الخميس، 4 فبراير 2016

البحر : مارسيل بروست / ترجمة : جمال شحيّد


سيَسحر البحر دائماً أولئك الذين سبقَ تقززُهم من الحياة وانجذابُهم بالأسرار الأحزان الأولي لديهم، كمثلِ استشعار بقصور الواقع عن إرضائهم. هؤلاء الذين يحتاجون إلي الراحة قبل أن يشعروا بأيّ تعب، سيعزيهم البحر ويجعلهم إلي حدّ ما يغتَبطون. فهو لا يحمل، كالأرض، آثار أعمال البشر والحياة البشرية. لاشيء فيه يبرح، ولاشيء فيه يمرّ إلّا هارباً، وسرعان ما تتلاشي آثار الزوراق التي تمخُره، ونري من هنا النقاء الكبير للبحر الذي تفتقر إليه العناصرُ الأرضية. وهذه المياه البكر هي أرق من اليابسة القاسية التي لابد من فأس كي نشقها. خطو طفل في الماء يحفر فيه أخدوداً عميقاً يُحدث صوتاً واضحاً، وتتكسّر الظلال الموحّدة فيه ولو للحظة، ثمّ يتلاشي كلّ أثر، ويعود البحر إلي هدوئه كما في الأيام الأولي للخليقة. فالذي يملّ من دروب الأرض والذي يخمن كم هي وعرة ومبتذلة، قبل أن يسلكها، ستغويه الطرق الباهتة للبحر، الطرق الأخطر والأعذب، الطرق المحيّرة والمقفرة. كلّ شيء في البحر غامض، بما فيه تلك الظلال الكبيرة التي تطفو أحياناً بهدوء علي سهوب البحر العارية التي لا منازل فيها ولا أشجار، والتي تنتشر فوقها السحب، تلك الدساكر السماوية، وتلك الفروع المبهمة.


                            اللوحة للفنان ايفان ايفازوفسكي aivazovsky

للبحر سحر الأشياء التي لا تسكت آناء اللّيل، والتي تمكّن حياتنا القلقة من النوم وتَعِد بأن كلّ شيء لن يتقوض، كتلك النوّاسة التي توضع في غرف الأولاد الصغار الذين يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم عندما تضاء. لا ينفصل البحر عن السماء كالأرض، وينسجم دائماً مع ألوانه ويندهش من تدرجاتها الناعمة. يُشرق البحر تحت الشمس ويبدو في كلّ مساء وكأنه يموت معها. وعندما تغيب، يتحسّر عليها طويلاً ويحتفظ بشيء من ذكراها الساطعة، أمام الأرض التي أرخت العتمةُ سدولها عليها. ويحين وقت الانعكاسات الاكتئابية والشديدة الرقة بحيث يشعر المرء بأن قلبه ينفطر عندما ينظر إليها. وقُبيل حلول اللّيل، وعندما تدكن السماء فوق الأرض المسودة، يلتمع البحر قليلاً، دون أن نعلم السّر في ذلك، يلتمع بذخيرة النهار المشرقة المدفونة تحت العباب.
البحر ينعش خيالنا لأنه لا يجعلنا نفكر في حياة البشر، بل يُبهج روحنا، لأنه، علي غرارها، توق لا محدود وقاصر وزخم تهشّمه السقطات، وشكوي دائمة ورقيقة. إنه يسحرنا كالموسيقي، التي لا تحمل أثر الأشياء كاللغة، ولا تقول لنا شيئاً عن البشر، ولكنها تقلّد تموجات روحنا. عندما يتوثّب قلبنا مع أمواج الموسيقي ويتهاوي معها ينسي بالتالي قواه الخائرة، ويتعزي بانسجام حميم يراوح بين حزنه وبين حزن البحر، ويمزج بين قدَره وقدَر الأشياء.
....................
(*) المسرات والأيام، قصص واشعار، مارسيل بروست، ترجمة جمال شحيّد ، مشروع كلمة، هيئة أبو ظبي ،ط1، 2014.
(*) اللوحة للفنان ايفان ايفازوفسكي aivazovsky .