الاثنين، 8 أغسطس 2016

هنري جيمس: أمي *

ترجمة : سعيد بوخليط



أمريكي الولادة سنة 1843،ثم توفي انجليزيا سنة 1916،بعد طلبه الحصول على الجنسية البريطانية.ترعرع ضمن طقوس الحضارة الأوروبية،بحيث اقتسم مبكرا حياته بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. أمكنه التفرغ كليا للكتابة الأدبية، بفضل ثروة عائلته،وشرع يؤلف  منذ سنة 1864،قصصا ومقالات نقدية.استقر في باريس،فأصدر العديد من الروايات منها :الأمريكي، دايزي ميلر،أجنحة الحمامةقبل أن ينهي مساره كروائي سنة 1904،لكنه استمر في الكتابة.         
فندق ريغي،فودوا
جليون-سور-مونترو
28يونيو1869
أمي الغالية جدا،
كما ستلاحظين فندق جليون خلال الأسبوع المنصرم ثم جليون ثانية.لكن مهما يكن،فبفضل بقائي هنا،توصلت برسالتك الثمينة يوم 7 أو 8يونيو.غيرها ، لم يأتيني هذا المكان بأي شيء يستحق أهمية تذكر،قد يلزمني بالوقوف عنده أو مجرد البوح به .لا يمكنني مع ذلك الإمساك عن الكتابة، مع أني أجازف(أتشبث بارتيابي هذا)أن أصير مزعجا. ذات عصر يوم أحد،كنت أشعر بفتور،وبعد تناولي وجبة العشاء،صعدت إلى غرفتي.تمددت على الأريكة،ثم خلال نصف ساعة،اكتشفت أن آلاف الأفكار والذكريات المتعلقة بنا،تجتاح ذهني الواهن بنوع من العناد،بحيث لم أجد من مهرب سوى تناول القلم والسماح لعاطفتي بالتدفق.منذ آخر مرة راسلتُكِ ،تحسن الوضع كثيرا.أصبح الجو صحوا،وقضينا تقريبا أسبوعا ميزته أيام جميلة ولطيفة.فوجدتها فرصة كي أستفيد من ذلك،لتحقيق أقصى درجات سروري.كل ظهيرة،أذهب وحيدا في نزهة طويلة لمدة ثلاث أو أربع ساعات.المنتزهات هنا عديدة، إلى أبعد حد وذات جمال مميز.حتى لو كانت جميعها عمودية تقريبا،فإن ذلك لم يمنعني من إتمامها تقريبا.إذا أردتِ تقييم تطوراتي، منذ مغادرتي "مالفرين"(نيويورك)فمجرد التفكير وقتها في ارتقاء الروابي الصغيرة يشكل سخرة مزعجة.بينما،راهنا لم يعد  يمثل أي جبل مشكلة بالنسبة إلي بحيث أمارس التسلق على الأقل مرة واحدة، كمعدل، بعد الظهيرة.أحب لانهائيا،أن أكون قادرا على وصف مناظر هذه المنطقة الساحرة،لكن من أجل القيام بذلك أحتاج إلى ريشة جون روسكان أو جورج صاند.في مونترو، مع تقلص مياه البحيرة ،يمتد صدع عميق- واد صغير- بجانبه وفوق  هضبة ضيقة يتواجد الفندق.موقع هذا الوادي،يسمح للنظرة كي تتجه بتأملها نحو الأعلى والأدنى أو أفقيا.عند أسفل الوادي، يتدفق موج جارف لمجرى مائي ينحدر من الجبل بسرعة صوب البحيرة.حين الذهاب من الفندق،للبحث عن متنفس وسط الحقول،يتموج طريق متعرجا بين المروج،نحتها وجعل منها بساتين، ويقود نحو فضاء مثالي لا يقاوم، توسعت إليه الخطى عبر جسر خشبي مترهل.إنه يتوارى وسط الطبيعة :فوق رأسك،ركام من الاخضرار يخفي منحدرات الوادي.عند أقدامك،يندفع سيل مائي صاخب هادر حتى نهاية الوادي،من هناك يمكن العبور والصعود نحو الجهة الأخرى،ونتبع القمة غاية أمدها الأخير،حيث تنغلق ثانية أسوار الجبل فترسم بغتة موضعا مخيفا ومنتسبا كثيرا إلى "نمط جبال الألب''.من هنا،يمكننا ثانية عبور النهر والعودة مرة أخرى باجتياز الغابة إلى فندق جليون.هو مسار نزهة من بين أخرى.تعجبني جميعها،أتلذذ كليا بحرية الحركة،يتزايد الفضول،مع سعة وتنوع المنظر الطبيعي وكذا غزارته وعذوبته.بعد أن أسلك الجسر الذي أشرت إليه سابقا،أستدير نحو البحيرة متعقبا التلال التي تحيط بها،حيث بوسعي الوصول إلى بلدة ''فيفي''vevey(سويسرا)عبر منطقة من المروج ذات ظلال وبساتين منحدرة وهادئة للرعي مثل منتزه إنجليزي.مع ذلك،لم يقارب بعد هنا جوهر سويسرا التي أتهيأ للسفر إليها.أتطلع إلى الغوص في أصالة المنظر الطبيعي لجبال الألب وأتنفس هواءها.منذ أيام،ذهبت بالقطار إلى ''فيفي'' مثلما زرت مرة أخرى عائلة نورتون. أفكر،حين الذهاب من هنا،قضاء أسبوع في المنزل بالريف المجاور لعزلتهم. حيث يستأنسون بانقطاعهم التام عن مجريات العالم،منعزلين جدا، وأعتقد أنهم سيشكرون جدا رفقتي لهم، ويمكنني،بهذا الصنيع التعبير لهم عن امتناني بعد حسن وفادتهم إلي في لندن بطريقة مكلفة شيئا ما.
بعد انجلترا،وجدوا في هذه العزلة والوحدة سكينة رائعة جدا تناسبهم إلى أقصى حدا وتخلق سعادة منقطعة النظير مادامت هي عزلة مطلقة ونهائية. سأبقى بالتأكيد أسبوعا آخر في هذا الفندق.صحيح أن التكاليف مرتفعة قليلا قياسا لما بوسعي العثور عليه في مكان آخر، لكنه يوفر نوعا من ظروف الراحة تجعلني سعيدا بأن أنعم  بها طيلة هذه المرحلة التي أتعود خلالها على الحياة في البادية.بعد خمس عشرة يوما سأكون قادرا تماما على أن أعيش يوميات الشظف.وبفضل تواجدي بهذا المكان،تملّكتُ بحيرة لوسيرن،أنا بصدد البحث عن مأوى واحتمالا قد أمكث في المكان حتى الأول من شهر شتنبر. لقد أقلعت تقريبا عن فكرة الذهاب إلى سان موريتز ،بحيث خمدت همتي جراء الحكايات التي اسمعها عن البرودة الشديدة وقسوة الجو.أصبو إلى تنفس هواء المرتفعات النقي،لكن،هذا يكفي أريد أيضا أجواء الصيف.سأحدثك عن تفاصيل مختلف ذلك،في أوانه.لقد وثقت بدقة أوامرك كي أقضي صيفا هادئا وبتكاليف أقل.أتوخى التوفيق بين الجانبين : أي سأعتمد في تنقلي،على  قدمي غير المكلفتين كثيرا.ستصلك، في الوقت الحالي رسالة،مكتوبة إلى جنيف منذ شهر تقريبا حول موضوع هذه الأسفار وكذا النفقات،التي تتضمن مشاريع شيئا ما متناقضة مع فكر –أو بالأحرى خطاب-النصيحة المشار إليها أعلاه.أجهل الطريقة التي أجبتِ بها،تماما مثلما طبعا فكرتِ في القيام بذلك.حينما تتكلمين عن ارتفاع نفقاتك الخاصة،إلخ.أشعر بشكل مخيف أني مذنب وأناني بصدد تكريس أهداف قد تبدو لك قليلا مخالفة لجادة الصواب.طيب،أمي العزيزة،لو فقط تقدرين صفاء دوافعي !لقد أقنعني التأمل،كما سيقنعك،أن وسيلتي الوحيدة التي ستجعلني مدبرا للنفقات هو أن أتعافى إلى درجة القدرة على الاشتغال.أنا مستعد لكل شيء وصولا  إلى هذا الهدف،بل وأتخذ مظهر مجرد طالب لذة.حتى إذا كنتُ دائما عند نفس النقطة لمدة شهرين،فإن قضاء فصل شتاء في إيطاليا سيمكنني من تنظيم وقتي كما أرغب،ويضعني على سبيل العلاج مقارنة مع أي شيء ثان،أكثر من موسم شتاء في باريس –وبكل بداهة،أطول مدة ممكنة تفوق مستوى إمكانيتي-أو ألمانيا.بيد أن هذه الإقامة في إيطاليا تعجل باللحظة التي أكون قادرا على قضاء فصل شتاء في ألمانيا أو أشهر،دون خسارة ثم باستفادة حقيقية.لو استطعت أن أفهم، قبل مغادرة المنزل،كما الأمر حاليا أنه حتى أصبح مفيدا،يجب أن تستهدف زيارتي إلى هنا تغيرا حقيقيا- تبلور وعي حقيقي- لتمكننا من مناقشة الموضوع أفضل بكثير من فقرات هذه الرسالة.في الواقع،عندما تعود بي الذاكرة إلى ثلاث أو أربع أشهر،قبل إبحاري،حينما اضطررت إلى التخلي كليا عن القراءة والكتابة (قد يخبرك ويلي بهذا) ،أتبين بأنه كان حقا توهما مجنونا لأحلامي لما تصورت استعادتها بمجرد تغيير بسيط للمكان،أيضا كان عبثيا الاعتقاد بإمكانية استعادة حياتي السابقة في باريس بأقل التعثرات مقارنة مع كامبردج.وبقدر ما وفرتُ وقتا فقد بذرته ،لذلك ستفهمين، رغبتي الطبيعية لاستثمار ما تبقى منه.إذا فكرتِ  في  الأمر، فقضاء فصل شتاء في إيطاليا،لن يكون ''استجماما''كما وصفتيه لكنه فرصة في ذات الوقت كي أحيا ثانية،ثم أتابع تكويني الثقافي – قيمة الثقافة هي السمة الوحيدة التي لازلت أمتلك لها بعد وقتا وقد قاربت سن السادسة والعشرين- أيضا أجد الشجاعة كي أواصل مشروعي،حتى مع تلميحاتك بضرورة أن أحسن تدبير الإنفاق أينما ارتحلت.هذا،يستلزم يقينا عميقا جدا كي أترافع أمام دلائل،مهمة ومؤثرة،عن السبب لما سيبدو كعَطالة مبتذلة.لكني،تسليتٌ منذ مدة طويلة مع مشكلتي والتي أشعرتني بإمكانية أن أصير بذيئا شيئا ما.أمي الحنونة،إذا عدت إليك سليما،في حالة جيدة،فستدركين أنك لم تبعثري درر محبتك على شخص فظ وغير متبصر بل أنا مبدع يتمتع بقوة الإرادة  وكذا روح قادرة على الاعتراف بالجميل.هناك مسألتان،أجد حرجا في ،ضرورة إضافتهما :أولا،حتما،مقتضيات حالتك من سيملي عليك الجواب،وأنك تستبعدين كل رغبة لإرضائي،مثلما لاينتابك أي شعور بالفزع بعدم إرضائي.ثانيا، سواء في باريس أو إيطاليا،سأكون أيضا مدخرا قدر الإمكان.عموما،لازال شهران،بالتالي اعتراضات كثيرة من طرفك،يجب أن تظهر لك سابقة لأوانها.ربما اكتشفتُ ذاتي صلبا كفاية كي أجابه''الركود''الباريسي منذ أول شتنبر.  
الأربعاء 30
لم أكمل رسالتي ولن أضيف إليها سوى كلمات قبل أن أغلقها.لقد عشت مغامرة، ينبغي أن أرويها لك.يوم الاثنين مساء(قبل البارحة)قررت بصحبة ثلاثة أشخاص تعرفت عليهم في المنطقة(إنجليزيان وألماني)تسلق جبل قريب جدا من هنا،يسمى صخرة الثلج(بهذا الخصوص،وفيما يتعلق بمختلف مواقع هذا الفضاء،اطلبي من ''ويلي''أن يقدم لك قصيدتي الشاعر ماثيو أرنولد عن أوبرمان obermann )انطلقنا كما اتفقنا عند منتصف الليل،كي نتمكن من مشاهدة شروق الشمس.وصلنا إلى عين المكان، بعد أربع ساعات من المشي بدون توقف،وجرى القسم الأخير من المسافة تحت ضوء القمر. لكن شروق الشمس سيخيب أملنا بسبب  كثرة  السحب :على أية حال،انبجست العاصفة،مع تلك الفجاءة الجليلة المعتادة.كان الطقس باردا جدا في الأعالي،مع أننا اعتمدنا على مرشد مختص في المعاطف،إلخ. نزلنا سريعا جدا ثم عدنا إلى الفندق في حدود الساعة السابعة أي الوقت المناسب للاستحمام وتناول الفطور.كنت طبعا متعبا،لكن ليس كثيرا ثم ها أنا ثانية اليوم على ما يرام.مع ذلك،فكرة هذه الرحلة الاستكشافية كانت مضحكة،وإلا لما سمحت لنفسي قط كي أستسلم لذاك النوع من الأعمال الليلية المبهرة :لا أجد فائدة.إن جبل صخرة الثلج أكثر ارتفاعا من جبل واشنطن.فماذا كنتِ ستقولين إبان الصيف الأخير،حين رؤيتي وأنا ذاهب منتصف الليل بهدف تسلق ذلك الجبل؟أما عن حالتي الصحية،فأحس بكامل الاستعداد كي أنطلق غدا، بصحبة ممتعة، من أجل نفس المغامرة.وصلتني للتو بامتنان مجلة أطلانطا لشهر يوليوز.لم تستهويني قصتي،التي كتبتها الشهر المنصرم،لكني أتصور الجزء الثاني أفضل.تلقيت مؤخرا أخبارا عن ''جون لافارج''وأعلمني عن احتمال قدومه إلى سويسرا هذا الصيف.أتمنى جدا أن يستمر وفيا لفكرته لكني أشك.أما ''ميني تومبل''فقد راسلتني بخصوص إمكانية ذهابها إلى روما خلال فصل الشتاء المقبل.أيضا بهذا الخصوص لا أملك سوى أملا ضعيفا.تواترت لدي أخبار كثيرة عن خالتي''كاتي''،والتي هي بكل بداهة،تتسلى بما يكفي. ستكونين على أهبة مغادرة ''بوانفري''،اكتبي إلي عن الموضوع.في انتظار أن أمدك بعنوان قار،ابعثي رسائلك حاليا على عناوين ''نورتون'' ''لاباكوت'' ثم ''فيفيي''.وداعا،أمي الغالية جدا،أخبري ''ويلي'' أني سأجيب بسرعة على رسالته الأخيرة.كل أمنياتي إلى ''بير''و''أليس''.لا تترددي في الإلحاح على ''ويلي''كي يكتب إلي. 
ابنك المخلص هنري جيمس.          
      
واشنطن
الأحد صباحا
29يناير 1882
أمي المحبوبة جدا(**)
ينبغي حتما مراسلتك وأقبّلك رغم خشيتي  من أن  لا أحظى بنفس القبلة قبل مرور وقت معين.منذ يومين أحاطني ''بوب'' علما بمرضك،وقد توسلت إليه على الفور كي يمدني بأخبارك على نحو مفصل.لم توزع الرسائل اليوم،بالتالي يزداد انتظاري،كما أني لست متيقنا أن يصلني تقرير صحي من كامبردج،كما يفترض.أتمنى جدا أن تتحسن صحتك،أمي حبيبتي،وتنتهي معاناتك مثلما هو جدير بك. يستحيل تقريبا أن أتخيلك في حالة كتلك وأنا من شاهدك دائما منكبة على الاهتمام بالأسِرّة التي يرقد عليها مرضى آخرون.ألا تنهضي حاليا كي تعاودي ممارسة أنشطتك الأثيرة لديك،وتتنفسين بحرية أكثر من أي وقت مضى.بلا شك، يعتبر الربو،أكثر الأمراض قسوة، متمنيا بأن إخلاص العائلة قد وفر لك كل المواساة الممكنة.لكن إذا اتخذت الأمور منحى سيئا،فأخبريني وسأكون بجانبك ساهرا على الاعتناء بك ليلا ونهارا.سيخيب أملي،في حالة عدم توصلي بأي جديد منك غدا،وسأكون سعيدا جدا،إذا بادرت  خالتي إلى مراسلتي ولو بكلمات قليلة(ربما أخطأ استنتاجي بخصوص إحساس ''بير''و''أليس''بالتعب قليلا نتيجة اعتنائهما بك).واشنطن رائعة على الدوام،بالرغم من الوقت القليل الذي قضيته فيها ولم أنجز حقيقة أي لقاء يستحق الذكر.أفكر أن أبقى هنا لمدة أسبوعين.الحدث الذي يشغل الرأي العام،يتمثل في موقف ''جيمس بلين'' Blaineبخصوص أمريكا الجنوبية،الشيء الذي خلق لدى أبناء الرئيس جون آدامز – إنهم متسيسون جدا : لاسيما السيدة آدامز–حالة إثارة كبيرة.أخشى أنكِ عانيت بشدة بسبب البرد وأتمنى أن الأسوأ قد مضى.أريد حقا أن أعرف شيئا عن إقامة ''ويليام'' في شيكاغو،لكن بما أني لا أنتظر منه قط أن يسرد لي حيثيات ذلك،فلا أعرف من أقصد بهذا الخصوص.إلا إذا أمكن ل ''بير'' أو ''أليس''مخاطبتي بكلمة أو إذا تمكن ''بوب'' من أن يكتب إلي مرة أخرى.  
عطفك الحنون دائما.
             هنري جيمس
المصدر :
Ma chère Maman : De Baudelaire a Saint-Exupéry ;des lettres d écrivains . Gallimard ;2002.
*توفيت والدة هنري جيمس في ذات اليوم الذي كتب لها هذه الرسالة.   
موقع الأستاذ سعيد بوخليط : http://saidboukhlet.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق