الجمعة، 16 سبتمبر 2016

حوار مع يانيس كونستانتنديس: "يعتبر الجسد بالنسبة لنيتشه ساحة معركة"

أجرى الحوار: فرانسوا غوفان
ترجمة: الحسن علاج



لوبوان: يقاتل نيتشه ضد "محتقري الجسد"، والذين اعتبروه منذ سقراط، "قبرا للروح". وقد قال على لسان زرادشت: "أنا جسد كامل، ولاأي شيء آخر". هل كان متعيا، لماذا ينبغي على الحياة أن تصير لذة ، كما يقول ميشال أونفري؟

يانيس كونستانتنديس: لا على الإطلاق. إن البحث عن الملذات الصغيرة يعتبر بالنسبة له علامة انحطاط. فقد كتب، أنه فخور، باكتشافه أن أبيقور يشكل "نموذجا منحطا"، يعتقد أنه بإمكان العقل أن يتجه نحو اللذة اعتمادا على إرادته وحدها. إنذلك يفترض رؤية اختزالية للجسد، الذي يمسك بالعقل عبره تماما. وهذا ما حدا بنيتشه إلى إعادة تعريف كيفية إدراك الجسد كليا. فليس الجسد بالنسبة إليه وحدة متحجرة، بل مجموعة من الغرائز التي يصارع بعضها بعضا. غرائز توجد في صلب الفكر والأفكار اللاشعورية. 

فقد رفض على النقيض من الفكر الأفلاطوني الذي ورثته الكنيسة، فصل العقل عن الجسد؟

تماما. "لا يمكن لعقلنا إطلاقا فهم تعقيد لعبة المجموعة الذكية، بالأحرى إنتاجها، يقول. أينما واجهت الحياة، أعثر على لعبة المجموعات هذه! ففي تلك العقول المتعددة ثمة زعيم". ويعتبر الفكر الواعي، بالنسبة له، عل النقيض من ذلك،"نتيجة نهائية للمجال العضوي". وتعتبر سيرورة الهضم، مثال، نتيجة لمختلف "عقول" الجسد، وهي [عقول] خالصة للغاية وفعالة من العقل الواعي. قبل فرويد بكثير، برهن نيتشه عن قوة الحكمة اللاشعورية للجسد.

هل يمكن القول أن فرويد قام بتقليده [نيتشه] دون أن يتعرف عليه؟

لا . يبدو لي أن ثمة فرق كبير بينهما، فقد عمل فرويد بمعنى ما من المعاني على مواصلة ثنائية معينة، فصل جسد / روح على الطريقة القديمة، حينما جعل من الجسد مسرحا للغرائز، نوعا من مربع صدى للنفس البشرية. استعادت النفس لدى فرويد أسبقيتها بالنسبة للجسد، في حين أنه عند نيتشه، فقد تمتع الجسد دائما بالأسبقية. فهو من يتوجب عليه أن يشغل "سلكا ناقلا".

في ماذا يختلف هذا الـ"وثوب الحيوي"، هذا المبدأ الذي عارضه الأطباء في بداية القرن التاسع عشر، قبل نيتشه بكثير، بالتصور الميكانيكي للجسد، والذي سيستعيده هنري برغسون؟

انطلاقا من وجهة نظر معينة، يعتبر نيتشه أقرب إلى حيوية عالم البيولوجيا بيشات (Bichat) ، الذي ألح على عفوية الحياة. لكن في الواقع، فلا وجود لـ"وثوب حيوي" بالنسبة له: فليست الحياة جوهرا، بل ضربا عارضا من إرادة القوة.

بمعنى؟

حيث توجد الحياة، فلا وجود لإرادة الصون فقط، بل لإرادة المجاوزة. فحتى الوذفة (proto
plasme) ، يقول نيتشه في إحدى شذراته بعد الوفاة، لا تبحث لتغذي نفسها، بل لزيادة قوتها، عندما تتكاثر بهدف البحث عن الغذاء. إذا ما تم اعتبار الحياة كإرادة قوة، ما لا يقدمه نيتشه كنظرية، بل كفرضية، يسمح ذلك بتفسير التطور التلقائي والمستمر للحياة. لا تكتفي هذه الأخيرة بالاستمرار في الوجود: تبحث باستمرار عن غزو مناطق أخرى والتمدد فيها.

هل يمكن اعتبار إرادة القوة حينئذ غزوا أبديا؟

يتحدث نيتشه في شذرات بعد الوفاة ، على الأصح عن إرادات قوة بصيغة الجمع، لأن كل غريزة من الغرائز تصبو إلى التعبير وفرض نفسها. كل غريزة تطمح إلى فرض قانونها على [الغرائز] الأخرى فضلا عن ذلك فإن صراع إرادات القوة هو الذي يقود -لا يقود-، إلى صناعة الزعيم، إلخ. وبالفعل، فإنه يوجد صراع غرائز لا يتوقف أبدا. وبواسطة الاستقراء، يمكن للمرء أن يقول أنه لهذا السبب بإمكانه المرور بسهولة من فرح معين إلى حزن معين، بطريقة غير مدركة تقريبا. إن الجسد الحقيقي بالنسبة لنيتشه، والذي اليمت بأي صلة للعبادة المزعومة للمجتمع الراهن، هو ليس سلبيا، بل هو جسد مبدع حقيقة. إن الجسد هو ساحة معركة، حيث يوجد مؤقتا منتصر يفرض قانونه على الآخرين. إن "الإنسان الكامل" بالنسبة لنيتشه، هو من يكون قادرا على تنظيم غرائزه، كي يسمح للأسوياء بالهيمنة.

في كتاب غسق الأوثان، تمنى نيتشه سياسة الـ"تربية"؛ فقد أعجب بالنظام الهندي للطبقات المغلقة... ألا يعتبر هذا داروينية اجتماعية، باعتبارها إيديولوجيا القرن التاسع عشر تسعى إلى إقامة مجتمع لصالح "الأكفاء"؟

في الواقع، يعتبر نيتشه نخبويا، ثم إنه قال أيضا أنه لتعزيز لعبة الغرائز، ينبغي على المرء أن يتواجد على "خمس خطوات من الاستعباد"؛ فهو يعارض التربية « بالتدجين، بترويض الغرائز، وهي بالنسبة له خاصية المجتمع الحديث، التي تسعى فقط إلى كبت بعض الغرائز. فبالنسبة إليه ينبغي على التسلسل الهرمي السياسي أن يكون على غرار التسلسل الهرمي للجسد، مثلما هو الشأن لدى أفلاطون. إن "الناس الأواخر" الذين يتحدث عنهم زرادشت، هم المنحطون، مبتورون ذاتيا من غرائزهم الخالقة كي يصيروا ذرات رمل قابلة للتبادل. إن ذلك يشكل، بالنسبة له، علامة على إنهاك فيزيولوجي، حالة مرضية تهرب من كل فائض حتى أنها تصبح غير قادرة على الفرح. فما يلاحظه على مستوى الأفراد، يقوله بخصوص الإنسانية، التي تعتبر منحطة. على أنه يعتقد أن هذه الفوضى بإمكانها أن تبدو منتجة بالنسبة له شريطة أن تترك المكان للتربية التي تخلق شروطا مناسبة للغرائز الخلاقة، وأن يسمح أيضا بتنظيم الفوضى. وهو ما أسميه "التحكم في الفائض"، بمعنى تركيب لا يبتعد عن الفائض، لكنه على خالف ذلك بالعمل على استثماره. إن ذلك، والحالة هذه، هو نقيض إرادة التحكم الكلاسيكية، التي تسعى إلى كبت غرائزها. ولكن لاشيء تم كسبه: فلو تم ترك الغرائز، بالنسبة له، تعبر عن نفسها بحرية، فإما أن الفوضى تستولي عليها، وإما على الأصح قد يوجد تحكم ملائم للحياة.

في أي شيء سيقربه ذلك من الفكر البوذي، كما أكدت على ذلك في كتاب نيتشه اليقظ؟

إنه تأويل حر جدا لنيتشه، أوافق عليه. على أنه المؤلف الغربي الوحيد الذي عرف بنفسه إعادة الاتصال بتقليد غير ثنائي، والذي قاوم التجربة لاختزال كل شيء إلى رؤية مزدوجة للخير والشرير ـ وهو ما يسميه بـ"صائب الرأي". وقد عثر في طريقته على صفاء فكر لم تلوثه الأخلاق الغربية، نوع من الحكمة اللازمنية. وقد وجدت فيها شيئا معينا لايبتعد كثيرا عن كتابات الراهب البوذي الياباني في القرن الثالث عشر، المعلم دوغين (Dogen) .بالرغم من المبالغات ونوع من العنف، فإن نيتشه لديه شيء من الحكمة الشرقية. وضد عصرنا الذي يزعم أخيرا امتلاك معرفة عريضة عن الجسد، فهو يسمح بالفهم بأن الإجلال الذي نخصه به هو إجلال سطحي جدا لايؤخذ في حسبانه عمقه الواقعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن المجلة الفرنسية: لوبوان (Le Point)عدد ممتاز بعنوان: نيتشه فيلسوف مقاومة الأعراف عدد 14 يونيو ـ يوليوز 2013 ص 82-81.

(*) المصدر : مجلة "طنجة الادبية" العدد 51 - 2013 ، ص34.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق