(أو بالأحرى في صيغة وصف الشيء بضده)، فهي تارة خاطئة ذات عواطف جياشة، وطوراً راهبة المساكين، ترجو غفران الله". "إن بطلة أخماتوفا التي تجمع في ذاتها سلسلة من الأحداث، والمشاهد، والمشاعر، هي تجسيد لوصف الشيء بضده. والسرد الوجداني الذي هي في مركزه تمزقه الأضداد والمتناقضات، وهو يجتنب العبارات النفسية، فيغدو غريباً من حيث حالاته الروحية المتنافرة. وتصبح الصورة مُلغَزة، مقلقة، منشطرة، متعددة. فالمؤثر المهيب يكون بجانب المخيف واللاطيء بالأرض. والبساطة تجاور التعقيد، والإخلاص يجاور المكر والدلال، والطيبة تجتمع مع الغضب، وتواضع الرهبانية مع الانفعال والغيرة".

ونؤكد ثانية على أنه لا يجب أن نعتبر المثال قاعدة كلية. فالصورة التي يصفها إيخنبوم هي"وصف الشيء بضده"، وهي صورة بلاغية معروفة، ولكن يجب أن نعطي لمصطلح الصورة اتساعاً أكبر، لا سيما وأن الصور ليست سوى العلاقات اللسانية التي نلمحها ونعيّنها: فالتسمية الاصطلاحية هي التي تتولد عنها الصور.

فالصورة التي نلمحها على مختلف مستويات المؤلَّف الأدبي قد لا توجد في مسرد البلاغات الكلاسيكية. وأثناء دراستي قصص هنري جيمس وقعت على تلك"الصورة المنسوجة في البساط"، ويمكن رسم الخطوط العامة لهذه القصة واختصارها إلى العبارة التالية: "الجوهر غائب والحضور غير جوهري". وهذه"الصورة" نفسها لدى جيمس تنظم الموضوعات والتركيب على حد سواء. وتنظم تأليف الحكاية مثلما تنظم"الرؤى" داخل السرد. فلا يمكن أن نطلق مسبقاً وضعية"الأول" أو"الأصيل" على أي واحد من هذه المستويات(على حين أن باقي المستويات تعبير عنها أو مظهر لها).

وفي المقابل، يمكن أن نكتشف داخل نص معين تراتبية من هذا النوع. ونلاحظ أنه لا وجود لقطيعة ما بين الارتسام والتصوير، لأن التصوير امتداد للارتسام وإعداد له.
وكما أن معنى الجزء من المؤلَّف الأدبي لا يُستوفى بذاته، بل يتجلى بعلاقاته مع الأجزاء الأخرى، كذلك المؤلَّف الأدبي التام لا يمكن أن يُقرأ بطريقة مقبولة وواضحة إذا لم نربطه بالمؤلفات الأخرى السابقة عليه أو المعاصرة له. وبهذا المعنى يمكن اعتبار كل النصوص أجزاء من نص وحيد يكتب نفسه منذ الأزل.

فكما أننا لا نتجاهل الروابط القائمة بين التضام والتناص، كذلك لا ينبغي الاستهانة بحضور نصوص أخرى داخل النص.
نجد في هذا المستوى العمليتين السابقتين وإن لحقهما التحوير. فيمكن للتصوير أن يعمل من مؤلَّف الكاتب الواحد، قد يجد التلاؤم، فتبدد مختلف نصوص الكاتب الواحد وكأنها تنويعات بعضها على بعض، فهي تتبادل التعليق والإضاءة فيما بينها. وقد ظهرت هذه الصيغة من صيغ القراءة بطريقة غير منهجية منذ نشأة النقد(6). وعرف الشكلانيون الروس(إيخنبوم، جاكبسون) كيف يمنحون للصورة المتناصة وضوحاً أكثر.

أما في فرنسا فإننا نصادف في أعمال شارل مورون لأول مرة، التوجه إلى قراءة النص قراءة منهجية على اعتباره طِرساً، وتحولاً، وتعليقاً على نص سابق للكاتب الواحد. فتغدو الصورة لديه"استعارة استحواذية". ولسنا مضطرين إلى متابعة مورون حين يضفي على المؤلفات كياناً تصوّرياً سابقاً عليها في الحق والواقع وهو"الأسطورة الفردية"..
وليس ضرورياً افتراض وجود نص أصلي تكون النصوص الخاصة تحولات عنه. فالنص هو دوماً تحول عن تحول آخر.

ليس التصوير سوى أحد الروابط الممكنة بين النصوص، ولا يمكن ملاحظته إلا ضمن المؤلّف الفردي. أما إذا وجد بين نصوص لكُتاب مختلفين فيدور الأمر حينئذ حول الانتحال أو السرقة، وهي قضية مستهجنة في ثقافتنا. لكن الروابط بين المؤلفات(وإن كانت لكاتب واحد) يمكن أن تكون مختلفة، وفي تلك الحالة نعود إلى عملية الارتسام. فلنميز أولاً، ضمن الارتسام العلاقات من النمط الاستبدالي(Paradig  matique) (حيث النص الآخر غائب وليس له تأثير مرتد)- لنميزها عن العلاقات من النمط الركني، حيث النص الثاني يؤثر بفاعلية. في الحالة الأولى- إما أن يؤكد المؤلَّفُ الأدبي الجديد خصائص المؤلَّف السابق، أو ينفيها، فيدور الأمر حول ظاهرتي: الأسْلبة(Stylisation) أو المعارضة(Parodie). فكان تيتانوف أول من نظَّر لهذه الإشكالية، فكتب سنة 1921: "الأسلبة قريبة من المعارضة وكلاهما يعيشان حياة مزدوجة. ففيما وراء المؤلَّف الأدبي توجد خطة أخرى، خطة معارضة أو أسلبة. أما في حالة المعارضة فينبغي  أن تفترق الخطتّان أو ألا تتطابقا. فمعارضة التراجيديا تغدو كوميديا(وليس المهم المبالغة في التراجيدي، أو استبدال كل عناصره بالهزلي)، ويمكن لمعارضة الكوميديا أن تكون تراجيدية. أما في حالة الأسلبة فلا وجود لهذا الافتراق، بل على العكس تتطابق الخطتان: خطة الأسلوب المقلِّد والأسلوب المقلَّد الذي يتراءى من خلاله".
في حالة العلاقات الركنية ليس النص الدخيل مجرد نموذج يجري تقليده أو السخرية منه، فهو يستفز الخطاب الراهن أو يحوّره. والعبارة هي عبارة الزوج:

سؤال- جواب، ويشار إلى هذه العلاقة عادة على اعتبارها مناظرة خفية.
إن آخر الشكلانيين وهو ميخائيل باختين، قد وصف بالتفصيل هذه الظاهرة لدى دستويفسكي، وعرض أول نظرية-وهي الوحيدة حتى الآن- عن العلاقات التناصية. ويمتاز بأنه عرف أهمية هذا المظهر من مظاهر المؤلَّف الأدبي الذي كان يُعامل بازدراء حتى ذلك الحين. فما كان يعتبر حتى الآن، ملمحاً ثانوياً يصيب عدداً محدوداً من المؤلفات، قد أعيد تقييمه كلياً. وتأكد في الوقت نفسه، أن النص يحيل دوماً- إن سلباً أو إيجاباً- إلى الميراث الأدبي السائد: "كل أسلوب يملك في داخله عنصر مناظرة وليس الاختلاف إلا في الدرجة أو النوع".

كيف نقرأ: إن محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال قد ساقتنا إلى التمييز المتّابع بين عدد من أنماط الخطاب النقدي: الارتسام، والتعليق، والشعرية، والقراءة. وعلى الرغم من الفوارق بين هذه الخطابات، فإن فيها ملحماً مشتركاً هو كونها: لا تتشاكل جميعها مع الخطاب الأدبي ذاته. فما ضريبة هذا الاختيار، أي قراءة لغة من خلال لغة أخرى، وقراءة نسعد آخر؟ لقد لاحظ فرويد أن الحلم لا يعرف أن يقول"لا". أفلا يملك الأدب بدوره، بعض العناصر التي لا تعرف اللغة العادية أن تقولها؟

لا ريب أن هناك جزءاً من الأدب لا يقبل التنظير(وهذه مقولة ميشيل دوغي) إذا قصدنا بالنظرية اللغةَ التعليمية. وإن إحدى وظائف الأدب هدم هذه اللغة العلمية ذاتها. فتكون مجازفة قصوى الادعاء بأنه يمكن قراءة الأدب قراءة شمولية بالاستعانة بهذه اللغة نفسها التي يرتاب الأدب فيها، وإذا فَعلْنا فالنتيجة إخفاق الأدب-ونجد- في الوقت نفسه- أن هذه المعضلة من السيطرة بحيث لا مفر منها حين نواجه الشعر، ولا نجد لها حلاً إلا بإفقارٍ تحمله لغة مختلفة، أو أن نكتب شعراً مغايراً وهذا حل زائف. نقول زائف لأن هذا النص الثاني سيكون نصاً   جديداً ينتظر القراءة أيضاً: فالاستقلالية التامة تنتزع من النقد سبب وجوده، كما أن إذعانه للغة يومية يصيبه بالعقم. ويبقى طبعاً حل ثالث هو الصمت: ولا يمكن الكلام عنه.

إن تشبيه القراءة بالمسيرة قد ابتذله الاستعمال، فلنقل إن أحد الدروب الممكنة يؤدي بنا إلى ما وراء النص، على حين أن الدرب الآخر يقصّر بنا دونه(أما الحل الثالث فهو ألا ننطلق)، أفلا يمنحنا تقريب هذا الدرب من الآخر الأملَ في أنهما سيلتقيان ذات يوم؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش للمترجم -

* مترجم عن الفرنسية من كتاب " تزيفتان تودوروف" بعنوان: "بيوطيقا النثر" الناشر : سويّ، باريس، 1971.
1- الطِرس: رمد ممسوح ثم مكتوب عليه ثانية(Palimpseste) وبه يشبه الكاتب تراكب النصوص.
2- وضع ديمتري مندلييف سنة 1869 مخططاً لرموز العناصر الكيماوية معتمداً على أوزانها الذرية وبالتشابه بين صفاتها الكيماوية. وافترض وجود عناصر كيماوية لم تكتشف بعد، وترك خاناتها فارغة في الجدول الدوري لتشغلها في حالة اكتشافها دون أن تبدل شيئاً من طبيعة النظام الذي وضعه.
3- التشبيه منتزع من الدارة الكهربائية.
4- Linearite: علاقة بين كميتين حيث يؤدي تغير إحداهما إلى تغير في الأخرى، يكون متناسباً مع تغير الكمية الأولى- (المنهل).
5- هذه الصيغة البلاغية شائعة في اللغة العربية، وخاصة في العصور المتأخرة، ومنها قول(عز الدين ابن جماعة):
فسُوقُ الفُسوقِ بها قائمٌ
              وفَجْر الفُجورِ بها طالعُ

       وقول(إسماعيل صبري): 
فقالت: أيا(اسماعيل) صبراً
              فقلت أيا(أسما) عِيلَ صبري

       وتعرف في الإنكليزية باسم: (Chimimg).
6- نشير إلى أن مفسير القرآن الأوائل قد عرفوا هذه الإجرائية، فذكروا أن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

(*) المصدر : مجلة "الآداب الآجنبية"، تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، العدد 98 ربيع 1999.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق