الاثنين، 26 سبتمبر 2016

غاستون باشلار والمترجمون العرب*

ترجمة : سعيد بوخليط


يبدو بأن الافتتان بترجمة أعمال غاستون باشلار قد تضاءل مع سقوط الماركسية وتواري الوضعية، مسألة لا تقود بالتأكيد إلى غياب الاهتمام بفلسفة باشلار ما دام أن قوتها لازالت تسم التأمل الفلسفي والنقد الأدبي. بالتأكيد نبتهج لرؤية بعض مُؤلفات باشلار وقد ترجمت إلى العربية حيث يسرنا هذا الإشعاع العالمي لفلسفته.
لكن حينما ندرس قيمة هذه الترجمات، تثيرنا وقاحتها وكذا تشدقها بحيث لا تُشرّف بأي حال من الأحوال ذاكرة باشلار ولا تمكن اللغة العربية من التجدد. مع بعض الاستثناءات النادرة، فإن الترجمة التي يجب أن تكون حوارا للثقافات تتحول إلى عملية تجارية وميركانتيلية، وتصبح عملية فردية لا تخضع لا للمراجعة أو التدقيق حيث يسود التعسف والوهم.
تتأتى الصعوبة من الخاصية التجريبية لنصوص باشلار ، هل بإمكاننا ترجمة نص يبتغي كتابة فلسفية جديدة؟  إذا أمكن ترجمته، فهو ليس بنص مستقل وبالتالي يخضع لقواعد محددة سالفا. على العكس من ذلك، إذا كان نصا مستقلا فإنه تتعذر ترجمته. بمعنى ثان، الترجمة تأسيس لخطاب مرموز خاضع لقواعد مكررة أو هي كتابة ثانية للنص، أي تكرار لما هو مختلف؟1.
الأطروحة التي أتوخى الدفاع عنها في هذه المداخلة، هو أن الترجمة إعادة كتابة للنص في أفق تمثل مجموعة من الأعمال تنتمي لثقافة أخرى اعتمادا على مؤسسات تستهدف ليس فقط استيعاب مؤلفات ثقافة أخرى ولكن تجديد لغة الترجمة.
هكذا يشكل التقليد الغربي في الترجمة ومراجعة الترجمات، مؤسسة حقيقية: (أوربا، وبخلاف الثقافات الأخرى المتمركزة على ذاتها هي في الأصل ومنذ البدء متعددة الثقافات. ظلت تترجم باستمرار، بداية لما هو متوسطي إلى روما الهلينية ثم القرن الوسيط أو مرور أرسطو من السريانية إلى العربية قبل أن تتم قراءته في اللاتينية خلال القرن السادس عشر، حيث أنجز "Calepin" قاموسا كانت طبعته الأخيرة بإحدى عشر لغة. أوربا، ومنذ بدايتها ومع تقلباتها لم تتوقف عن الترجمة، من المقدس إلى الدنيوي ومن اللاتينية إلى اللغات المبتذلة، ثم اللغات المحلية فيما بينها)2.
للترجمة علاقة بالثقافي والسياسي. كل ثقافة تستند على لغة وكل لغة مهيمنة ترتبط بوجود دولة. أحادية اللغة مثل الدولة الوطنية في أوربا على الأقل، أوجدت ذاتها من خلال استبعاد الآخر. لذلك، فإن الترجمة تداخل في الآن ذاته للتاريخي والثقافي ثم السياسي. من خلال موقع المترجم وطرقه في الترجمة، يتأتى كذلك وضع ثقافة حيال أخرى تظهر من خلالها3.
تكلم "كوردوني" "Cordonnier" عن "المذهب العربي" في الترجمة مرتكزا على تحليلات "فرني" "Vernet"، مؤكدا بأن الترجمة ليست فقط مؤسسة ولكن سبيلا إلى استيعاب الإرث اليوناني والذي ساعد على تأسيس إحدى روافد الحضارة العربية الإسلامية.
لقد انتقل المترجم العربي من الترجمة الحرفية إلى ترجمة المعنى. لكن المهم، هو طرق الترجمة التي عرفتها هذه الحقبة. لم تكن الحاجة للعودة إلى الأصل اليوناني، بل يكفي الانطلاق من الترجمة السريانية، لأنه لم يكن بالامكان الوصول مباشرة إلى النصوص اليونانية. كانت الترجمة عملا متعدد الاختصاصات، يتوحد داخله "المساعد" والمترجم الرسمي وأخيرا الكاتب. كتب "كوردني :(فيما يخص أوجه الترجمة، تُطرح مسألة سلسلة الاشتغال ابتداء من التوصية إلى نهاية المنتوج (...) في الغالب حينما يكون لدى المترجم عملا كثيرا، يمكنه الانتقال إلى مترجم أقل كفاءة. بالتالي، فإن هذه الترجمة الأولى التي ينجزها كاتب "مساعد" يمكنها أحيانا، أن تُنقّح من قبل المترجم الرسمي. ثم يعطي الناشر الترجمة الثانية إلى كاتب لكي يتدخل على مستوى الأسلوب)4. المترجمون الأوروبيون وظفوا نفس الطرق بمجهود حقيقي وذلك لمقابلة الترجمة بالنص الأصلي. المثير، هو أن نفس الطرق تستعمل اليوم من أجل ترجمة أعمال باشلار ، لكن مع اختلاف انعدام أي مقياس مشترك بين مترجمي أمس واليوم.
إذا قامت الحضارة العربية في القرن الوسيط على الترجمة، فذلك لأن الترجمة كانت مُنظمّة رسميا. يقول:"إبراهيم مدكور" متحدثا عن قيمة الترجمات العربية لأعمال أرسطو حينما كانت الترجمة مُؤسسة حقيقية:(إذا تركنا جانب المثابرة، وكذا الخاصيات الأخلاقية ثم المعارف الواسعة جدا للمترجمين المسلمين، يمكن أن نلاحظ بأنهم أقاموا مهمتهم بمنهجية علمية خالصة. ذلك أن نفس النص تتم ترجمته لمرات عديدة ومن قبل كُتاب مُختلفين انطلاقا من مرجعيات كثيرة. كما يتم كذلك تصحيح وإعادة النظر فيما تُرجم بسرعة أو من طرف أشخاص أقل كفاءة. بعض الأرقام ذات دلالة: ثلاثة وعشرون شخصا أكثر من نصفهم يعرفون اليونانية، تكلفوا بترجمة أو إعادة ترجمة أرسطو، وقد أعطى ذلك ثمانية وثمانين ترجمة لعشرين عملا أرسطيا تعرّف عليها العالم العربي أي بمعدل أربعة ترجمات لكل عمل (...) مختلف الترجمات التي تُعطى لنص ما، هي فوق ذلك دراسات مقارنة ومراجعات دقيقة)5. إنه زمان تعدد اللغات والموسوعية تم مراكز الترجمة في "الإسكندرية" "وجديسابور" ثم "حران" حيث حظي المترجمون بعناية الخلفاء: كانت الترجمات في هذه الفترة تباع بثمن غال.
ليست الترجمة بالقضية الواهية، وبالتالي ليست في مُتناول الجميع. العلماء العرب اللذين ترجموا النصوص اليونانية لم يحسدوا بأي معنى علماء اليونان، بل سعوا إعطاء اللغة العربية مفاهيم جديدة، ومناهج أخرى في التنظيم. وهو ما سيمكن تبعا لذلك من تطوير الفكر اليوناني في استنتاجاته ووضعه موضع تساؤل. 
اليوم، وعلى العكس من ذلك، يعتقد المترجمون العرب بوقاحة مطلقة إمكانية ترجمة النص الباشلاري. لا يتعلق الأمر ب الخائنة الجميلة "ل" " Gille Menage"، ولا مجرد تأويل بسيط للنص، إنه اختلال حقيقي. بالتأكيد المترجم مُهرب، لكن ما يهم ليس فقط العبور، لكن كذلك حالة ما ننقله من الجانب إلى اللغة الثانية6.
يمكن أن نأخذ كمثال ترجمة:"La formation de l'esprit scientifique" لأحمد خليل أحمد7، الذي يقدم نفسه كأستاذ للسوسيولوجيا بالجامعة اللبنانية، وقد استفادت ترجمته من طبعات متعددة، منذ خطاب المقدمة نحس بأنه يخلط بين الإخبار الذي يرتكز على إعطاء الصيغة ثم الإخبار كإبلاغ، الاهتمام بمعنى الاستفادة ثم الاهتمام بمعنى الانتباه الذي نحمله إلى شيء ما، سيخلط كذلك بين العقل كملكة والعقل كاستدلال. وحينما توخى ترجمة:"إن رأسا مُحكما هو للأسف رأسا مُغلقا". فهو اعتبر بأن رأسا محكما، رأسا مصنوعا. ثم تتواصل بعد ذلك الالتباسات وتتعدد. يأخذ السالف كنقيض والنظرية كعقيدة، كما أنه لا يفرق بين المعنى والفكرة والمفهوم إضافة إلى كونه يختزل الجسم الذي يطفو إلى جسم يظهر.
من أجل ترجمة باشلار يجب أن تكون في مستوى أهمية باشلار وإلا من الأفضل قراءة النص في لغته الأصلية. لذلك يحتاج إلى عمل متعدد الاختصاصات يجمع بين المستعرب والفيلسوف ثم الشاعر... . فليس هناك من صفحة في هذا العمل إلا وتستوجب التصحيح أو إعادة الكتابة.
كما تعاني هذه الترجمة من غياب لكل تعليق. إذا كان التعليق خصوصا لنصوص أجنبية يحتاج إلى ترجمة، فإن الترجمة الجيدة تحتاج إلى تعليق: وحده ذلك الذي يحسن تأويل نص، بإمكانه تناول المعنى الحقيقي للنص.
المثال الثاني في ترجمة أعمال باشلار يقترحه:"بسام هاشم" لكتاب:"Le rationalisme appliqué"8، معتقدا بأن اللغة العربية عاجزة عن تمثل الأفكار الجديدة التي جاء بها باشلار ، فإنه يقترح معجما لفظيا شاقا حوّل النص الباشلاري إلى شيء غير مقروء كليا.
لذلك من أجل فهم الترجمة العربية، يتحتم وضع النص الفرنسي تحت الأعين. بما أن الترجمة طرس "Palimpseste" فإن ما تظهره هو نظرية لغة المُترجم. واللغة بالنسبة إليه مجرد أداة تقنية. إذا عالجت موضوعا علميا، يمكننا تعويض أداة بأخرى من تم اختفى كل المظهر الشعري للنص. لما استشهد ببعض التفسيرات الخاطئة المرتكبة، لقد أفسد النص بكلام مُفخّم ومُضلّل، إنها ترجمة كلمة بكلمة وليست ترجمة نص، أي ترجمة للغة وليس للنص ناسيا بأن:"الترجمات هي أعمال، كتابة. وتدخل في عداد الأعمال". ليست الترجمة فقط عملا احترافيا، ولكن إعادة كتابة للنص في ارتباط مع اللغة المترجم إليها، وليست مجرد انتقال حيث تهيمن عمليتي النسخ والمعجمية. إنها كتابة ثانية للنص من أجل البحث عن الطبيعي وتكييف النص مع اللغة الجديدة.
وكما بيّن "جون براون" في كتابه: "l'homme et le langage " فإن اللغة:(ليست بمسدس للحاجة، ولا مفتاح علب، تستعمل الكلمات والمفاهيم ذات المعنى الواحد، دون أن يكون لها اشتقاقا أو صدى حُلميا وكذا موسيقى شعرية للكلمات والأشياء. كلمات تشبه حصى مستهلكا، حملته أمواج البحر إلى ضفاف العالم بعد أن مسحت كل الأشكال التي أخذها في الأعماق)9. على العكس بالنسبة لجون براون، فإن الكلمة تشبه مونادا "la monade" ليبنيتز: إنها تغطس في العمق التحت-أرضي المتضمن لتاريخها والذي اكتسبت من خلاله جميع الاستجابات وكذا الاختلافات.
بالرغم من استعمال هذا المُعجم فإن المُترجم لم يستطيع تجنُب التفسيرات الخاطئة، لأن ما يجب ترجمته هو النص ولا يتعلق الأمر بمعجم ننقله إلى لغة أخرى. عبر هذا الأسلوب الطنان المُضلل وكذا التفسيرات الخاطئة المتعددة، فقد تم تشويه الخاصية الشعرية للنص. يبدو بأن المُترجم يبحث عن نص ثان، والحال أن مفارقة الثنائي منذ أفلاطون أظهرت لنا، أنه بحكم تقليد المتفرد نمر كذلك إلى الآخر. الدقة ليست وفاء، وإنتاج الثنائي مسألة مستحيلة. المختلف هو الذي يتشابه.
النصوص المُحلّلة من قبل، تبين بأن ترجمة بعض أعمال باشلار ، تميزت إما بتفخيم للأسلوب أو الوقاحة، الشيء الذي لم يمكن من تجديد اللغة العربية بإدخال بنيات أخرى لها، ولا من تيسير ولوج النص الباشلاري.
كيف هو الحال مع النصوص الشعرية؟ الوضعية ليست بالأحسن. حينما ندرس الترجمة التي اقترحها "هلسا غالب" ل: "la poétique de l'espace"10 فإننا سنفهم بأن ترجم معناه خان بشكل مضاعف. فالسيد هلسا لا يعرف الفرنسية، لكنه لم يتردد في ترجمة الكتاب انطلاقا من الإنجليزية. لا أعرف كيف ستصبح الفرنسية حينما تُترجم إلى الإنجليزية، لكن الترجمة العربية ل "شعرية المكان" مقاربة باهتة وهيكل منهك. يجب القول، أن ما يهم "هلسا" ليس الترجمة ولكن المنهجية التي دشنها باشلار ، حيث اعتبرها خصبة من أجل دراسة الفضاء في القصيدة العربية التي لم تتوقف عن التغني بأطلال المنزل المعشوق. ما دام النص فضول يجب الوقوف عليه، أليس من الضروري أن يكون في مستوى واجباته كمترجم!.
هكذا يظهر مثلا بأن كلمة "Vaste"، ترجمها انطلاقا من الكلمة الإنجليزية "Wide" في حين أنه بالنسبة لباشلار:(الصائت(a) في كلمة "Vaste" يحتفظ بكل خاصياته الصوتية التضخيمية. إذا أخذنا هذه الكلمة صوتيا فإنها ليست فقط امتدادية. بل تحصل مثل مادة لينة على كل القوى البلسمية للسكون اللامتناهي. من خلالها فإن اللانهائي يدخل إلى صدرنا ونتنفس بها كونيا، بعيدا عن الأحزان الإنسانية)11. وباشلار الذي يتخيل نفسه طبيبا نفسيا ينصح المريض الذي يعاني الضيق:(بأن يقول بهدوء الكلمة البودليرية المهيمنة:"Vaste" التي تعطي السكينة والوحدة وتفتح فضاء، فضاء اللانهائي)12.
وفي صورة "Petit poucet" حيث البحث عن إقامة في مأوى "الدب الأكبر"، يبدو بأن الصدى الذي توخاه باشلار قد ضاع. مقطع "Petit poucet"، ترجم بشكل سيء. فالأمر لا يتعلق هنا بالتنجيم ولكن بالبحث حقا عن مأوى ومنزل في السماء. كان على المترجم أن يدرك ذلك من خلال تتمة النص، ولكن بما أنه يترجم من الإنجليزية، فلا يمكنه تجنب اتباع المترجم الأول.
لست في حاجة للتأكيد على النقد الباشلاري لهندسية الوجود-هنا والذي يحتم لغة جديدة، لغة شعرية. والحال، أنه لا يمكننا ترجمة لغة شعرية بشكل صحيح دون أن نكون أنفسنا شعراء. كتاب باشلار ليس مجموع وصفات نطبقها من أجل تأويل الوثائق الشعرية بل هو تأمل في العلاقة بين اللغة والوجود.
ترجمة "غالب هلسا" بعيدة على أن تكون كتابة ثانية للنص. إنها مجموعة وصفات بالنسبة للنقد الأدبي الذي يتوخى دراسة "المكان" في الأدب العربي. إلا أن هذه البرغماتية لم تحمل شيئا إلى اللغة العربية. علّة من أجل سلب باشلار Bachelard دون الاستشهاد به، وكما لاحظ "Margaret Thomarchio":(يحتفظ المؤلف بكامل الحقوق على عمله، المترجم كوسيط بين الكاتب وجمهوره عليه خاصة واجبات. وهي الواجبات التي يبلورها ليس فقط بإدخال كفاءاته اللسانية، ولكن كذلك معارفه الدقيقة والأساسية بثقافة وعمل الكاتب... يتعلق الأمر حقا في نهاية المطاف، وفيما وراء كل القضايا التقنية والمنهجية بقضية أخلاقية على المترجم أن يكون مدركا لذلك)13.
إذا أخذنا ترجمة:"la poétique de la rêverie" كما أنجزها "جورج سعد"14 فلن نكون أقل إحباطا. بالنسبة إليه كل شيء قابل للترجمة، لا تردد ولا شك.
يمر بصمت على الاستشهادات الموضُوعة على رأس الفصل، كما أن ترتيب الفقرات قد تغير، التفسيرات الخاطئة تتعدد. النهر تم اختزاله إلى مجرى ماء، بينما تحول حلم اليقظة la rêverie إلى تأمل شارد. في حين كان باشلار  مترجما دقيقا لم يتردد في ترك بعض القصائد في لغتها الأصلية، فإن "جورج سعد" لم يجد أية صعوبة في ترجمة كل النصوص الشعرية. باشلار الذي انتقد دائما عائق الوضوح عند المترجمين الفرنسيين، يورد القصائد من الإنجليزية والألمانية دون ترجمة هكذا يقول:(من غير الإمكان ترجمة طاقة لغة مثلها في ذلك مثل شعرها)15. لذلك رفض ترجمة بعض مقاطع "نيتشه" أو "شيلي". كتب نيتشه:
Jetzt Bin ich leicht, jetzt fliege ich, jetzt sehe ich mich unter mir, jetzt tanzt ein Gott durch mich16.
وسيلاحظ باشلار Bachelard :(لن نترجم هذه السطور، لأننا لم نجد الكلمة التي تعبر عن الطاقة والسعادة الفورية ل"Jetzt". أيُّ سوء حظ هذا يحرم اللغة الفرنسية من كلمات أساسية بالنسبة لسيكولوجيا اللحظة)17.
من خلال ترجمة "لويس غازاميان" لمقطعين شعريين للمشهد الثاني، في الفصل الثاني من: "Prométhée délivré" لصاحبها "شيلي" فإن باشلار سينتقد:"خطيئة الوضوح المتواترة جدا في الترجمات الفرنسية". مؤكدا بأن للقصيدة لغزها الذي لا يأخذ في الاعتبار نظام الأسباب والنتائج. كما أن حركة الأحلام لا يوقفها منطق النحو.
بتركيزنا على ملاحظات باشلار ، سعيت إلى رؤية كيف يترجم المترجم العربي جملة ج.ب. ريشتر:
Dass der innere himmele den aussern, der selten einer ist, erstatte, reflektiere, verbaue18.
بالنسبة لباشلار ، فإن الترجمة الفرنسية أضعفت النص. كلمة "verbaue" لم تترجم، في حين أنها كلمة "التحول المطلق". لقد مر المترجم العربي بصمت على كل هذه الملاحظات مكتفيا بالترجمة الفرنسية الضعيفة:(السماء الداخلية تستعيد وتعكس السماء الخارجية والتي ليست واحدة)19.
لكي تكون مترجما لشعرية باشلار ، يجب أن تكون لك ثقافة باشلار والتي تشمل في الآن ذاته الآداب الفرنسية والألمانية والإنجليزية إضافة إلى النصوص الكبرى سواء الفلسفية أو تلك المنتمية إلى التحليل النفسي.
حسب تقليد عربي يمتد إلى "الجاحظ"، فإن مترجما جيدا من الضروري أن تكون له نفس ثقافة الكاتب ثم معرفة عميقة باللغتين اللغة الأصل ثم اللغة الثانية. غير أنه لا شخص بإمكانه التوفر على معرفة ممتازة باللغتين: فلابد للواحدة أن تسود الأخرى. 
اليوم ومع التعددية الثقافية، فإن اللغة تحتاج إلى إدخال بنيات جديدة وتمثل كلمات أخرى. ليس هناك من لغة خالصة، رهان الترجمة هو وجهة نظرنا في اللغة وشعريتها. لقد عانت اللغة العربية من قداسة حالت بينها وبين الانفتاح على العالم. إلا أن هذا الانفتاح لا يعني افتقادها لروحها.
إنه التحدي الذي رفعه "عادل العوا" من خلال ترجمته مُؤلف:
"Le nouvel esprit scientifique" والذي راجعه "عبد الدايم". أخيرا، نتوفر على نص قابل للقراءة مع مجهود حقيقي في تكييف التركيب العربي مع أفكار باشلار الجديدة. إنها ترجمة تشرف ذكرى باشلار ، بالتأكيد يمكننا مناقشة هذا التأويل أو ذاك للنص الباشلاري، ثم اختيار هذه اللفظة العربية أو تلك من أجل ترجمة مفهوم ما للغة الفرنسية. لكنها ترجمة جيدة وفية للنص دون كثير من الاختلالات. فهي ثمرة عمل جماعي لا يرغب فقط في إصدار مجرد ترجمة تقريبية. ومما لا شك فيه أن اللغة العربية ستصطدم بمجموعة من الصيغ مثل "فلسفة لماذا لا" أو "البنية النومنية" لكنها ستتمكن من إدماجها دون خسائر كثيرة.
يمكننا التمييز حسب "غوتة" بين الترجمة التي تخبر والترجمة التي تعيد كتابة النص ثم الترجمة التي تبدع ثانية خاصية النص الاصلي20. ترجمة "عادل العوا" تعيد كتابة النص الأصلي داخل اللغة العربية فهي ليست ترجمة حرفية كما أنها تحترم أساليب اللغة الأصلية، وتبحث عن تقديم الأفكار الجديدة في الصيغة التي تناسبها داخل اللغة العربية. وتوفق في الآن نفسه بين جمال الأسلوب والوفاء للنص بذلك تشكل مثالا جيدا عن تواصل اللغات وكذا التثاقف. ما تبلور في هذه الترجمة ليس النص الباشلاري، ولكن قدرة اللغة العربية على حمل أفكار باشلار الجديدة وإظهار أسلوبه الشعري.
منذ "مونتسكيو"، لم نتوقف عن انتقاد المترجمين من خلال النظر إليهم كأشخاص يتكلمون من أجل الآخرين ولا يفكرون لذاتهم:(الترجمات مثل نقود نحاسية لها في الواقع نفس قيمة قطعة الذهب، بل وتستعمل بشكل كبير من قبل الشعب إلا أنها دائما ضعيفة ومن عيار زائف)21. إلا أن ترجمة "عادل العوا" ليست مجرد ترجمة، بل هي كتابة ثانية للنص.
تبقى الترجمة في عصر العولمة وسيلة فعالة من أجل تطوير بنيات لغة ما، وإغنائها بدلالات جديدة ثم الانفتاح على شعرية جديدة. باختصار، تحقيق تثاقف حيث الأنا والآخر يتوافقان. لذلك، فإن نشاط الترجمة كعمل ثقافي من الضروري تنظيمه رسميا بحيث أن التصحيح والتقويم وإعادة الترجمة، يصبحون ضرورة ملحة بحيث أن كل ترجمة ثانية هي وجهة نظر تاريخية في اللغة.
تستهدف الترجمة إعادة كتابة النص داخل لغة جديدة، والحال أن تكتب حسب باشلار هو:(التفكير في الكلمات والإنصات إليها في كل رنينها)22. التفكير، تأمل في الكلمات، وهو التأمل الذي يوقظ الفكر، ينعشه ويعيد له فتوته:(من المؤكد أن نجد نسقا فلسفيا حينما نتأمل كلمة)23 يضيف باشلار. من أجل الترجمة، يتحتم كتابة النص ثانية. الترجمة شعرية بالضرورة أي لها وجهة نظر في اللغة، مجهود من أجل استعادة ما تصنعه الكلمات ولا تقوله.
أن نترجم، معناه تحقيق ومن خلال انمحاء للمترجم، للتوازن الصعب بين قطبين متعارضين: اللغة الأصل واللغة الهدف، الشكل والمعنى، الوفاء للنص وكذا جمالية التكييف. وخاصة:(تجنب النقيضان، اللذان يسقط فيهما كل من يترجم: الأول حرية تنحل إلى جرأة... والثاني إذعان يتحول إلى عبودية).

هوامش:
*- نص المداخلة التي ألقاها الباحث التونسي رضا عزوز، أمام المشاركين في الندوة الدولية التي انعقدت بمدينة "ديجون" "Dijon"  الفرنسية ما بين 24/25/26 أكتوبر 2002. ساهم في عروض هذه الندوة كل من:"معهد غاستون باشلار للأبحاث في المتخيل والعقلانية" التابع لجامعة بورغون bourgogne و"جمعية أصدقاء غاستون باشلار ". وقد توخت مقاربة موضوع:  غاستون باشلار والكتابة.  
1- إشكالية أثارها "ميشيل ريمي" في "Palimpseste"، من أجل مسألة ترجمة النصوص السوريالية، ص: 109.
2- Henri Meschonnic. La poétique du traduire, édition Verdier 1999, p.34.
3- J. L Cordonnier: Traduction et Culture, édition Didier 1995, p. 11.
4- Op. cit., p. 67.
5- Ibrahim Madkour: L'organon d'Aristote dans le monde Arabe, p. 40-41, Vrin édition 1969.
6- Henri Meschonnic,  La poétique du traduire, p. 17.
7- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1981.
8- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1983.
9- Jean Brun: L'homme et le langage, PUF 1985, p. 56.
10-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1984.
11- La poétique de l'espace, p. 180.
12- Ibid, p. 179.
13- Palimpseste, Traduction, Adaptation, p. 87.
14- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1991.
15- L'air et les Songes, p. 167.  
16- Ibid, p. 166.
17- Ibid, p. 166.
18- La poétique de l'espace, p. 172.
19- La poétique de la rêverie, p. 172.
20- La poétique du traduire, p. 91.
21- Lettres Persanes, p. 222.
22- Le droit de rêver, p. 184.
23- Le droit de rêver, p. 184.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق