الأربعاء، 21 سبتمبر 2016

عبد الرحمان بدوي: مسارعقل استثنائي[1]

بقلم : سعيد بوخليط


[بالصدفة أتيت إلى هذا العالم، وبالصدفة سأغادر هذا العالم !]
بهذه المقولة العبثية، التي تحمل في طياتها أكثر من دلالة فكرية، يفتتح عبد الرحمان بدوي سيرته الذاتية، التي حاول من خلالها وعلى امتداد سبعمائة صفحة، تقديم ذاكرة لمساراته الحياتية والفكرية.
 الصدفة، وحدها ربما تكون قدر كل واحد منا، مادام أن لعبة الوجود محكومة أساسا بمنطق اللحظة. لا خيار لنا، إلا إعطاء الزمان الحاضر، أقصى ممكناته، لأن الموت قد يأخذ أية صفة فتتحول العلية والجوهر والماهية والمفهوم والمطلق، إلى ائتلاف فكري يستهدف إعطاء وجود مبرره النظري.
لكن الصدفة كذلك، لا يمكن أن تخلق عقلا كبيرا، وروحا قوية، كالتالي دافع عنها بدوي على امتداد مسيرته الوجودية الزاخرة بالعطاء والإبداع، جعلت من النّفس النيتشوي القائم على المجابهة والتحدي والطموح الجامح إلى العلو، شعلة وضاءة تشق سبل الحقيقة وسط صخر هذا الدهاء الآدمي الذي حول كل شيء إلى مجرد شيء : عبث للوازع اليومي.
أسس بدوي، بكتاباته مدرسة قائمة بذاتها شعارها الوحيد الاجتهاد الفكري الرصين نتيجة ذلك :
ـ مثقف يتقن تكلما وقراءة وكتابة أهم اللغات التي تتوفر على إنتاج إنساني زاخر: الفرنسية/الإنجليزية/ الألمانية/ اللاتينية/ الإسبانية/ الإيطالية/ الفارسية. يقول في هذا الإطار، محددا المبررات والأسباب التي عملت على إعطاء مشروعه طابع التنوع والضخامة : ((أهم ما أعانني هو إتقاني لعدة لغات مما مكنني من الإطلاع على المؤلفات الأساسية في مصادرها الأصلية، إذ الملاحظ أن عدم إتقان اللغات هو عقبة كأداء في سبيل البحث العلمي وخصوصا البحث التحصيلي لتعدد اللغات التي كتبت بها المؤلفات ذات القيمة. ولهذا لا أتصور مطلقا أن يتمكن شخص من القيام بأبحاث تحصيلية ذات قيمة علمية تذكر دون أن يكون متقنا لأربع لغات حديثة وثلاث لغات قديمة على أقل تقدير))[2].
بأرضية فكرية متينة كتلك، وضع بدوي لنفسه مشروعا وبرنامجا فكريا، أعطى لمسيرته العلمية التعدد والتنوع، وبالأخص الإنتاج الجاد الذي وصل إلى مائة وعشرين كتابا. يؤكد، بأنه يعتز ويفتخر، بكونه حقق أخيرا الخطة التي وضعها لنفسه[3]. وتقوم، على البرنامج التالي :
أ ـ تقديم الفكر الأوروبي إلى القارئ العربي، وقد جاء ذلك في إطار سلسلة وضع لها بدوي اسم "خلاصة الفكر الأوروبي"، حيث ظهرت في هذا السياق مجموعة من الأعمال والدراسات النظرية نذكر منها : نيتشه/ شبنجلر/ شوبنهاور/ شلنج/ إمانويل كانط (أربعة أجزاء).
ب ـ التأسيس والتنظير لمذهب فلسفي وجودي، وتندرج في هذا السياق الأعمال التالية :
* أوجه التلاقي بين التصوف الإسلامي والمذهب الوجودي، وتبيان عناصر التلاقي وكذا حضور الوجودية في التصوف الإسلامي خصوصا عند : الحلاج، وابن عربي والسهروردي. كانت هذه الدراسة، في الأساس محاضرة ألقاها بدوي في لبنان ثم أعاد نشرها في كتابه : الإنسانية والوجودية في الفكر العربي (1947).


* "هل يمكن قيام أخلاق وجودية" ؟ ،محاضرة ألقيت كذلك في بيروت سنة (1948)، الأطروحة الأساسية التي حاولت الدفاع عنها، التأكيد على حركية وديناميكية الأخلاق الوجودية، وبالتالي من الصعب وضع قواعد لهذه الأخلاق.
* "فن الشعر الوجودي" ، سعى بدوي إلى وضع نظرية لفن الشعر انطلاقا من المذهب الوجودي. وقد ظهرت ضمن كتابه "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي".
* "دراسات في الفلسفة الوجودية"، حاول بدوي بهذا العمل تيسير وتبسيط فهم الوجودية عند المثقفين.
كتابات وغيرها، ساهمت بشكل كبير في تشكيل رافد نظري ومعرفي للنظرية الوجودية لدى المثقفين العرب، كما أعطت لبدوي طابع الريّادة في تقديم الوجودية، بل هو في حقيقة الأمر، يعتبر من بين روادها الأوائل يقول في هذا السياق : ((ومن الواضح أنني بدأت أسهم في الوجودية قبل سارتر وغيره، مما شاءت الدعاية الزائفة ربط الوجودية بهم. فقد كانت شهادتي للماجستير بالفرنسية وتحت إشراف لالاند وكويري. وكتبت حول "مشكلة الموت في الوجودية" وكان ذلك في سنة 1939 ثم بعد ذلك أوضحت مذهبي داخل الوجودية في رسالة للدكتوراه بالعربية والفرنسية وعنوانها : "الزمان الوجودي"، وقد طبعت أربع طبعات حتى الآن، بينما أول كتاب لسارتر في الوجودية هو الوجود والعدم الذي صدر في أواخر سنة 1943))[4].
كما يشير في هذا الإطار إلى مسألتين أساسيتين :
ـ أنه في فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحولت الوجودية إلى موضة، متمحورة حول شخص سارتر (1905-1980)، وقد ساهمت في ذلك كتابات الصحفيين. مسألة، يرفضها بدوي لأنها أضرت بالوجودية كمذهب في غاية "الجد والصعوبة".
ـ كما أن سارتر هو في حقيقة الأمر أديب وباحث نفساني، أكثر منه فيلسوف، وقد جاء كتابه "الوجود والعدم" : ((بعيدا كل البعد عن وجودية هيدجر، وخليطا من التحليلات النفسية فدهشت من زعم سارتر وحوارييه أنّ هذا الكتاب هو إسهام  في المذهب الوجودي)).[5]
ج ـ المكون الثالث لمشروع بدوي والمؤسس لرافد آخر من سيرته العلمية، يقوم على تحقيق ونشر التراث الفلسفي العربي واليوناني وكان من نتائج ذلك :
ـ تحقيق أعمال أرسطو وأفلاطون وأفلوطين والإسكندر الأفروديسي وبرقلس...
ـ تحقيق مجموعة من النصوص الفلسفية التي ضاع أصلها اليوناني، إلا أن بدوي اشتغل عليها، انطلاقا من الترجمات العربية المتبقية من هذه النصوص. بهذا العمل، عمل على إبراز بعض النصوص وتقديمها للقارئ كـ : الحجة الأولى لبرقلس في قِدم العالم وكذا عشرات من رسائل الإسكندر الأفروديسي.
ـ تحقيق مؤلفات بعض الفلاسفة مثل : الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد والغزالي وابن خلدون.
وقد شكلت هذه النصوص للباحثين، مادة غزيرة في البحث والتحليل. يكفي، أن نذكر بالخصوص كتابيه : أرسطو عند العرب/ ومنطق أرسطو الذي اشتمل على ترجمة كاملة لكل مؤلفات أرسطو.
تلك إذن، إشارة سريعة للمحاور الكبرى لاشتغالات بدوي الفكرية والمذهبية، التي تمثلت فيما يلي:
ـ التأريخ للفلسفة.
ـ تحقيق التراث.
ـ التأسيس والتأصيل لمذهب فلسفي ذاتي في الوجود.
وهذا ((هو الوضع الذي ينبغي أن يتخذه كل مفكر في هذه الفترة الانتقالية حيث لا يستطيع الإنسان أن يقتصر على الإنتاج الشخصي وإلا لأهمل في أداء واجبه القومي في إدخال الفكر الأوروبي إلى العالم العربي بإغنائه بكنوز هذا الفكر، كما لا يستطيع أن يقتصر على الفكر الأوروبي دون أن يتناول التراث الفلسفي الإسلامي وإلا قصر في واجبه نحو تراثه وقومه... كما أن ما تستلزمه الأستاذية الجامعية من ضرورة القيام بأبحاث تحصيلية تفرض بالضرورة على المرء العناية بتاريخ المذاهب الفلسفية))[6].

جاءت سيرة عبد الرحمان بدوي في جزأين، سعى من خلالها تقديم تصوره للوجود، سواء ذاك الذي لم يخلقه حقا صدفة وأقصد الزمن المعرفي الذي جاء وفق اللحظات الثلاث المرسومة أعلاه. أو الزمن الوقائعي، المحكوم حقا بمنطق الصدفة، ذلك أن ميلاد بدوي يوم 4 فبراير سنة 1917، في قرية شرباص على دلتا النيل لم يكن بالإمكان لو نجحت بالفعل محاولة قتل والده، حيث نجا بأعجوبة من الحادث. يقول : ((ولو فتشت تاريخ حياة أي إنسان، لوجدت أن نوعا من الصدفة هو الذي تسبب في ميلاده : صدفة في الزواج، صدفة في الالتقاء بين الحيوان المنوي في الرجل والبويضة في الأنثى إلخ إلخ. وواهم من يظن تم ترتيبا أو عناية أو غاية. إنما هي أسباب عارضة))[7].
عبد الرحمان بدوي، الذي شغل الساحة العربية الفكرية بإنتاجاته العلمية المتينة، على امتداد مساحة كبيرة من الزمان داخل فضاءات معرفية مختلفة. أمضى طفولته، في البادية يمارس بعض شؤون الفلاحة. بل، وحتى دخوله المدرسة الابتدائية والثانوية ثم الجامعة، فقد ظل ملتصقا بالزراعة يمارسها خاصة إبان فصل الصيف، لكن مع بلوغه سن الحادية والعشرين ومع تعيينه معيدا في الكلية سيقطع مع ذلك كي يتفرغ للأبحاث العلمية والفكرية.
لقد دخل بدوي كلية الآداب لدراسة الفلسفة، ضدا على رغبة أبيه الذي كان يبتغي دخوله كلية الحقوق، باعتبارها المؤسسة التي يتخرج منها الوزراء. ولعل أهم حادثة وقعت في العام الأول لدراسته بكلية الآداب، هو عودة طه حسين إلى التدريس بالكلية عام 1934، بعد أن فُصل منها سنة 1932، على إثر موقفه الشهير من الشعر الجاهلي.
هكذا ارتبطت أواصر صداقة كبيرة بين الرجلين، إلى غاية وفاة طه حسين عام 1973. ومن حسن حظ بدوي كذلك، أن قسم الفلسفة هذا، يدرس به أئمة الأساتذة الفرنسيين أمثال : أندريه لالاند/ ألكسندر كويريه/ إميل برييه/ لوي روجييه/ وابل ريه Rey.
بالنسبة ل "لالاند"، تمحورت دروسه داخل الجامعة المصرية في موضوع "نظريات الاستقراء والتجريب"، بين عامي 1937 و 1938. إلى جانب محاضراته في المنهج العلمي، درس الميتافيزيقا لطلبة الماجستير ومن بينهم بدوي، الذي اختار كموضوع لرسالته "مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة"، تحت إشراف لالاند نفسه. لكن مع ظروف الحرب العالمية الثانية، غادر لالاند مصر عائدا إلى بلده فرنسا، وواصل كويريه الإشراف على هذه الرسالة. وقد، كان لمعرفته باللغة الألمانية وإطلاعه على الفلسفة الألمانية إفادة كبيرة لبدوي، يقول الأخير مُثنيًا على الرجلين : ((وكان من عظيم حظي أن تتلمذت على كليهما : لالاند في الفترة من أكتوبر سنة 1937 إلى مارس 1940 وكويريه في الفترتين : أكتوبر سنة 1936 إلى مايو 1938، وأكتوبر سنة 1940 إلى مارس سنة 1941 درست عليهما في مرحلة الليسانس وأشرفا على تحضيري للماجستير))[8]. ثم، يستفيض مبينا مميزاتهما العلمية والمعرفية، ومجال اشتغالهما وتأثير كل ذلك على مساره الفكري. بالنسبة ل "لالاند" فقد عمل على : ((بث النزعة العقلية في تفكيري، وتوجيه عنايتي إلى مناهج البحث العلمي، وإلى الحرص على الدقة في تعريف المصطلحات الفلسفية (ولا عجب فهو صاحب أهم معجم فلسفي). ثم إني كنت أفزع إليه في الحصول على معلومات دقيقة عن الفلاسفة الفرنسيين الذين عرفهم عن قرب، أو الاسترشاد بأحكامه عليهم. ومن مآثره عليّ أنه هو الذي تحمس لتعييني معيدا في قسم الفلسفة في 15 أكتوبر سنة 1938 غداة حصولي على الليسانس))[9].
الأمر، كذلك بالنسبة لكويريه Koyré فقد كان له ((عليّ فضل عظيم لأنه كان يجمع بين النزعة الميتافيزيقية والنزعة العلمية، وكان يهتم بالتيارات الصوفية (...) قدر اهتمامه بتاريخ العلم الحديث (...) وثم ميزة أخرى لكويريه أفدت منها كثيرا وهي معرفته الجيدة باللغة الألمانية وبالفلسفة الألمانية (...) حيث تتلمذ على هوسرل مؤسس مذهب الظاهريات وعلى هلبرت الرياضي الفليسوف. لهذا وجدت فيه عزما كبيرا في تفهيمي مذهب الرياضيات وتوجيهي في ميدان الفلسفة الوجودية وقد كان على علم دقيق بها))[10].
لاشك أن القارئ لسيرة عبد الرحمن بدوي، سيلتقط بعض الخصائص الوجودية، ربما لا تميز فقط هذه الشخصية الفذة، ولكن بالأساس كل الذوات الكبيرة في مجالها يتعلق الأمر بالحيثيات التالية :
* أنّ تقييم الآخر، لا تحمكه العواطف المجانية ولا النفاق الاجتماعي، أو الفكري ولا حتى التملق والتزلف نظرا لوضعه الثقافي أو المعنوي. لكن، الفيصل في ذلك إنتاجه العلمي وعطائه الفكري، ثم صدقه مع نفسه وكذا مجال اشتغاله. وقد كشف، بدوي عن كثير من مثقفي جيله الذين استثمروا صفة مثقف في كل أشكال الوصولية والانتهازية والخواء الذهني. فإذا كانت أسماء كـ : لالاند/ كويريه/ هيدجر/ طه حسين/ مصطفى عبد الرزاق/ هتلر/ نيتشه/ أحمد لطفي السيد...، شخصيات كيفية وتاريخية على مستوى التفكير والعمل. فإنه، في الطرف المقابل تتموضع شخصيات أخرى بالنسبة لبدوي، تتميز بسلبياتها قصورها عن تجسيد النموذج القادر على إدراك الشخصية الإنسانية في أبعادها الوجودية الديناميكية وتمثل أقصى درجات الضغينة والحقد. ولطالما، صادف بدوي مثل هؤلاء في حياته الجامعية والسياسية. لكن، أكثر ما يثير في هذا السياق، موقفه من الثورة الناصرية وكذا الحكم السياسي الذي ساد مصر من سنة 1952 على 1970 بمختلف إيديولوجياته.
* يتأسس السرد الحكائي للسيرة على ثنائية الإيجاب والسلب، القبول والرفض...، موقف فكري يؤكد تمازج الروح النيتشوية، بديناميكية المرجعية الوجودية، في أفق صياغة نموذج كالذي حاول عبد الرحمان بدوي الدفاع عنه.
* تَمَثُّل بدوي للقيم العقلانية والتأسيسات النظرية الكبيرة سواء في الثقافة العربية أو الغربية. لايعني الأمر بأي شكل من الأشكال، الانقياد السلبي والمطلق. بل، نحس دائما بوجود ذات قارئة بامتياز، لا تتعامل مع الأسماء والتيارات المذهبية، إلا بروح نقدية. تكفي، الإشارة إلى موقفه من مسرح العبث، وإسهامات التيار البنيوي والفلسفة الجديدة والثورة الطلابية بفرنسا أواخر الستينات. إجمالا، تشكل البناء العام للسيرة من خلال المحاور التالية :
1 ـ الإنتاج العلمي والنشاط الجامعي.
2 ـ المسار السياسي.
3 ـ الرحلات إلى أوربا.
ليؤسس بذلك وثيقة فكرية هائلة، تمثل حلقة أساسية في مسار الفكر العربي، ولن أبالغ إذا قلت انطلاقا من الزوايا الكثيرة والجوانب المتعددة، التي تكشف عنها بأنها تشكل مرجعية أساسية للباحثين في مختلف الحقوق والمجالات المعرفية : من الجغرافيا إلى التاريخ، مرورا بالقانون الدستوري والمنطق وتاريخ الفكر... . وبين، هذا وذلك تبرز قوة اللغة وجلاء الأسلوب ونباهة الذكاء ووضوح الفكرة، في حين الخيط الرابط لكل ذلك يتجلى أساسا في ذاكرة خارقة تلتقط أبسط الجزئيات.
أعتقد، بأن الاعتراف الذي صدر عن طه حسين بقوله : "لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا"، بعد الانتهاء من مناقشة الأطروحة الجامعية التي تقدم بها بدوي تحت عنوان : الزمان الوجودي. يؤكد، بشكل ملموس الجدة الفكرية التي ابتدأ بها مساره، وليعلن في أواخر حياته بأنه بعد 120 مؤلفا، قد اقتنع كامل الاقتناع بالمساحة التأملية، التي أسستها كتاباته من خلال المسارات التالية :
1 ـ المؤلفات التي سعى بها إلى التعبير عن مذهبه الفلسفي.
2 ـ عرض الفكر الأوروبي وتقديمه للقارئ العربي.
3 ـ الإسهام في دراسة الفلسفة الإسلامية.
يقول بدوي عن موضوع رسالته للدكتوراه ))وفيها عرضت مذهبي الوجودي القائم على أساس تفسير الوجود بواسطة فكرة الزمان وما يترتب على ذلك من إقامة مذهب فلسفي كامل في علم الوجود وفي المنطق، وفي الأخلاق (...) وإسهامي في الفلسفة  الوجودية إنما يرتبط مباشرة بوجودية هيدجر، ويعد إكمالا لمذهبه في عدة نواح :
أولا : في تفسير ظواهر الوجود على أساس الزمانية.
ثانيا : وضع لوحة مقولات وفقا لها ينبغي تفسير أحوال الوجود، فكما فسر إمانويل كانط الأحكام العقلية وفقا للوحة مقولاته الإثنتي عشرة، كذلك وضعنا نحن ـ وهو ما لم يفعله هيدجر ولا غيره من الفلاسفة الوجوديين ـ لوحة مقولات تُفهم وفقا لها أحوال الوجود. وتتميز هذه اللوحة بأنها تقوم على التوتر في أحوال الوجود. مما يهب الفهم تفسيرا ديناميكيا للوجود قائما على دياليكتيك عاطفي وإرادي.
ثالثا : فهم أحداث التاريخ فهما كيفيا باعتبار أن الوجود تاريخي وتاريخيته كيفية.
رابعا : تفسير العدم بأنه الهوات القائمة بين الذرات، لأن الوجود منفصلا وليس متصلا))[11].


وقبل ذلك وبالضبط سنة 1939، صدر عن مكتبة النهضة المصرية مُؤلفه عن نيتشه، وهو أهم الأعمال المندرجة في إطار سلسلته "خلاصة الفكر الأوروبي" التي سعى بها إلى "إحداث ثورة روحية في الفكر العربي"، عبر الاستفادة من التراث الأوروبي، من أجل تجاوز حالة التأخر التي يعانيها الفكر العربي.
من مظاهر النجاح ،التي عرفها هذا الإصدار يؤكد بدوي تتجلى في نفاذ طبعته الأولى (2000 نسخة) ،بعد عامين من تاريخ ظهوره. وقد طُبع الكتاب بعد ذلك، خمس مرات. كما أن عناصر من الضباط الأحرار وبالخصوص جمال عبد الناصر وأنور السادات، احتضنت هذا العمل واعتبرته مرجعية فكرية يجسد تطلعاتها السياسية. أما أحد الضباط قد : ((أوصى بأن يُكتب على قبره هذه العبارة التي كتبها نيتشه وأوردتها في كتابي : لكي تجني من الوجود أسمى ما فيه عش في خطر!))[12].
أما عمله "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"، فهو ترجمة من الألمانية لمجموعة مقالات، صدرت عن بعض كبار المستشرقين. وقد شكل المحطة الأولى في المقاربات التي خصصها للفلسفة الإسلامية.
وكان من ثمار رحلة بدوي على فرنسا سنة 1946، اشتغاله الدؤوب والمتواصل في المكتبة الوطنية، حيث عمل على تحقيق كتب أرسطو المنطقية.
ـ المقولات/ العبارة/ التحليلات الأولى/ البرهان/ الطوبيقا/ السوفسطيقا/ إيسا غوجي/ الخطابة/ في الشعر. يقول بدوي عن هذا الإنجاز العلمي الكبير : (( 1. فقد أنقدت هذه الترجمة العربية القديمة الممتازة من الضياع، خصوصا ومخطوط باريس هذا تتحلل أوراقه عاما بعد عام، إذ مضى عليه قرابة ألف عام، وورقه هش يتفتّت كلما اطلع عليه إنسان، رغم محاولات ترميم بعض أوراقه 2. ويسرت للباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية الاطلاع على ترجمة منطق أرسطو إلى العربية في القرنين الثالث والرابع للهجرة (التاسع والعاشر للميلاد) وهذا هو الأساس في قيام أبحاث في تاريخ الفلسفة الإسلامية وتأثير أرسطو فيها. 3. وقدمت تحقيقي كتب أرسطو المنطقية في أصلها اليوناني أداة غير مباشرة لتحقيق هذا الأصل، إلى جانب ما لدينا من مخطوطات يونانية ترجع كلها إلى فترة متأخرة عن الأصل اليوناني الذي عنه ترجم المترجمون العرب هذه الكتب المنطقية 4. وفيما عدا كتابي "الخطابة" و "الشعر" ـ ولهذا أعدت ترجمتها ـ يمكن الانتفاع بهذه الترجمات العربية القديمة، والاستغناء بها عن إعادة ترجمتها))[13].
 بعد ذلك، واستفادة دائما من مخطوطات المكتبة، قام بدوي بتحقيق أجزاء من كتاب "الشفاء" لابن سينا وهو قسم البرهان، ثم "الحكمة الخالدة" لمسكوية، و"العهود اليونانية" لأفلاطون وكذا "سر الأسرار" لأرسطو.
الملاحظ أن أغلب الأسفار التي قام بها بدوي خارج مصر، حتى في لحظات إجازته السنوية، غالبا ما تتخللها مجموعة من الأنشطة العلمية والفكرية، في شكل ندوات أو مؤتمرات أو محاضرات، بل وحتى نقاشات فلسفية وفكرية. ويؤكد، بدوي بأن الفترة الممتدة من 1960 إلى 1966، هي أكثر اللحظات إنتاجا بالنسبة إليه. تفسير ذلك، الظروف السياسية التي خيمت على مصر في هذه الفترة، ذلك أن موقفه المعارض لسياسة النظام الناصري، دفعه إلى الانكباب على الفكر والإنتاج العلمي تأليفا وترجمة وتحقيقا للنصوص العربية القديمة، يمكن إجمالها في المؤلفات التالية :
1/ على مستوى التأليف :
المثالية الألمانية/ دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي/ مناهج البحث العلمي/ الفلاسفة والإسلام/ في الشعر الأوروبي المعاصر/ المنطق الصوري والرياضي/ دراسات في الفلسفة الوجودية/ مؤلفات الغزالي/ مؤلفات ابن خلدون.


2/ في ميدان الترجمة، نقل بدوي إلى اللغة العربية الأعمال التالية :
دون كيشوت (سرفانتس)/ الوجود والعدم (جان بول سارتر)/ النقد التاريخي (سينوبوس لانجلو)/ نقد النص (باول ماس)/ أفكار في التاريخ العالمي (إمانويل كانط).
إضافة لمجموعة مسرحيات لكل من : بريخت ولوركا وغوته....
3/ في نفس الفترة كذلك حقق بدوي الأعمال التالية :
فضائح الباطنية (الغزالي)/ الطبيعة (أرسطو)/ رسائل ابن سبعين/ تلخيص الخطابة (ابن رشد)/ في السماء والآثار العلوية (أرسطو)/ فن الشعر : من الشفا (ابن سينا).
إن الخلفية المعرفية التي حكمت هذه الأعمال، يتجسد بالأساس في مواجهة المد الإيديولوجي اليساري، الذي فرضته الناصرية ومن وراء ذلك الاتحاد السوفياتي، وهي المنظومة التي سعت إلى إلغاء التعدد الفكري والثقافي، لصالح منظومة شمولية إطلاقية.
سعى بدوي، إلى الدفاع عن قيم الحرية والفردية والليبرالية، ضدا على كل أشكال الفكر الواحدي. يقول في هذا الصدد: ((لقد استخدمت إذن "أسلوب الحكيم" كما يقال في كتب البلاغة العربية أو "الخطاب غير المباشر" كما يقال في كتب البلاغة الأوروبية، إذ لم يكن في وسعي أن أنشر في الصحف أو أصدر كتبا تتناول الرد على المد القرمزي (الشيوعي) في مصر بطريقة مباشرة، فإن الرقابة كانت بالمرصاد، والنفوذ الشيوعي في إدارة الدولة، خصوصا من سنة 1964 وما يليها كان كفيلا بالقضاء على كل صاحب قلم يجرؤ على الهجوم المباشر على الماركسية والاشتراكية "العلمية" وما تفرع عنها من اتجاهات))[14].
لقد لعبت صراعات بدوي السياسية، حافزا كبيرا في وضع لبنات مشروعه الفكري والعلمي. وكانت، له بالفعل مواقف وإسهامات سياسية، أزالت عنه صورة المفكر الوجودي المنعزل عن التجربة المجتمعية. ولعل، أهم ما يثير الانتباه في مساره السياسي، موقفه النقدي الصارم من ثورة 1952، نظرا لمجموعة من العوامل الموضوعية شكلت حسب بدوي معطيات سلبية في مسار حركة الضباط الأحرار. وقد بلغ هذا الموقف حيال الثورة حد وصفها ب "أكبر كارثة"، عانتها مصر في تاريخها الحديث منذ الفتح العثماني سنة 1517، هكذا فإن : ((المستأصلين والطفيليين والحاقدين ومن لفّ لفّهم من المنافقين والدجالين جاؤوا في سنة 1952 وما تلاها))[15]. شكل وجود عبد الناصر في الحكم، والذي لم يكن الإعلان عن رغبته في الاستقالة بعد هزيمة 1967 إلا مهزلة ومسرحية على حد تعبير بدوي، إساءة لعلاقة مصر مع جل الدول العربية :
ـ مع السعودية بسبب حرب اليمن.
ـ والأردن نظرا لتواطؤ عبد الناصر مع الفلسطينيين لإسقاط معا الملك.
ـ ثم العراق بسبب المنافسة على الزعامة الثورية.
ـ وتونس نظرا لموقف الرئيس بورقيبة من إسرائيل، حيث أدى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتونس سنة 1965.
ـ وكذلك المغرب بسبب تأييد مصر للجزائر في عهد بن بلا.
من هزيمة فلسطين سنة 1948 إلى فاجعة يونيو 1967، مرورا بشراء الأسلحة الفاسدة، وانتهاك حقوق الإنسان المصري، إضافة إلى القمع والمحسوبية ومصادرة الأموال والعقارات الزراعية، ثم حربين مدمرتين هما حملة السويس 1956 وحرب يونيو 1967.
 كل ذلك، يظهر زيف الشعارات السياسية التي جاءت بها الثورة، وتحولها إلى ممارسة ديماغوجية تهدف من ورائها السلطة السياسية الحاكمة تضليل الشعب. هكذا، فإن عبد الناصر يؤكد بدوي، لم تكن تهمه من تأميم قناة السويس مثلا أية منافع اقتصادية أو قومية، بل إنه كان يبحث عن عمل سياسي يعطيه الشهرة. وقد ظل منطق الذاتية والفردية هذا، يحكم جل قراراته السياسية.
 كما، أن سياسة الإصلاح الزراعي التي تبنتها الثورة، أكدت عن فشلها وإخفاقها في إعطاء نتائج، وأدت إلى عواقب وخيمة، فمن قاموا بهذه السياسة لم تكن تربطهم بالأرض أية روابط حميمية، حيث كانت القرارات تُفرض بطريقة فوقية، دون إحساس بالحالة الاجتماعية لصاحب الأرض.
إن اهتمام بدوي بالسياسة وانخراطه في قضايا بلده، منذ سن الخامسة عشر، متأثرا في البداية باتجاه حزب الأحرار الدستوريين ضدا على حزب الوفد مبرره في ذلك هو :
* غياب تجربة عملية مهمة للحكومات الوفدية : ((بل اقتصر عملها على التهريج السياسي وإغداق المناصب والمكاسب على الأنصار والأصهار والمحاسيب))[16].
* لقد ضم حزب الأحرار الدستوريين أكبر الشخصيات المصرية المثقفة كـ : أحمد لطفي السيد/ عبد العزيز فهمي/ طه حسين/ محمد حسين هيكل.
* إضافة إلى أن مؤسس حزب الوفد وهو سعد زغلول لم يكن تاريخه نظيفا.
شارك بدوي، في حركة الطلاب القوميين ضد حزب الوفد. ثم، مع ظهور تنظيم "مصر الفتاة"، تعاطف معه تعاطفا كبيرا، وبدأ في نشر مقالات بجريدة الحزب تتناول النظرية السياسية الفاشية والنازية ومبادئها وفلسفتها السياسية وكذا تنظيماتها الحزبية، وبالخصوص برنامج الحزب النازي. ومما ساعد في ذلك، معرفته الجيدة والعميقة باللغتين الألمانية والإيطالية. كما أن سفر بدوي إلى ألمانيا، وإقامته في "منشن"، مكّنه من أن يعرف عن قرب  وبعمق، أكثر الكتابات النظرية والإيديولوجية للحركة النازية من خلال "كفاحي" وكتاب "أسطورة القرن العشرين" تأليف ألفريد روزنبج، إضافة إلى النشرات الرئيسية للحزب النازي، ثم الكشف عن أكذوبة اضطهاد اليهود والأجانب غير الألمان، انطلاقا من المعاملة الجيدة التي لمسها بدوي، فيما يخص علاقة الشعب الألماني بغيرهم. يقول في هذا السياق ((إن الكثير من العلماء والفلاسفة المستشرقين اليهود بقوا في ألمانيا وظلوا ينشرون مؤلفاتهم، ويواصلون العمل في الجامعات حتى سنة 1939 لم ينلهم أي أدى، أذكر منهم مؤسس مذهب الظاهريات إدموند هوسرل (1859-1938) الذي بقي في "فرايبورج ـ إن ـ بريسجاد"، وكان أستاذا في جامعتها حتى وفاته في أبريل سنة 1938 (...) أما حملات النازية على اليهود فكانت جزءا من حملات النازية على من كانوا خصوم النازية في الفترة السابقة على توليها الحكم))[17].
لكن بدوي سينسحب نهائيا من حزب مصر الفتاة سنة 1942، نظرا لتسلم زعيم الحزب لأموال سرية من المخابرات البريطانية إضافة إلى أخطاء سياسية أخرى.
يمكن اختزال أهم مبررات إعجاب بدوي بالاتجاه النازي في المعطيات التالية:
1/ كانت الإيديولوجية النازية تدعو إلى التربية العسكرية للشباب من أجل تأهيله لخوض غمار القتال، وهي مسألة تبدو اختيارا حضاريا بالنسبة لكل مجموعة إنسانية تتوخى القوة.
2/ تشديد هذا المذهب السياسي، على ضرورة تحرير الألمان من معاهدة فرساي (1919) ، التي فُرضت عليهم. إعجاب بدوي بالألمان وبالروح الألمانية، ثم الثقافة الألمانية بآفاقها الفكرية والسياسية، جعله يتمنى لهم الانتصار في الحرب العالمية الثانية.
3/ في استعادة ألمانيا لقوتها إضعاف لإنجلترا، مما سيؤدي إلى تخلص مصر من الاستعمار الإنجليزي.
حين إتمام بدوي لدراسته الثانوية، وحصوله على الباكالوريا في يونيو 1934، فإن والده كما أشرنا إلى ذلك سابقا، تمنى ولوجه كلية الحقوق ليصبح وزيرا، لكنه فضل شعبة الفلسفة. فأدى ذلك، إلى غضب أبيه وصل درجة رفضه دفع المصروفات المدرسية. وقد، كانت اتصالاته الأولى بالفلسفة على المنوال التالي :
في مرحلة أولى، قرأ بدوي مقالات عن نيتشه وشوبنهاور في مجلتي "السياسية الأسبوعية" و"البلاغ الأسبوعي". ثم كتاب "قادة الفكر" الذي ألفه طه حسين.
في مرحلة ثانية، قرأ مختارات مترجمة لبسكال وكانط وليبنتس وكتاب مبادئ الفلسفة لصاحبه "رابو يورت" ثم علم المنطق ل "عبده خير الدين"، إضافة إلى مقاصد الفلاسفة للغزالي، والنجاة لابن سينا. بعد ذلك سينتقل بدوي إلى مستوى آخر، وهو القراءة باللغة الإنجليزية. هكذا، شكلت مؤلفات لوك وفرانسيس بيكون وتوماس هوبز مرجعية أساسية في هذا السياق.
حصل على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة بالجامعة المصرية سنة 1938 ،وعُيّن معيدا بهذا القسم باقتراح من الأستاذ "لالاند"، الذي كان رئيسا لقسم الفلسفة: ((وفي السنة الجامعية الأولى لتعييني معيدا قمت بعملين : أعيد على طلاب الليسانس ما كان يلقيه عليهم الأستاذ لالاند من محاضرات ثلاث في مناهج البحث العلمي مشروحا بالعربية حتى يفهموا ما قال، وبالفرنسية حتى يستطيعوا أداء الامتحان عند لالاند، والعمل الثاني : "تدريس مقال في المنهج" لديكارت لطلاب الليسانس (...) وفي الوقت نفسه كنت أحضر دروس الماجستير، وكانت أربعة دروس : درسان يلقيهما لالاند، يشرح فيهما "مقال في الميتافيزيقا" تأليف ليبنتس ودرسان يلقيهما أ. برلو الذي كان أستاذا بعلم النفس في جامعة  رن))[18].
ومما لاشك فيه أن مثقفا من حجم بدوي، لابد وأن يكون كثير الأسفار والتنقل والترحال، خصوصا إلى المصادر الثقافية الأساسية للعلم والمعرفة وكذا الفضاءات الزاخرة بتراثها الإنساني الفني. وبالفعل، تحدث في سيرته وبتفصيل دقيق عن رحلاته إلى مجموعة من الدول وبالخصوص الأوروبية منها كـ : ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندة وسويسرا واليونان. إضافة إلى بعض الدول العربية والإسلامية نذكر منها : الكويت وليبيا وإيران ثم لبنان. ثم دول أخرى مثل أمريكا والهند ... وهي بطبيعة الحال رحلات كانت وفق المستويات التالية :
1/الاستفادة من المرجعيات العلمية في أصولها المباشر.
2/ الوقوف على آخر المستجدات العلمية خاصة في ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانية والمنطقية وكذا مناهج البحث العلمي.
3/ التعرف على النظريات الفنية والجمالية.
4/ التمثل الحسي للإنجازات الجمالية الإنسانية من متاحف ومآثر ولوحات ورسوم، ولعل وقوف بدوي الطويل عند منجزات عصر النهضة، تظهر عشقه للعقل الجمالي.
5/ إلقاء محاضرات وكذا المشاركة في مجموعة من الندوات والمؤتمرات العلمية.
6/ انتدابه للتدريس في بعض الجامعات والمؤسسات العلمية...
بالتالي، سواء زار إيطاليا أو ألمانيا ومن خلال احتكاكه الفعلي بالحضارة الأوروبية، فإنه يوظف معرفته الدقيقة بتاريخ الفن من أجل الوصف الدقيق للمآثر والنظريات الفنية يقول مثلا وهو يبين ولعه بالموسيقى الألمانية، خاصة موسيقى ريتشرد فِجنر(( وقويت نزعتي الرومانتيكية التي فطرت عليها، وصار للشعراء الرومانتيك الألمان : نوفاليس، وهيلدرلن واشليجل وتيك وبزمتانو مكان الصدارة في تقدير الشعر بعامة، والألماني على وجه التخصيص (...) وبالموسيقى الألمانية انفتح أمامي عالم ساحر، صار هو ملاذي حين تسود الدنيا في عيني أو يستبد بي الضيق واليأس. إني أعد الموسيقى أعظم إنتاج انفردت به الروح الأوروبية))[19].
في حين، أن بلدا كإيطاليا بروائعه الفنية وآثار عصر النهضة، وكذا مجموع المآثر التاريخية ولوحات عباقرة الفن، مثّل بالنسبة لبدوي استفادة وافرة من العلم واللغة وكذا الثقافة والفن. لقد كانت هذه الزيارة، فرصة من أجل التعمق في دراسة الآثار والإكثار من التردد على متاحف روما، كما استفاد بدوي من مكتبة "كيتاني"، حيث تحتوي على كل ما طبع في أوربا من كتب عربية،  وكذا مختلف الدراسات والمؤلفات التي كتبها المستشرقون الأوروبيون، فكانت مرجعا رئيسيا في جل ما أنجزه من دراسات وأبحاث منذ 1969. وقد شكل كتابه "مذاهب الإسلاميين" ثمرة اشتغاله على مخطوطات هذه المكتبة.


في نفس السياق، كانت زيارته لطهران من أجل الاشتراك في مؤتمر "أبي الريحان البيروني"، فرصة للاطلاع على نفائس المخطوطات العربية، لذلك مدد إقامته بهذا البلد. بل، إنه درّس بكلية الإلهيات والعلوم الإسلامية التابعة لجامعة طهران، فألقى سلسلة من المحاضرات في تاريخ التصوف الإسلامي، وهي التي طبعها في كتابه "تاريخ التصوف الإسلامي". يختزل بدوي إقامته بإيران فيما يلي :
1 ـ الاطلاع على عدد كبير من المخطوطات في ميدان الفلسفة الإسلامية.
2 ـ تحقيق بعض الكتب مثل :
      ـ "صوان الحكمة"، أبي سليمان المنطقي السجستاني 1974.
      ـ "أفلاطون في الإسلام"، 1974.
      ـ "آداب الفلاسفة"، لحنين بن إسحاق 1985.
3 ـ تأليف كتاب "تاريخ التصوف الإسلامي".
4 ـ الجزء الثالث من كتاب : "مذاهب الإسلاميين"، وهو مُخصص لمذهب الشيعة الإثني عشرية ولمذهب الخوارج.
أما فرنسا، فقد مثلت بالنسبة ل بدوي مُتنفسا وملجأ، بعد الضغوط النفسية والفكرية التي عاناها في بلده جراء الأخطاء السياسية لثورة عبد الناصر. فبعد حصار، اقتصادي وثقافي وإعلامي أثر على الفضاء الجامعي، جاءت سنة 1967 دعوة بدوي من قبل كلية "الآداب ومعهد الدراسات الإسلامية في جامعة باريس" لإلقاء مجموعة محاضرات، ظهرت في كتابه "انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي". كما، ألقى محاضرة عامة في السوربون تحت عنوان : تأملات في الحضارة العربية" إضافة إلى استضافة "كوليج دو فرانس" له بناء على ترشيح الأستاذ جاك بيرك. وقد صادف وجوده بفرنسا اندلاع حرب 1967، فآخذ على بعض كبار المثقفين الفرنسيين مساندتهم إسرائيل، ضدا على العرب أمثال : ريمون آرون/ناتالي ساروت/ يوجين يونسكو/ و جان بول سارتر. وقد، انطوت سيرته على تفاصيل دقيقة وطويلة عن الحالة السياسية والاجتماعية وكذا الثقافية لفرنسا في ذلك التاريخ، تنمّ عن معرفة كبيرة لبدوي بدقائق الأمور نجمل أهمها :
ـ يعود السبب المباشر في انتفاضة الطلبة سنة 1968 ،إلى الاكتظاظ الطلابي داخل المؤسسات الجامعية.
ـ ضعف الأطروحات الجامعية ورسائل الدكتوراه، حيث تمظهر ذلك في غياب المتخصصين. بالتالي، اقتصر النقاش في غالب الأحيان على الملاحظات الشكلية.
ـ بعد ما كانت الوجودية الموضة الفكرية التي سادت فرنسا حينما غادرها بدوي سنة 1955، فإن المد الكبير للتيار البنيوي أضعف شيئا من امتدادات الوجودية.
ـ ساد ضعف فكري وخواء مفاهيمي بعض الحقول الجمالية مثل المسرح والشعر، نظرا لظهور ما يسمى باللامعقول. فقد ضعف المسرح بعد فترة ازدهاره من سنة 1954 إلى 1960 بفضل تأليفات : مونترلان /وسارتر/ وجان أنوي.
بهذا الخصوص حرص بدوي على مشاهدة كل جديد في المسرح، ما بين سنوات 1946 و 1955، كما أكد على ذلك. إلا، أن الضعف الذي أصاب المسرح الفرنسي سنة 1967 تأليفا وإخراجا وتمثيلا، دفعه إلى التراجع عن هذه العادة. وفي ميدان الشعر، فإن كتابات السورياليين كـ:  أندريه بريتون/ أراغون / بول إلوار/ سوين ...، الذين تأثروا بالحركة الدادية وبالتحليل النفسي الفرويدي، أفقدت الشعر حسه الجمالي الإنساني المتدفق.
واستجابة لدعوة حضور مؤتمر للفلسفة الإسلامية، توجه بدوي إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971 ،من أجل المشاركة في هذا المؤتمر الذي انعقد بجامعة هارفارد بمدينة كمبردج. فألقى، محاضرة بعنوان "نصوص فلسفية جديدة مفقودة في أصلها اليوناني وموجودة في ترجمة عربية"، وهي التي نشرها تحت عنوان "شروح على أرسطو مفقودة  في اليونانية". كما عرض بحثا، يتعلق بالترجمات العربية عن اليونانية، معلقا عليها ومقارنا بين دقة وأمانة الترجمات العربية عن اليونانية، ثم زيف الترجمات العبرية عن العربية، مستشهدا في هذا الإطار بالترجمات العبرية لمؤلفات ابن رشد والطريقة التي عبث بها المترجمون اليهود في القرنين 13 و 15.
وتبقى أسوأ ذكرى في رحلات بدوي، لحظة انتقاله إلى ليبيا كي يشتغل أستاذا للفلسفة في كلية الآداب بالجامعة الليبية، من سنة 1967 إلى 1969، حيث قام بتدريس المواد التالية : المنطق، الفلسفة الحديثة، مناهج البحث العلمي، التصوف، علم الكلام وفلسفة الإسلام. أصبح رئيسا لقسم الفلسفة، وكان له الفضل في جعل مكتبة الجامعة الليبية، تنتقل من خمسة آلاف كتاب في العلوم الإنسانية إلى حوالي ثلاثين ألف. كماعمل، على إحياء مجلة كلية الآداب، التي لم يصدر منها غير عدد واحد منذ ست سنوات، وقد تولى بدوي إصدارها من جديد بالتعاون مع عميد الكلية ورأى أن يسهم في تحريرها باحثون عرب وأوروبيون.
قلت بأن طموحه العلمي الكبير، لم يجد التربة الفكرية المناسبة من أجل الانبثاق والاشتغال بحرية. ذلك أن بدوي، تم اعتقاله بعد الحمى التي أطلقتها شعارات الثورة الثقافية التي أعلن عنها القذافي سنة 1973. لكنه أطلق سراحه، بعد أن علم الرئيس أنور السادات، بخبر الاعتقال وتدخله لدى السلطات الليبية.
إلى جانب ذلك، اشتغل بدوي مستشارا ثقافيا لبلده بسويسرا ورئيسا للبعثة العلمية. مهمة، حتمت عليه القيام بخطوات أهمها :
ـ إلقاء مجموعة من المحاضرات للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية، من بينها محاضرة عامة بالفرنسية في جامعة جنيف تحت عنوان "النزعة الإنسانية في الفكر العربي" ،ثم محاضرات في جامعة برن عن "العروبة ومقوماتها". إضافة، إلى محاضرة عن الشاعر "رنير ماريا ريلكه في مصر" بجامعة نيوشاتل.
ـ الإعداد للمؤتمر الدولي السنوي للتربية، الذي ينظمه المكتب الدولي للتربية في جنيف.
ـ مشاهدة المعارض الفنية وكتابة تقرير عنها.
أما إنتاجه العلمي في هذه الفترة، فقد تمثل في :
ـ ترجمته ل "دون كيشوت"، وقد طبع هذا العمل بالقاهرة في جزأين سنة 1964و 1966.
ـ ترجمة البحث الذي أنجزه يوليوس فلهوزن، تحت عنوان : "أحزاب المعارضة الدينية السياسية في صدر الإسلام : الخوارج والشيعة"، وقد أصدره في القاهرة سنة 1959.
ـ تحقيق "رسائل ابن سبعين"، ظهرت كذلك في القاهرة سنة 1965.
صادف وجود بدوي بسويسرا، أن استمع لثلاث محاضرات للفيلسوف الألماني الوجودي كارل يسبرز (1883-1969) ،وهي عبارة عن دروس يلقيها على الطلاب بجامعة بازل في الفصل الصيفي سنة 1956.
أما توجهه إلى لبنان، من أجل التدريس هناك لمدة عامين، تلبية لدعوة من المدرسة العليا للآداب في بيروت، فقد كانت فرصة أخرى بالنسبة إليه، للهروب من الأجواء الملوثة التي تسود الجامعة المصرية، وضعف المستوى العلمي وكذا تفشي سلوكات التملق والخصومة بين أعضاء هيئة التدريس. المحاضرة، التي ألقاها هي التي تضمنها كتابه "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي".
إن إلحاح بدوي على تعلم اللغات الأجنبية، والاستفادة من المصادر المتينة للمعرفة الإنسانية، ثم ترجمتها إلى اللغة العربية، إضافة إلى الاشتغال على الحقول الثلاث : الفلسفة الإسلامية والفكر الأوروبي ثم تاريخ الفلسفة، يخلق بشكل أو بآخر الآفاق الفكرية التي تمكن حقا من استلهام الأسئلة الأنطولوجية الكبرى. وتعطي للمثقف العربي القدرة المعرفية والمنهجية على قيادة مشروعه الفكري والمجتمعي. يقول بدوي محددا إستراتيجية للعمل : ((وأرى أنه لابد لكل باحث وأستاذ في الفلسفة في العالم العربي الإسلامي أن يعمل في هذه الجبهات الثلاث : التأليف الشخصي الأصيل ـ تاريخ الفلسفة في أوروبا ـ تاريخ الفلسفة  الإسلامية وتحقيق نصوصها. وكل هذه مهام لا تزال بعيدة عن تحقيق المطلوب فيها في العالم العربي لأن الأساتذة والعاملين في هذا الميدان ـ للأسف الشديد قليلو الإنتاج أو هم عاجزون عنه أو منصرفون عنه إلى أمور أخرى تافهة سياسية أو دنيوية أو معاشية. وإنني لأدهش حين أرى الكثيرين مما تجاوزوا سن الخمسين بل أشرف بعضهم أو تجاوز الثمانين ومع ذلك لم ينتجوا شيئا يستحق الذكر طوال هذا العمر الطويل. وبعضهم وقف عند الدكتوراه وبعضهم الآخر مضى عليهم أكثر من ثلاثين أو عشرين سنة دون أن ينتجوا كتابا واحدا ذا قيمة. ومع ذلك تراهم يثرثرون باستمرار ويتزاحمون حول الألقاب السخيفة أو الجوائز أو العضوية في المجامع العلمية أو شبه العلمية. مما لا يحققون معه شيئا بل بالعكس يحجبون منهم أقدر على الإنتاج أو توجيه الإنتاج))[20].
إن مسألة الرهان على اللغة الأجنية والثقافية الحديثة، يعتبره بدوي من ضروريات إصلاح المنظومة التعليمية. وخاصة اللغات الأجنبية الغنية بالمؤلفات الفلسفية يقول ((ولهذا صارت الخطوة الأولى الضرورية لإصلاح التعليم في مصر ـ والعالم العربي ـ هي العودة إلى تعليم لغة أجنبية حديثة ـ واسعة الانتشار غنية في المؤلفات ـ في المرحلة الابتدائية وتخصيص قدر وافر من الساعات لهذا التعليم. على أن يتم وفقا للطريقة القديمة : أي استظهار القواعد النحوية والتدريب على تطبيقها وحفظ بعض النصوص الشعرية والنثرية السهلة، وحفظ أكبر قدر من مفردات اللغة)).[21] ،فمن مظاهر فساد النظام التربوي، يضيف بدوي، الإخفاق والعجز عن خلق ذوات متعلمة قادرة على استلهام دور العصر والمفاهيم المؤسسة لها، ومفتاحنا لذلك هو اللغة. حتمية معرفة اللغات الأجنبية، خاصة تلك التي تتوفر على إنتاج علمي رفيع، يشكل مسارا ضروريا لكل مثقف يطمح إلى العالمية، من هنا قيمة الترجمة في تحقيق النهضة العلمية والفكرية التي نتوخاها.
قدم بدوي إذن مثالا حيا ونموذجا كبيرا في القدرة والرصانة والعمل الجدي المتواصل من أجل تحصيل المعرفة في أصولها ومنابعها. لذلك، لم يكن وجوده بمحض  الصدفة، كما حاول أن يوهمنا بذلك. بل إن عقلية من هذا الطراز، تحتم بالفعل أرضية للعمل.



[1] ـ .عبد الرحمان بدوي : سيرة حياتي، الجزء الأول والجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2000.
[2] ـ مجلة البديل، ملفات للبحث والسؤال، العدد3، 1983، ص 8.
[3] ـ السيرة، الجزء الأول، ص 150.
[4] ـ مجلة البديل، ص 6.
[5] ـ السيرة، الجزء الأول، ص 183.
[6] ـ مجلة البديل، ص 7-8.
[7] ـ السيرة، الجزء الأول، ص 6.
[8] ـ نفسه، ص 62.
[9] ـ نفسه، ص 63-64.
[10] ـ نفسه، ص 64-65.
[11] ـ نفسه، ص 179.
[12] ـ نفسه، ص 152.
[13] ـ نفسه، ص 206.
[14] ـ نفسه، ص 355.
[15] ـ نفسه، ص 16.
[16] ـ نفسه، ص 47.
[17] ـ نفسه، ص 86-87.
[18] ـ نفسه ، ص 117-118.
[19] ـ نفسه، ص 94.
[20] ـ مجلة البديل، ص 12.
[21] ـ السيرة، الجزء الأول، ص 27.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق