الخميس، 8 سبتمبر 2016

مع ريجيس دوبري[1]

ترجمة وتقديم: سعيد بوخليط


"نحن بحاجة للعثور ثانية على هذا الشعور ب "النحن" فيما وراء مختلف هاته "الذات ـ الأنا". إنها، قضية بقاء".
ولد ريجيس دوبري بباريس، يوم 2 شتنبر 1940، من أب محامي باريسي كبير، وأم مقاومة قديمة. سنة 1960، نجح بتفوق في اجتياز مباراة الدخول إلى المدرسة العليا، وكان الأول في مجموعته. بعد ذلك، سيجتاز التبريز في الفلسفة. سنة 1965، توجه إلى كوبا ملتحقا بالمناضل الأممي تشي غيفارا في بوليفيا، فوقع في الأسر وأُودع السجن لمدة 4 سنوات. بعد إطلاق سراحه انتقل إلى الشيلي ، حيث التقى الزعيم الاشتراكي سالفادور أليندي والشاعر بابلو نيرودا . أثمر، لقاؤه مع أليندي، كتابه : حوارات مع أليندي حول الوضعية في الشيلي. وحوار تلفزيوني، بعنوان : (ما يقوله أليندي). ثم،عاد إلى فرنسا سنة 1973.
بين سنوات 1981 و 1985 كُلف بمهمة لدى رئيس الجمهورية، تهم العلاقات الدولية، وسكرتيرا عاما لهيئة : (Pacifique sud). ثم، مُقدم التقارير في مجلس الدولة إلى غاية تقديم استقالته سنة  1992. دافع عن أطروحته لنيل الدكتوراه بجامعة (باريس 1)، بموضوع تناول القضية التالية :
 "حياة وموت الصورة
. تاريخ النظرة في الغرب "تحـت إشـراف المفكـر فرانسـوا داغوني F. Dagognet، عام 1993.
سيهتم دوبري إذن، بالتأثير الحاسم لوسائل الإعلام والتواصل. لذلك أسس دفاتر : médiologie. أصبح، مديرا للبرمجة في الكوليج الدولي للفلسفة سنة 1998، وقد نضم بتنسيق مع فرانسوا داغوني ندوة : التقنية والفلسفة. وهو أيضا، رئيس المجلس العلمي ل "المدرسة الوطنية العليا للعلوم والإعلام والخزانات". بادر  سنة 2002 إلى إنشاء : المعهد الأوروبي للعلوم والديانات، حيث أصبح رئيسه الشرفي سنة 2005، وهو التاريخ ذاته الذي عرف صدور مجلة : "médium".
يهتم ريجيس دوبري، بمسألة الديني والاعتقاد داخل الجماعة المجتمعية، منطلقا من مسلمة بسيطة : ليس هناك مجتمعا لا يؤمن بالمتعالي (يتجلى هنا بوضوح عجزه عن التخلص من أصوله الكاثوليكية). مثلما، أن دولة علمانية لها التزاماتها الأخلاقية، فليس لأننا ملاحدة تنعدم لدينا القيم المقدسة. بالنسبة  ل دوبري ، هذا التعالي ضروري من أجل التلاحم الاجتماعي. لقد توفر الاتحاد السوفياتي على "لينين"، وكان للولايات المتحدة الأمريكية "جورج واشنطن" وكذا الآباء المؤسسين ثم الدستور ... .
لا يمكن لجماعة ما، حسب أن تحدد نفسها إلا من خلال إحالة على المتعالي (إقليمي، مذهبي أو أسطوري) يتمركز حوله اعتقاد الأفراد. تستحضر، هاته الضرورة في تعريف الجماعة بجوهر خارجي عنها، ما يدعوه دوبري ب : اللا-مكتمل. في حين يأخذ الجوهر تعريف : مقدس الجماعة. وهو في حقيقية الأمر تمثل لما تتوخاه الجماعة باعتباره "الأفضل". اعتقاد، يضمن الثقة المتبادلة بين عناصر الجماعة، ويكفل في رأي دوبري النظام المجتمعي.
يؤكد دوبري ، بأن هذا المقدس سيتم تعيينه بواسطة تكنولوجيا الاتصال والإخبار، ساعيا إلى دراسة كل ذلك في إطار المفهوم الجديد الذي استحدثه بهذا الخصوص، أي الميديولوجيا: La médiologie. في إشارة، إلى الانكباب على دراسة الأدوات التي تحمل وتنقل الرسائل ... والتي بحسبه حولت العادات والعلاقات إلى سلطة ومعرفة. بهذا الصدد ركز دوبري  على ثلاثة أمثلة :
1 ـ الأول ما يدعوه بدستور الأدوية، وهو الكتاب المجلد الأول، إنه الإنجيل المسيحي الذي يسر التواصل مع إله واحد. هذا "الإبداع" المسيحي أدى إلى تحول النظام المجتمعي.
2 ـ الثورة الثانية، تطور آخر للمقدس. نتحدث هنا، عن اختراع الطباعة مما أدى إلى تداول الكتب والمعرفة وكذا ظهور المدرسة والجمهورية والعلمانية.
3 ـ الثورة التقنية الكبرى، تشير إلى الثورة المعلوماتية، مع ازدهار اللوحة. وعلى هذه اللوحة، الجبارة، تنتفي الحدود وينعدم كل وجود للدولة. فإلى، أي شكل من المقدس سينتهي ذلك ؟
يشكل مفهوم "الميديولوجيا" مشروعا موازيا لعمل دوبري. كيف لفكرة مجردة أن تصير قوة مادية ؟ ما هي قوة الأفكار ؟ كيف اكتسبت فكرة الإله الواحد الكلي والكوني مقدارا من القوة، وكيف ترجمتها الطقوس؟ كيف لفكرة إله مجرد كليا، متجسدة في كائن أن تقود إلى تفجير المجتمع الروماني ؟ كيف، سيحدث تحول بطيء في هذا الاعتقاد غير اللائق ؟
سينكب دوبري،على كل هاته التساؤلات، عبر دراسة وسائل التواصل. فالرسول يكيف الرسالة. أطروحته، هي كالتالي : "إبداع الكتابة الأبجدية المرتبط بتقنية جديدة للتقسيم، داخل وسط بدوي لكنه متحضر، شكل شرط ولادة إله كوني". بدون ذلك، لم تكن فكرة الإله ممكنة، وبالتالي يصير إله اليهود ميتا. لقد تحقق، الانتقال بالكتابة واقتسام إله متعالي. سيؤسس إذن ، دوبري تاريخا ل : médiasphères. أي، تقنيات التنقيل التي تضمنت تغيرات  في الاعتقاد، ثم تحولات النظام المجتمعي.
أما، في عصر الأنوار، قد تصورنا أننا تخلصنا من الدين، لكن دوبري، يشير إلى عدم استطاعتنا استبعاد الاعتقاد. ويضيف، قائلا بأن الأزمة الحالية في فرنسا هي حقا أزمة للرمزية الجمهورية، نظرا لغياب المقدس. ويبقى الرئيس فرانسوا متيران ، في منظور دوبري، آخر رجل كبير جسد هذه الرمزية الجمهورية.
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أدركت كيفية التخلص من أزمة المقدس، نتيجة روح المواطنة والوطنية حتى ولو وظفها الأمريكيون لصالح دوافع سيئة. ويقدم، رمز الدولار الأمريكي مثالا جليا. الرمزية الوطنية، تبلور قوة أمريكا.  في المقابل، تعيش أوروبا أزمة لأنها تفتقد لهذه القوة الرمزية.
يجزم دوبري ، بأنه حينما تنتفي دلالة الرمز تطفو إلى السطح القوى الدينية. وبقدر ما يتم تجريد (الدين) القوة الرمزية، يكون النظام الرمزي قويا. لكن، كلما أخذت القوة الرمزية وضعا تاريخيا (الأشخاص)، يصبح النظام الرمزي هشا. إنسانية بدون اعتقاد، ستنحدر إلى مستوى الحيوانية. بالتالي، كيف نعيش قداسة غير دينية، مع الاحتفاظ لها برمزيتها.
يحتل سؤال السياسي، بخصـوص ما هـو أساسـي أكثـر داخله، أي الصلة المجتمعية والعيش وسـط جماعـة. جوهـر ومحور أعمـال ريجيـس دوبري منذ كتابه الأم : نقد العقل السياسي (غاليمار، 1981). لقد قاده، تأمله في السياسة إلى الاهتمام عن قرب أكثر بالواقعة الدينية، مادامت أطروحته المركزية تظهر بأن كل مجتمع يقوم على مبدأ لا مرئي يوحد عناصره.
يمثل كتابه الأخير : لحظة الأخوة(غاليمار). توليفة مدهشة، بخصوص أعماله السابقة عن تقديس السياسي، وهو في الآن ذاته تأمل مثير انصب على حدود "الدين المدني لحقوق الإنسان" ومفهوم التآخي الضارب بجذوره  قدما والمعاصر جدا. قد، لا نتفق مع جل أطروحات صاحب مبحث : la médiologie. أو تكون لنا رؤية أكثر تفاؤلية مقارنة مع منظوره، لكن من يهتم بمستقبل مجتمعاتنا، سيقرأ هذا الكتاب الوضاء، بانزعاج أحيانا لكنه مستنير دائما.
(1) تفتتحون كتابكم، بتأمل عميق في المقدس، لماذا، يحتاج كل مجتمع في رأيكم، إلى هذا المقدس ؟
لأن ما يوحدنا، يتجاوزنا سواء في السراء والضراء. من الذي بإمكانه أن يحول إلى "نحن"، مجموعة "ذات ـ أنا" ؟ كيف نصنع جماعة، ومن الذي يعطي شخصية معنوية،إمكانية عدم الذوبان وسط الشخصيات الفيزيائية، التي هي واحدة منها ؟ سؤال، طرحته منذ ثلاثين سنة. الاتحاد، لا يشتغل من تلقاء ذاته، ما دام الإنسان، كما نقول ذئب لأخيه الإنسان. مع ذلك، توجد جماعات أمم، عشائر، أندية، فرق، محافل، كنائس، ما الذي يجعل من مُربكة بنية هندسية دائمة ؟ يبدو لي، بأنه وجود متعالي، يتموضع فيما وراء المعطى المباشر. ولكي يحصل على الانتماء، تلزمه نقطة غياب، ثُقب مؤسس، فراغ في القمة، قد يكون سلفا قديما أو نصا أو حدثا أو أسطورة أو انتظارا. نقطة الانفلات هاته، التي تكفل في الآن ذاته التلاحم والبقاء، هي ما ننعته بالمقدس. أرى فيه احتياجا دائما، بأشكال تعبيرية متغيرة جدا، بحيث تفرز كل جماعة إنسانية مقدساتها : ليس الشيء ذاته، التجمع ثانية عند أقدام نصب أثينا أو المسيح أو لينكولن أو لينين.
2) هذا يفترض منطقيا، التواجد الدائم للاعقلاني بين ثنايا  وجود الجماعة، هل تطمحون إلى إمكانية تجاوز اللامرئي الذي يبرر المقدس ؟
كمتشبع بالمادية، آمنت طويلا باحتمالية التجاوز بحيث نجعل من الإنسان أبا لنفسه، وننتقل بكل جماعة من القدر إلى تسيير ذاتي لين. لكن، من اللازم أن أضع في حسباني، استمرار انطواء الأسبوع على يوم مُكرس لشيء مختلف عن المعتاد والمألوف خلال الأيام الأخرى. لا نعرف، قط مجتمعا أو وطنا لم يتواجد فوق ترابه، معهد مختص في آلام الأعصاب، ويبلور ذاكرة أو رجاء. أقتحم، الخفي عبر ملاحظة المرئي، بوصف ما هو مشترك بين كل هاته "الفضاءات الرمزية" ،التي قد تكون أثرا تاريخيا، حائطا، ضريحا، أو قبو كنيسة. إنها في الآن ذاته محاور للاحتشاد وفضاءات للحصر جانبا. ما يخول لنا العيش بشكل مشترك، هو أيضا ما يجعلنا مستقلين عن آخرين لا ينتمون للجماعة. تلك، لعبة المقدس الثنائية.
3) رسالة المسيح الأصيلة جدا وهو يقول لليهود السامريين : "ليس فوق هذا الجبل ولا في أورشليم، ستعشقون الله، بل في الفكر والحقيقة". يرتكز بالضبط على خروج من منطق القداسة هذا، الذي يحصر جماعة ما داخل فضاء أو أرض. ألا يتمثل خطأ المسيحيين، في كونهم عادوا إلى قداسة تُسيّج... . خارج الكنيسة، لا شيء يهم ؟
ما تظهره باعتباره خطأ ثم انحرافا، أراه ضرورة. يُؤسف لها، لكنها حتمية. التاريخ العملي للروحية المسيحية، درس للأشياء. لقد أعطى يسوع المسيح، أجمل صياغة ممكنة للمأمول وتاريخ المسيحية قام بعودة إلى الممكن. بدءا، من طوباوية ثيولوجية إلى أنثروبولوجية هي بالأحرى موجعة. فقد جاء المسيح ليؤكد عدم حاجتنا إلى معبد كي نصلي. لا يوجد الله في أية جهة ثم تجده أينما توجهت، يستوطن قلب كل واحد منا. لكن ماذا حدث، ما إن مات ؟ عمل المريدون على جعل المقدس فوق الظهر، إن جاز لي قول ذلك. الوظيفية الفعلية للجماعة، فندت الرسالة  الفردية التي أنشأتها. نعم للقدّاس، لكن داخل كنيسة يقيمه رجل دين بشكل منفصل.
4) ألم يتبلور توتر في كل الحضارات بين الديانة المؤسساتية التي احتاجت إلى تحديد المُقدس، مقابل التيارات الصوفية التي توخت جعله كونيا ؟
توتر، يظهر في الواقع صعب التجاوز. يريد، الروحي أخذ الحيز الأكبر، في حين  يعيده الديني إلى الدير. يصنع المتصوفة الفجوة بينما يتسامى مريدوهم بالجدران، انحصار مذهبي تنظيميا وجغرافيا. هاته اللعبة، سنجدها ثانية في اليهودية والمسيحية والإسلام. هناك الصوفي والإمام، إلى جانب القس والكاردينال. الصعب، هو التفكير بالطريقتين في الآن ذاته.
5) تقولون، بأن القداسة المعاصرة والديانة الغربية، يتجسدان في حقوق الإنسان. ديانة مدنية تنتقدونها جدا. ألا يعتبر مع ذلك، المثال الأعلى لحقوق الإنسان، ضروريا من أجل بناء عالم قابل للحياة ومحب للسلام ؟
نقف ثانية في ديانتنا المدنية الجديدة،على ديانة لغير المؤمنين، نفس التعارض الباطني الذي وجدناه في المسيحية بين وحي البداية ومؤسسة الوصول. أو إذا أردتم، بين خطاب المواعيظ، ثم الحروب الصليبية المدمرة. مثلما، لا يجوز لنا إسقاط جرائم المسيحيين على المسيحية، أو جرائم الشيوعية على فلسفة الأنوار، فمن غير العادل أن ننسب لحقوق الإنسان جرائم الغرب. لا أحد، يمكنه نفي هذا الفتح الرائع لمزلاج عبر الاكتساب التاريخي لحقوق الإنسان.ما يثير الحنق، هو رؤية اشتياق نحو اللا- ضفة، يخدم نسقا للسلطة والهيمنة، غير قابل قط للاختراق، فعل للاستخفاف والظلم، والرأي المُبتسر. انطلاقا من اقتناعي الجيد بالعلمانية، أطالب بفصل واضح بين الروحي والزماني، ثم المثالي المُنظم وكذا جهاز الدولة، وإلا فإن الإنسانوية  ستصنع إكليروسية جديدة. توجد عقدة ما للتعالي عند الغربيين، نوع من الغطرسة أصبحت معها حقوق الإنسان نسقا للاحتجاز وعدم الاعتراف بالآخر، عائقا أمام زحزحة المركز. يقود، الاكتفاء روحيا بالذات إلى تصلب حقيقي لمجال وعينا. إنها، ليست بنرجسية متمدنة، بل انطواء، ونفي للتآخي. ما يثير الانزعاج : هذا الاستخفاف العميق من قبل الغربي العادي بالآخر كآخر.
6) ما يجب أن يكون فكرا للإدماج، تحول عندكم إلى فكر للإقصاء...
لا تُطرح القضية بهذه الكيفية. خصوصياتنا أخذت طابعا كونيا. ستقولون لي، بأن الأمر معتادا : "فلن تمارس جريمة قتل" و "لن تتغزل بزوجة قريبك" و "ستحترم الآخر". نعم، تحية ! لكن من هو، هذا الآخر الواجب حمايته مثلما تلزمنا حقوق الإنسان على منوال الإنجيل ! إنه، ليس إنسان الجانب الآخر من الجبل. بل،  أخا في الدين، أختا، أو ابن عم. من اللازم مطلقا التذكير بعدم قابلية حقوق الشخص للتقادم دون أن ننسى أبدا تصرف الجماعة بشكل مختلف عن الشخص. وبأن تجليات الفرد، لا تقول أبدا كلمتها الأخيرة. سيأتي يوم خلال قرن أو قرنين، يدهشنا فيه "تأليه الإنسان" ، وسنرى في إيماننا الضيق شيئا ما، جرح زمان للوهم، حيث مازال الفرد يعتبر نفسه في قلب العالم، منفلت ومنفصل عن الطبيعة وكذا الحياة. يضحكنا قليلا هذا التصدع، حينما سنتكلم عن حقوق الكائن الحي، وواجبات الإنسان اتجاه العالم.
7) يمثل مفهوم الأخُوة محور كتابكم الأخير. في أي شيء يبدو اليوم خاصة ملائما ؟
لأنه تم نسيانه بشكل مأساوي، منذ أن هيمن الاقتصاد، ولم يعد للمال من رادع. لنؤكد، على الأقل بالنسبة لي، بأنه مفهوم بقدر كونه اشتغالا، تمرينا وترويضا. أتكلم طبعا عن أُخوات انتقائية. الأخوة، نقيض للتآخي البيولوجي. ما شغل ذهني أيضا، سبب هذا الاستبعاد ولماذائية الإهمال الحالي. فالأخوة، غير المُفكّر فيها في العصر القديم داخل مجتمع غير عادل، أضحت ممكنة مع الإيمان التوحيدي وموضوع تأمل عند المسيحية التي مارستها عبر الأُخوات الرهبانية. لقد أسقطت الثورة الفرنسية هذا المعطى الروحي على العالم السياسي، ولا أظن وجود ثقافات كثيرة تصورت الأخوة خارج روابط الدم ثم الإثنية أو الدين. عندنا، ارتبطت الأخوة بفكرة الأمة، بمعنى جماعة متساوية أمام القانون كيفما هو الأصل الإثني. الوطن، هو في الآن ذاته أمومي ورجولي. وحينما، نرى ارتقاء هذا المبدأ في التاريخ الفرنسي، ندرك ارتباطه بالصعود الجديد للرومانسية المسيحية أواسط القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1848. حينما كان المسيح من كادحي مدينة الناصرة، بخلاف بابا الامتيازات. لكن، أول تبلور سياسي للأخوة المسيحية أو الماسونية، يحيل على معركة فالمي valmy سنة 1792، والتي نحن جميعا أبناء لها، ومن الواجب علينا حماية الوطن المعرض للخطر. إنها، مثل طبيعة  ثنائية للأخوة، دينية وحربية في الآن ذاته، سيف ومرشة للماء المقدس. ليست، قط بالهينة في كل الأحوال، من هنا كبتها راهنا في الغرب وبالأخص أوروبا التي ترفض كليا سماع الحديث عن الحرب أو التشارك.
8) لا يظهر بأن هناك استبعادا مطلقا للمفهوم ...، ف نيكولا ساركوزي وسيغولين رويال، قد نضرب فقط المثال بهما،عملا مؤخرا على إبراز قيمة الأخوة في ملتقيات ومناسبات عديدة ؟
رئيس الدولة ؟ مدهش حقا. إنه، يتكلم عن حقوق الإنسان. ليس للأخوة من مكان داخل الثقافة الأنجلو ساكسونية. أما، سيغولين رويال فقد أحست حقا بانجذاب خفي، لكنها لم تستوعب بعد مقياس ما هو ملح جدا ويفرض نفسه بقوة داخل الروابط الأخوية الفعلية. نقيض، للمتصنع.
9) من جهة أخرى ألا يمثل التضامن ترجمة معاصرة أكثر للأخوة ؟
من اليقيني جدا. فالتضامن، أخوة تنقت من تضميناتها الإنجيلية وكذا بعدها المسيحي، العامي والنضالي. أخوة، متبرجزة، وبيروقراطية، مشوهة، لكنها وظيفية. لقد، أمكن للجمهورية الثالثة أن تحول إلى قانون ما حلمنا به سنة 1848.  هذا جيد. لكن، لنرجع إلى المنبع الحي ونعمل إلى إثارته. ألتمس، لحظات حية للأخوة، وليست حالة رسمية، أو بالأحرى حالة مجتمع يجعل هاته اللحظة ممكنة. نصل إلى حد وقاحة الاستعرائية، التنافس، التبعثر، كل واحد لذاته، وهو ما نحتاج إليه جميعا كي نتنفس ! أن نعثر ثانية على الشعور ب "النحن" فيما وراء مختلف هاته "الذات ـ الأنا". قضية بقاء، روحية وفيزيائية أيضا.
10) بقراءتكم، لا يمكن لهذه الأخوة أن تتجسد بشكل آخر إلا في نطاق مقدس، أي صيغة أُخوات متمركزة ومتجاورة. مع ذلك، نحن كثيرون من يطمح بعمق أكبر إلى أخوة إنسانية كونية. ألا يشكل، مثلا علم البيئة بالنسبة إليكم "ديانة مدنية جديدة" والتي أمام خطر إبادة الكون ستكون في مستوى توجيه الإنسانية نحو ما سماه "إدغارموران" في كتابه : الأرض –الوطن(منشورات سوي1996 )، "وعي الجماعة بالمصير الأرضي'' ؟
لا توجد في رأيي أخوة دون الإقرار بانتساب إرادي وثقافي. هو فن تخيل عائلة لا تدين بأي شكل من الأشكال للجنيالوجيا. فكرة الأرض- الوطن مغرية للغاية، حتى وإن بدت لي افتقادها للدقة كي تصير عملية،عذرا على التناقض. التضامن البيئي،عقلاني بالطبع. إننا جميعا عرضة للأضرار والكوارث ومسؤولين عن المستقبل. لكن،هل بإمكان جماعة مجروحة التحول إلى جماعة للمحبة ؟ هل بوسع المخاطر البيئية وهي واقعية جدا،خلق تاريخ للحب ؟ ربما الطبقة المتميزة من النوع الإنساني، بصدد التشييد، لكن ذلك لم يمنع طويلا الآخرين من ممارسة جرائمهم. مع انعدام تاريخ مشترك باعتباره كلاما للأسطورة، نفتقد للحماسة الجماعية أو التسامي بالحس المشترك. لا أرى، ماذا يمكن للأرض أن ترويه لنا ولا بأية لغة. تتكلم للجيوفيزيائيين والكيمائيين، لكن رجل الشارع يحتاج للشعراء. بالفعل، يستعصي علي القيام بربط ثان بين الأرض La terre المولد ب تاء "t" صغيرة ثم الأرض "la Terre" بتاء "T" كبيرة، الكون والوطن. الجينيالوجيا والأسطورة. هل، بإمكان الأرض أن تصير أسطورية ؟ أقادرة هي على افتتاني ؟ أن تهمس في أذني ؟ هل نعود أصلا إلى لحظة شمان chamane[2] ؟ إننا لا نتلف إلا ما نستبدله. إذا توخيتم، ننتهي بالأناشيد الوطنية أو المقاطع الشعرية للأممي. اختلقوا نشيدا عالميا نردده جماعة. أن تكتبوه بالإنجليزية أو الصينية ؟ لا شخص، يفهم لغة الإسبرانتو Espéranto . كما ترون عيبي ألا أكون طوباويا مع بقائي كليا شديد الحساسية اتجاه المحافظين. لا تعارض مطلقا، بين الثورة والواقع. بالضبط، ما تعلمته من تاريخ الثورات، أنه مهما يكن لا نصنع مكانا، فالإنسان لا يمكنه الاستغناء عن مكانه. لقد، كان المسيح طوباويا رائعا، لكن مائة سنة بعد، احتاج المسيحيون إلى رفات قديسيهم الصغار ونقطة تواعد. وبقدر، معرفتكم القبلية، فحينما تنسون الحاجة إلى التقديس، يمسك بكم ثانية من خلف ويغتالكم دون تعاليق. لنواجه الأشياء حتى نتخلص منه بشكل أفضل.



[1] ـ Le monde des religions : n° 34, Mars- Avril 2009,  PP : 78/81.
[2]  ـ شمانية : عبادة الطبيعة والقوى الخفية في شمالي آسيا وأمريكيا.

الموقع الاليكتروني : http://saidboukhlet.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق