الأحد، 10 أغسطس 2014

المنهج الموضوعاتيّ (في البحث عن النغم التائه)

د. جوزف لبُّس*


«إنّ أيسرَ رغباتنا شأناً، وعلى الرغم من تفرّدها لحناً، تتضمّن النغمات الأساسيّة التي تقوم عليها حياتنا»[1]. مارسيل بروست


مفهوم الموضوع والنقد الموضوعاتيّ


     سُمّي هذا المنهج موضوعاتيّاً نسبةً إلى موضوع تيمة (Thème)
[2].والموضوع في لسان العرب اسم مفعول: ما أُضمِرَ ولم يُتكلَّمْ به[3]، وفي محيط المحيط هو «الشيء الذي عُيِّن للدلالة على المعنى، والشيء الـمُشار إليه إشارة حسّيّة»[4]، وفي المعجم الوسيط «المادّة التي يبني عليها المتكلّم أو الكاتب كلامه»[5]. أمّا في النقد الأدبيّ فالموضوع (أو الموضوعاتيّة La Thématique) خِيار وجوديّ متشعّب الأشكال متعدّد التعابير كثير التنويعات والتحوّلات، أي إنّه مجموع الوجوه البلاغيّة والصور البيانيّة والمشاهد الوصفيّة والمواقف السيكولوجيّة والأشياء التي يستعملها الكاتب لبناء عالمه الداخليّ، وتشكيل أناه الخالقة (المبدعة)، وهو يتحدّد وَفْق تكراره وثباته عبر متغيّرات النصّ[6]. وفي تعريفٍ آخر: الموضوع هو الأثر الذي تخلّفه إحدى ذكريات الطفولة في ذاكرة الكاتب أو الفنّان وتلتقي فيه كلّ آفاق العمل الأدبيّ أو الفنيّ[7]؛ «ليست الطفولة خزّان الماء الذي يَروي حقول الراشد حيث تنضَج سعادتنا فحسب، ولكنّها قد تكون بدورها عملاً فنيّاً، ينبغي علينا الكشفُ عن مخطَّطه ومآربه ومؤلِّفه»[8]. وفي تعريف ثالث: هو وَحدة من وَحَدات المعنى، وَحدة حسيّة علائقيّة مشهود لها بخصوصيّتها عند كاتبٍ ما، تنمو نموّاً شبكيّاً إشعاعيّاً أو خطوطيّاً أو جدليّاً أو منطقيّاً، باسطةً العالَم الخاصّ بالكاتب[9]. وفي تعريف رابع: «هو التردّد المستمرّ لفكرة ما، أو صورة ما، فيما يشبه لازمة أساسيّة وجوهريّة، تتّخذ شكل مبدأ تنظيميّ ومحسوس أو ديناميكيّة داخليّة، أو شيء ثابت، يسمح للعالَم المصغّر بالتشكُّل والامتداد»[10]. ويعترف جان بيار ريشار بأنّه «لا شيء أكثر ضبابيّةً وهروبيّةً من الموضوع»[11].

     كثيراً ما يحيا الموضوع في جميع أعمال الكاتب الواحد[12]، ويتكرّر ببنى فنيّة متنوّعة ومواضيع مختلفة، ويتّخذ دور الخليّة أو النواة التي تنقسم على ذاتها صانعةً أقساماً جديدة وتفاصيل ترتبط في ما بينها بعَلاقات قويّة وعميقة كأنّها رباط الدم بين الأشقّاء، وكالأصداء أو الدوائر التي تنداح من المصدر الأوّل، و«كالتجويق الموسيقيّ الأوركستراليّ حيث الميلوديا الرئيسيّة هي حصيلة نقرات منفردة ومتعدّدة، تتآلف وتتواكب لتعطيَ إيقاعاً أوركستراليّاً واحداً»[13]. هذه القُربى لا تبدو على سطح العمل، بل تعمل في أعماق النصّ / النصوص. وكأنّما الأدباء لا يكتبون في نهاية المطاف سوى عملٍ أدبيٍّ واحد، ولا يحدوهم إلّا وسواسٌ أو هاجسٌ واحد. إنّ «المبدع مهما تناثر من نايه من ألحان، فإنّ هذه الألحان تخرج من فُوْهةٍ واحدة»[14].

     إنّ النقد أو التحليل الموضوعاتيّ هو المسار (أو القراءة) الذي يأخذه البحث لاكتشاف الموضوعاتيّة (أو الموضوع الأصليّ)، وكذلك الكشف عن التجلّيات التي تتّخذها هذه الموضوعاتيّة في جميع تفرّعاتها في العمل الأدبيّ. وقد وصل النقد الموضوعاتيّ إلى أوْجِه في ستينيّات القرن العشرين، في مرحلةٍ كانت تسيطر فيها مجموعةٌ من المناهج النقديّة كالنقد السيكولوجيّ مع شارل مورون، والنقد السوسيولوجيّ مع لوسيان غولدمان.

روافد الموضوعاتيّة وروّادها

     الموضوعاتيّة مَدينة لروافدَ كثيرة، لعلّ أهمَّها: الرومنسيّة، والظاهراتيّة، والوجوديّة، والنفسيّة، والأسلوبيّة.

رأى الرومنسيّون في العمل الشعريّ تعبيراً عن أنا الشاعر، وفي الخيال عَصَب الكيان الشعريّ، وعنهم أخذ الموضوعاتيّون. وأخذوا عن هوسّرل أنّ الوعي إنّما هو وعي الذات بموضوعها لا وعي الذات بذاتها (كما كان يقول كلّ من سقراط وديكارت)، أي إنّ وعي الإنسان بنفسه يمرّ أوّلاً من خلال وعيه بالعالم مع التخلّص من الأحكام السابقة. 

وبالتالي، فإنّ مُهمّة النقد الموضوعاتيّ تتمثّل في القيام بتحليل النصّ الأدبيّ باعتياره وعياً فنيّاً يمثّل وعي المبدع. وأخذوا عن الوجوديّة (سارتر) الخِيار الأصليّ الذي اصطنعه الكاتب لنفسه، ولحياته، وللوجود؛ فإذا كان الوعي يحدّد الحريّة، فإنّ الحريّة تحدّد المسؤوليّة، ويحدّد سارتر مُهمّة الناقد في قراءة العمل الإبداعيّ بأنّها محاولة جلاء المغامرة الخاصّة بالإنسان الذي دفعه قلقه إلى أن يكون كاتباً. نفسيّاً، يدفع الفنّ بالرغبة المكبوتة، من طريق الإيهام، إلى التعبير عن ذاتها بالصور، كأنّما الصورة تستر العَورة. وفي حين يجهد التحليل النفسيّ للكشف عن اللاوعي والصراعات والعُقد، يسعى الموضوعاتيّون الأدبيّون إلى الكشف عن التوازن الذي تنحلّ فيه المتناقضات كلُّها[15]. والموضوعاتيّون، كالوجوديّين، يرفضون مقولة اللاوعي. أمّا الأسلوبيّة فقد دفعت النقد الموضوعاتيّ إلى معالجة لغويّة جماليّة متعدّدة، لأنّ أطياف الشعور أو اللاشعور تتبلور لغويّاً بوساطة تراكيبَ وتعابيرَ وتقنيّاتٍ معيّنة، فيغدو النسيجُ الجماليّ مفتاحَ النسيجِ الفكريّ الموغل في الباطنيّة أو المتناثر رموزاً على سطح الكتابة.

     ويُعَدّ مارسيل بروست مؤسّس الموضوعاتيّة؛ ففي كتابه بحثاً عن الزمن الضائع (السجينة)، يشرح كيف أنّ كبار الأدباء والفنّانين (دوستويفسكي، فيرمير، رامبرانت) لم يصنعوا سوى عملٍ واحد، وعكسوا عبر أوساط مختلفة جمالاً واحداً حملوه للعالم[16].

     أمّا أبرز نقّادها ففرنسيّون أو كتبوا بالفرنسيّة: غاستون باشلار (1884-1962)[17]، جورج بوله (1902-1991)[18]، جان روسّه (1910-2002)[19]، جان ستاروبنسكي (1920)[20]، جان بيار ريشار (1922)[21]، جان بول فيبير(؟)[22]...

الأسس الفلسفيّة والنقد الموضوعاتيّ

     الوعي النقديّ الموضوعاتيّ وعيٌ بالذات (سارتر) ووعيٌ بالعالم (هوسّرل)، ووعيٌ بالعَلاقة بين الذات والعالم (باشلار). ومثلّث الوعي هذا هو الذي يجعل الوعي النقديّ الموضوعاتيّ وعياً وثيقَ الصلة بالوعي الفلسفيّ.

     إنّ موضوع الموضوعاتيّة الأدبيّة هو الأنا المبدعة (الحالمة والواعية ذاتَها) وليس أنا الكاتب. ولذلك، يجتنب الموضوعاتيّون الأدبيّون استخدام اسم المؤلِّف، أو الأنا التاريخيّ، عند كشفهم عن تشكّل الأنا الإبداعيّة، ويستخدمون كلماتٍ مثل: أنا، ذات، كائن؛ لكونهم يتناولون أنا المؤلِّف في متغيّراتها، خصوصاً في الحركة الجوهريّة التي يتحقّق فيها التحام الأنا بالعمل الأدبيّ؛ فالكاتب لا يقول ذاته فحسب، بل هو يبتدعها باستخدام الكلمات. وقد نصح بروست[23] بإقصاء السيرة الذاتيّة التي كان يرى فيها سانت بوف أصلَ العمل الأدبيّ؛ فالسيرة الذاتيّة التي يعتبرها سانت بوف هي الأصل، يقابلها عند بروست رسمَ حياة عالم الأديب، أي كتابة حياته الروحيّة. إنّ السِّمات الثلاث: عالم المؤلِّف الخياليّ، والبحث عن الأصل أو نقطة انطلاق العمل الأدبيّ، والتطابق الحميميّ التي قال بها بروست، قد تبنّاها الموضوعاتيّون الأدبيّون كلُّهم. وهكذا، ركّز غاستون باشلار على الصورة الفنيّة، مقياس الخيال الأدبيّ، وجان بيارريشار على العالم الخياليّ عند المؤلِّف وكأنّه عينُ الحقيقة والواقع، فيما كان تركيز جان روسّه على كونٍ ذهنيّ. والبحث عن أصل العمل الأدبيّ، وتالياً عن نقطة انطلاقه، كان هَوَساً لازم جورج بوله، يعدله الاهتمام نفسُه عند ستاروبنسكي الذي مال إلى البحث عن الأصل في السيرة، وربط مصير الأديب إنساناً بإبداعه الأدبيّ، فتشابك عنده الوجود والفكر والنشاط الأدبيّ. أمّا رغبة التطابق الحميميّ بين الوعيَيْن: وعي المؤلّف ووعي القارئ فهي متكافئة، ومدار اهتمام الجميع[24].

     الأنا المبدعة والعَلاقة مع العالم: يرفض النقد الموضوعاتيّ مبدأ أن يكون الكاتب سيّد عمله، كما يرفض أن يكون الأثر الأدبيّ تعبيراً لاواعياً عن صاحبه، منطلقاً من الأنا الخالقة متحوّلةً ومتشكّلةً بالنصّ وفيه، فيهتمّ بعَلاقات هذه الأنا النصيّة وما يحيط بها من ظواهر المكان والزمان ومُدرَكات الحواسّ، محاولاً الكشف عن قُربى سرّية بين عناصر تبدو متباعدة ومتناثرة في نتاج الأديب كلِّه، مبيّناً كيف يخلق العمل الأدبيّ سعادةً وتوازناً نفسيّاً عند صاحبه وحلًّا لمشكلاته ومتناقضاته. يقول جان ستاروبنسكي: «الفنّ محاولةٌ لإصلاح عَلاقةٍ تاعسة بالأشياء والأشخاص، وثأرٌ مُرجأ»[25]. ويقول جان بيار ريشار: «الكتابة نشاطٌ فعّال وخلّاق يسمح لبعض الأدباء بالعثور على ذواتهم. وإنّ العمل الأدبيّ العظيم ليس إلّا اكتشافاً لأفق حقيقيّ يُطلّ على الذات والحياة والناس»[26]. وهذا يعني أنّ النقد الموضوعاتيّ يقول بأنّ الأدب مغامرة أو تجربة روحيّة، ولا يقبل أن يكون النصّ الأدبيّ موضوعاً خاضعاً لدراسةٍ علميّةٍ صارمة تغربل الآثار الأدبيّة وَفْق تصنيفاتٍ جاهزة، بدل أن تسلّط الضوء على خصوصيّة كلّ أثر وديناميّته / حركيّته الداخليّة.

     العمل الأدبيّ وَحدة كليّة: ليست مُهمّة الناقد الموضوعاتيّ إطلاق أحكام أو التنقيب في ظُلُمات اللاوعي بقدر ما هي البحث في مجموع أعمال المؤلِّف عن عناصر النظام الفكريّ والشعوريّ والخياليّ الذي يدور في فلكه، ولذلك تمتاز طريقة هذا المنهج بأنّها تبرأ من تهمة «أنّ معظم النقّاد يُعْوِزُهم الاطّلاع الشامل والدقيق على كلّ نتاج المؤلِّف»[27]، وأنّها تعرض وتوضح أكثر ممّا تفسّر وتحكم، فيتقدّم الوصفُ فيها التحليلَ[28]، متأثّرةً بفلسفة الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسّرل (1859- 1938) «الظواهرية» La Phénoménologie  التي تعتمد على مراقبة الظواهر ووصفها كما هي عليه في الزمان والمكان (الزمكان)، وصولاً إلى الجوهر[29]. بَيْدَ أنّ الناقد الموضوعاتيّ لا يَنفي المستجدّات الطارئة في حياة الكاتب ولا يهمّشها، وإنّما يستعين بها لكي يتلمّس طريقه إلى عالم الكاتب، مثلما استعان الناقد الموضوعاتيّ جان بيار ريشار بالتحليل النفسيّ ليبيّن أنّ الموضوع نوعٌ من أحلام اليقظة الدالّة على رغبة غير واعية مكبوتة ضاربة في عهود الطفولة الأولى[30]، مقتفياً أثر باشلار الذي يشبّه الحلم بنجمة، قرصها ذكرى قديمة أثيرة وأشعّتها اتّجاهاتٌ نفسيّة عنيفة[31]. ويُشبههما في ذلك فيبير الباحث عن ذكرى / حدث في عالم الطفولة[32]. بيد أنّ الحدث الطفوليّ أو الذكرى ليست عُقدة ولا ينبغي تصنيفها في زُمرة العُقد التي يتحدّث عنها التحليل النفسيّ الفرويديّ. والكاتب ليس مريضاً تجسّد أعمالُه عُقدتَه النفسيّة. والقراءة الموضوعاتيّة، على عكس القراءة التفكيكيّة، تبحث عن التجانس والتوافق والتشاكل، وترفض القول بالفجوات والتباينات والمآزق المنطقيّة التي تعمل التفكيكيّة على الكشف عنها في المنتَج الأدبيّ. ولذلك تسعى الموضوعاتيّة إلى الكشف عن تماسك الأعمال الأدبيّة وإظهار الصِّلات السريّة بين عناصرها المبعثرة. قال جان بيار ريشار: «أين يوجد الكاتب حقّاً، وفي أوفر حقيقته، إذا لم يوجد في مجموع كتبه»[33]؟

     وجهة نظر القارئ: ثمّة مشاركة روحيّة في العمل الفنيّ ومغامرة تخصّ القارئ كما الكاتب؛ الكاتب يكتب ليكون، ليشكّل نفسه، ليغيّر حياته، ليبنيَ عالماً يكون عالمه الحقيقيّ. يقول باشلار: «غالباً ما يجدّ الخيال في إثر السعادة، يبتكر حياةً جديدة، ويفتح الأعين على أنماطٍ مستحدثة للرؤية»[34]. ويقول ستاروبنسكي في المعنى عينِه: «يَنفي الكاتبُ ذاتَه في عمله، يتجاوزها، يتحوّل»[35]. أمّا الناقد فقارئٌ يَقِظ، يُعيد اكتشاف تجربة الكاتب، يتمثّلها، يحلم الحُلم نفسَه، ويعيد بناء أو تأسيس عالم الفنّان/ الإنسان. إنّه يسائل النصّ بوصفه شكلاً من أشكال حضور الآخر، وكأنّ دراسة النصّ ضربٌ من المحاكاة أو الترجمة أو الحلوليّة. وفي هذا المجال، يقول رولان بارت (1915- 1980)، وهو مثال الأديب المبدع الآتي من عالم النقد والنقّاد: «ينبغي أن نقرأ كما نكتب... فأن نُجيد القراءة، يعني، بالقوّة، أن نُجيد الكتابة»[36]. ويقول فيلسوف الصورة الأدبيّة والعناصر الأربعة باشلار: «حين نقرأ الشعر، نحيا من جديد إغراءَ أن نكون شعراء. كلّ قارئ شغوف بالقراءة، يغذّي رغبة أن يكون كاتباً ويُخفيها... يبدو أنّ متعة القراءة انعكاسٌ لمتعة الكتابة، كما لو أنّ القارئ هو شبح الكاتب»[37]. هذه القراءة النقديّة المتعاطفة تجعل النقدَ الموضوعاتيّ تَجوالا ً في نصوص الكاتب، وتسمح بمقارنات ومقاربات بينها وبين نصوصٍ أخرى لأدباءَ آخرين، فإذا النصّ وسيلةٌ لكتابة نصٍّ جديد، وإذا القارئ / الناقد منتِجُ النصّ لا مستهلكٌ إيّاه فحسب، حتّى لَيمتزج صوت الكاتب وصوت الشارح (القارئ) ويغدوان توأمَيْن[38].

إجراءات المقاربة الموضوعاتيّة

     تتألّف المقاربة الموضوعاتيّة من ثلاث مراحل:
1.   الإحصاء (تعيين الموضوع من خلال التواتر وانتشار الحقل المعجميّ، بدل الحَدْس وحريّة المدخل كما لدى ريشار، والبحث عن ذكرى في عالم الطفولة كما لدى فيبير)؛
2.   التحليل (فرز وتصنيف ووصف، أي البحث عن إلحاحات لسانيّة وأسلوبيّة ورمزيّة، والكشف عن عَلاقاتها السريّة ومحاولة ردّها إلى مركزٍ  واحد هو الموضوع أو الذكرى الحدث)؛
3.   البناء (بناء عالم المبدع الخاصّ وكونِه الخياليّ والحسيّ بما توافر للناقد من موادّ). وفي ما يلي تفصيل ما أُجمِل.

     تبتدئ القراءة الموضوعاتيّة بعملٍ إحصائيّ، يليه إجراءٌ تحليليّ، ينتهي ببناءٍ تركيبيّ؛ إنّ خير ما يُنصَح به في القراءة الموضوعاتيّة هو الاستهلال بالإحصاء والجدولة، فالفرز والتصنيف، فالوصف، على أن يلاحق القارئ امتدادات الموضوع وتحوّلاته[39]. يُعيَّن الموضوع بالكلمة الأساسيّة التي دلّ عليها التواتر، وانتشر لها حقلٌ معجميّ واسع. ويمكن أن تكون العائلة اللغويّة هي حدّ الموضوع. والتواتر أو التَّكرار دليل هَوَس. ولكن من التَّكرار ما قد يكون بلا قيمة. كذلك العناية بدراسة العنوان[40]، رأس النصّ ونَواتُه وثريّاه، والوسيط بين النصّ والقارئ، والتساؤل الذي يجيب عنه النصّ. بعد ذلك، لا بدّ من كشف العَلاقات بين الكلمات الأساسيّة وشبكاتها المعجميّة، أي كشف عَلاقات الموضوعات بعضها ببعض، وروابطها السريّة، أو توالدها، وإمكان ردّها جميعاً إلى مركزٍ واحد، وكأنّما النقد الموضوعاتيّ يتّجه عفويّاً إلى أن يكون نقداً بِنيويّاً. من هنا، يمكن أن تُعَدّ البِنيويّة ملاذاً يقي خطرَ التفتُّت (والتفلُّت) الذي يهدّد النقدَ الموضوعاتيّ. ولـمّا كانت سِمة الموضوع الأهمّ، في الموضوعاتيّة الأدبيّة، تتمثّل بتوسّعه الشبكيّ لبسط عالم الكاتب الخاصّ، أو كونه الخياليّ والحسيّ، فإنّ دور الناقد ههنا أن يعيد بناء هذا العالم بالموادّ التي تقدّمها له النصوص. وتفصيل المنهج الموضوعاتيّ في خطوات أو مراحل لا يعني فصلها بعضها عن بعض بل هي متماسكة.

مآخذ (نقد النقد الموضوعاتيّ)

     النقد الموضوعاتيّ نقدٌ نفسيّ فرديّ؛ يخصّص جهوده للبحث عن ذات المبدع، فيستلهم التحليلَ النفسيّ؛ ولكنّه يقصّر في تحليل نفسيّة المتلقّي والبيئة والعصر. أين تكمن الخصوصيّة في دراسة موضوعاتِ شاعرٍ ما إذا لم توضع ضمن خريطة الموضوعات في الأدب الذي تنتمي إليه والعصر الذي يحتويها؟

     وهو منهجٌ فرديّ غير أكاديميّ ولكنّه حدْسيّ، أي إنّه يحاول العثور على المهيِّج أو النزوة الإبداعية (L’impulsion créatrice)، فيعيّن نقطة الانطلاق أي الحدْس الأوّليّ الذي يَشِعّ العمل الأدبيّ منه أو يتولّد، وكلّ ناقد يوجّه قراءته وَفْق حدسه الخاصّ إلى اختيار الموضوعات المفضّلة التي يلاحقها. وهذا يعني أنّ للانطباع الشخصيّ (الانطباعيّة أو التأثّريّة) دوراً في الموضوعاتيّة، وبالتالي فقدان الضوابط والتيه في التأويل.

     وهو منهجٌ زئبقيّ يرفض الالتزام بمنهجٍ أكاديميّ محدّد لأنّه يعدّ العملَ الأدبيّ مغامرةً روحيّة وتجربةً إنسانيّة لا يمكن أيُّ معرفة استنفادَ معانيها، فيبتعد من معظم توجُّهات النقد الحديث التي تنادي بالعلميّة والموضوعيّة. ولذلك لم تتحوّل المقاربة الموضوعاتيّة مدرسةً نقديّة، ولم يترك أفذاذها وراءهم خَلَفاً يكون سليل باشلار أو ستاروبنسكي أو ريشار[41]. ويُخيّل إلينا أنّ الموضوعاتيّة أعادت الاعتبار للتأثريّة، ولكنّها حاولت تقنينها لأنّها تتطلّب العفويّة (أو الانطباعيّة) والمقدرة على التأمّل والتحليل في آن. قال جان بيار ريشار موقناً بجزئيّة المنهج الموضوعاتيّ ونسبيّته: «النقد لا مُهمّة له غير نسج لوحة لا منتهية، فهو يشبه بينلوب التي ليست في حاجة إلى الاستيقاظ ليلاً لفكّ نسيج يومها، مادام التقدّم في القراءة (النقديّة) يوماً بعد يوم هو ما يكشف ويضع الاكتشافات موضعَ تساؤل»[42].

الحُكم الختاميّ

     يمنح النقدُ الموضوعاتيّ الباحثَ:
- حرّية اختيار الموضوعات التي تثيره (حريّة المدخل).
- حرّية مقارنة النصوص بعضها ببعض واستنطاقها (القُربى السريّة).
- حرّية الإفادة من سائر المناهج الأدبيّة، وانفتاحه على علم النفس والفلسفة (إقراره بجُزئيّته).
     إنّ النقد الموضوعاتيّ نقدٌ فريد، يصبو إلى أن يكون دراسةً مرنة شاملة وجامعة إن بأهدافها أو وسائلها؛ فالكلام، في عمقه وثرائه، يرادف الوجودَ الانسانيّ الكامل. ومن هنا لصوق النقد الموضوعاتيّ بذات صاحبه (بَدْءاً بالذاتيّة في اختيار الموضوعات) وانفتاحه على العلوم الإنسانيّة ولا سيّما التحليل النفسيّ، واستعانته بمختلف المناهج النقديّة في سبيل التقاط نَبْض الخطاب الأدبيّ وإيقاعه الرئيس. والنقد الموضوعاتيّ لا ينفي الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة والاقتصاديّة، ولكنّه يضعها بين قوسَيْن. يقول ريشار في هذا الصدد: «النقد أوّلاً وأخيراً ممارسة انطباعيّة في ضوء منهجٍ خاصّ يعتمده الناقد وسيلةً لإلقاء مزيدٍ من الضوء على العمليّة الأدبيّة... الإحساس فرس رهان النقد... بداية الطريق النقديّة انقيادٌ للمناهج الصارمة، أمّا نهاية الطريق فعودة إلى الذاتيّة وممارسةُ انطباعيّةٍ حرّة»[43]. إنّ النقد الموضوعاتيّ هو، في نهاية المطاف، مغامرة وجوديّة شخصيّة مهما بلغت أداتها النقديّة من دقّة[44].





* متخصّص بالآداب العربيّة. أستاذ في الجامعة اللبنانيّة، وجامعة القدّيس يوسُف - بيروت. تشكّل هذه الدراسة جُزءاً من المقدّمة التي كتبها المؤلّف لأطروحة الدكتوراه (الجامعة اللبنانيّة، 2003). وقد نُشرت الأطروحة كتاباً حمل عنوان: الحبّ والموت من منظور السيرة الذاتيّة بين مصر ولبنان (بيروت، دار المشرق، ط1، 2009، 480ص).

[1] 
.Marcel Proust, Albertine disparu (Paris, Gallimard, 1992(, p. 206
[2]  لفظة Thèmeمن أصلٍ يونانيّ، تعني فكرة، معنى، اقتراح يتمّ التفكير فيه لإنتاج خطاب.اُنظر: 
Le Petit Robert (Paris, 2003), p. 2605 ; Le Petit Larousse illustré (Paris, 2001), p. 1006.
[3]  ابن منظور، لسان العرب (بيروت، دار صادر، ط3، 1994)، 8/396. وفي جمهرة اللغة، تأليف ابن دريد، تحقيق رمزي بعلبكيّ (بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1987)، 2/905: «امرأة واضع، إذا ألقت قِناعها».
[4]  بطرس البستانيّ، محيط المحيط (بيروت، مكتبة لبنان، 1998)، ص974.
[5]  مجمع اللغة العربيّة، المعجم الوسيط (القاهرة، ط4، 2004)، ص1040.
[6]
 Daniel Bergez et al., Introduction aux méthodes critiques pour l’analyse littéraire (France, Dunod, 1995), p. 96.  
الحشرة موضوع (= الفكرة المتسلّطة Motif ) في شعر غارسيا لوركا، ظاهرة واضحة تتعلّق بمفردات اللغة؛ أمّا تنويعاتها الضمنيّة وتشكّلاتها في نصوصه (الموضوع أو الجذر Thème ) فهي الحرير، والشرنقة، والطبيعة، وما يمكن أن يرمز إليه من مواسم العطاء والنضوب والزمن المتجدّد والمتآكل... ومجموع هذه الموضوعات تشكّل موضوعاتيّة ( Thématique) الكاتب أو الشاعر أي ما يرتبط بالموضوع ويستند إليه (جان بول فيبير في تكوين العمل الشعريّ). ومن عناصر التشكّل المتردّدة عند ستندال السجن المرتفع، والبرج العالي، وقُبّة الأجراس الشاهقة (مارسيل بروست في السجينة). ومن عناصر التشكّل عند بروست الزهر والسمك والمصباح والناقوس... ذلك لأنّ وعي الإنسان مسبوق دائماً بظهور الأشياء، موضوع الوعي (جان بيار ريشار في بروست والعالم المحسوس).
[7] Jean-Paul Weber [1958], La psychologie de l’art (Paris, PUF, 1960), p. 91, 121.
[8] Ibid., p. 136.
[9]  من حديث جان بيار ريشار في الإذاعة الفرنسيّة، ذكره عبد الكريم حسن في كتابه النقد الموضوعيّ - نظرية وتطبيق (بيروت، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، ط1، 1990)، ص39.
[10]  سعيد علّوش، النقد الموضوعاتيّ، «وضعيّة النقد الموضوعاتيّ» (من موقع د. سعيد علّوش):
[11]  م. ن.، مقدّمة عالم مالارمه التخيّليّ، ترجمة سعيد علّوش.
[12]  على سبيل المثال: العمى في أعمال طه حسين، والصراع في أعمال توفيق الحكيم، والتصوّف في أعمال بنت الشاطئ، والجلجلة في أعمال ميخائيل نعيمه، والجوع في أعمال توفيق يوسُف عوّاد، واليُتم في أعمال ليلى عسيران. اُنظر كتابنا: الحبّ والموت من منظور السيرة الذاتيّة بين مصر ولبنان (بيروت، دار المشرق، ط1، 2009). ومِن الباحثين مَن درس الشعراء انطلاقاً من «تيمة أساسيّة» لا تنفكّ تجلّياتها تدور في إطارها ولا تخرج عن مدارها، وهذه التيمة هي مفتاح هذا الشاعر أو ذاك، كالضمير المتكلّم في شعر عنترة، وضمير المتكلّمين في شعر عمرو بن كلثوم، وصيغتَي الأمر والنهي في شعر أبي نواس، وصِيَغ التسوية في شعر أبي العلاء، والمفارقة بين الماضي والحاضر في شعر صلاح عبد الصبور، ورفض استنساخ الماضي في الحاضر في شعر أدونيس. اُنظر: أحمد عبد الحيّ، مفاتيح كبار الشعراء (القاهرة، بلنسية للنشر والتوزيع، ط1، 2006)، ص11-12.
[13]  راجع حوار ريشار مع فؤاد أبو منصور في النقد البنيويّ الحديث (بيروت، دار الجيل، ط1، 1985)، ص189.
[14]  عبد الكريم حسن، م. س.، ص71.
[15]  اُنظر: نبيل أيّوب، نصّ القارئ المختلف (بيروت، مكتبة لبنان، ط1، 2011)، ص292-293.
[16]  يقول بروست متوجّهاً إلى صديقته ألبيرتين: «تجدين لدى ستندال إحساساً بالارتفاع يرتبط بالحياة الروحيّة: في المكان العالي حيث سُجن جوليان سوريل (بطل رواية الأحمر والأسود)، والبرج الشاهق الذي اعتقل فابريس (بطل رواية محبسة بارما)، وقُبّة الجرس التي ينصرف فيها الأب بارنيس إلى علم التنجيم والتي يتسنّى منها لفابريس إطلالة ما أجملَها». أنظر:
Marcel Proust, La Prisonnière (Paris, Gallimard folio, 1991), p. 363 ; voir aussi p. 361.
[17]  غاستون باشلار فيلسوف فرنسيّ في العلوم وفي الشعر. كان جَدّه فلّاحاً، وأبوه إسكافيّاً؛ ولكنّه كان عِصاميّاً، فما كان يتوقّف عن تثقيف نفسه ليلاً بعد الانتهاء من عناء العمل نهاراً في إدارة البريد والبرق والهاتف حتّى نال إجازة في الرياضيّات (1912). وصف ليالي الدراسة والكدح والعزلة التأمليّة في كتابه لهب شمعة (1961). درّس في التعليم الثانويّ الفيزياء والكيمياء سنواتٍ مديدة. ترمّل بعد ستّ سنوات من زواجه (1920)، وعاش وحدَه مع ابنته (سوزان) ووقف نفسه على تربيتها، وظلّ يوالي صعوده الجامعيّ، فحصل على شهادة التبريز في الفلسفة (1922)، وعلى الدكتوراه في الآداب من السوربون (1927)، ثمّ عُيّن أستاذاً للفلسفة في كليّة الآداب في ديجون، وشغل كرسيّ فلسفة العلوم في السوربون (1940-1955). كان أسلوبه في الحقل الفلسفيّ نسيج وحده أنضجه العمل في العزلة وأبعده عن الطرائق الأكاديميّة. تأثّر باشلار بكانط وهيغيل (في فلسفة الرفض) وكونت (في تكوين العقل العلميّ) ونيتشه وبرغسون وفرويد ويونغ (أنظر تأثّره بهذا الأخير في: شاعريّة أحلام اليقظة، ص17+؛ التحليل النفسيّ للنار، ص47+ ]النسخة الفرنسيّة[). كان باشلار الأب الروحيّ للنقّاد الموضوعاتيّين. اهتمّ بالخيال الإنسانيّ، الذي يضمّ جميع الوظائف النفسيّة، أكثر من اهتمامه بالعالم التخيّليّ الخاصّ بالمؤلّف. ورأى أنّ مكوّنات الخيال الماديّ كامنة في العناصر الأربعة التي ذكرها فلاسفة اليونان، والتي هي العناصر الأساسيّة في نظريّات نشوء العالم: النار (يستحضر باشلار هرقليطس وأنبادوقليس ونوفاليس وهولدرلين وهوفمان وفرثر غوته. النار كائنٌ اجتماعيّ حيّ، مسؤولة عن التحوّلات السريعة، ترمز إلى رغبة التغيير واستعجال الزمن بلوغاً إلى الماوراء. والنار حميميّة، كانت العمليّة الجنسيّة في أساس اكتشافها؛ وكونيّة، تجمع بين المادّة والروح، الخير والشرّ...)؛ الماء (يستحضر إدغار ألن بو ونوفاليس وسترندبرغ. المياه الصافية هي مرآة النرجسيّة، والتعبير عن رغبة التطهّر والتحليق خارج الزمن، والاتّحاد بالكون. والمياه الراكدة ترتبط برؤية الموت...)؛ الهواء (يستحضر نيتشه وشيلي وبلزاك وريلكه. يرمز إلى حُلم الطيران الخاضع لجدليّة الخفّة والثقل. ويرمز إلى البرودة والصمت بكونه يتضوّع على القمم. يتحوّل إلى ريح عندما يغضب ويثور على الكون وعلى العفويّة، وهو نفحة الروح ومنبع الإلهام الذي تتدفّق منه القصيدة...)؛ التراب (يستحضر وليم بلايك وهنري ميشو. من التراب تنشأ صور الصلابة وترتبط بمشاعر العظمة والمهابة. أمّا صور العجين فتعبّر عن التحوّل والصيرورة...). في وسع الناقد الأدبيّ أن يعيد كافّة الصور الشعريّة عند شاعر معيّن إلى عنصر معيّن من هذه العناصر الأربعة، وهنا تكمن خصوصيّة الفلسفة الباشلاريّة الجماليّة وانعكاسها على خصوصيّة الإبداع، فهي تبحث عن خصوصيّة الإبداع من خلال إرجاع العمل الأدبيّ إلى عنصرٍ واحد. وهذا ما يستدعي أنّ باشلار، عندما يبحث عن العناصر الأربعة، لا يبحث عنها في الطبيعة وإنمّا في الفكر الإنسانيّ. وهكذا كان مصطلح الخيال المادّي. هذه العناصر الأربعة هي أصل الصور التي تنتجها البشريّة كلّها. إنّ أصالة الكاتب إنّما تُقاس بجِدّة صوره، وإنّ وظيفة الصورة أن تعطي العالم شكلاً جديداً، وإنّ الناقد مَن يعثر على الصورة الشعريّة في انبثاقها، ويدعها ترنّ في ذاته، ويكتشف تنظيمها السريّ، ويحلم برفقة الآثار الأدبيّة. قال (التحليل النفسيّ للنار، ص154): «لحُلم اليقظة (أو الهاجس) ميادين أربعة، أربع زوايا ينطلق منها إلى الفضاء اللامتناهي. لتكشفَ سرّ شاعرٍ حقيقيّ، يكفي أن تسأله سؤالاً واحداً: قل لي ما هو شبحُك؟ هل هو العفريت، أو السَّمَنْدَر (أو السَّمَنْدَل)، أو حوريّة البحر، أو السِّلْفة؟» السَّمَنْدَر دُوَيبة تدخل النار ولا تحترق، والسِّلْفة  كائن خرافيّ أنثى يرمز إلى الهواء في الأساطير السلتيّة. من مؤلّفات باشلار: التحليل النفسيّ للنار (1938)، الماء والأحلام (1942)، الهواء والأفكار (1943)، التراب وأحلام السكون (1946)، التراب وأحلام الإرادة (1948)، شاعريّة المكان (1957)، شاعريّة أحلام اليقظة (1960)... للتوسّع، راجع: غادة الإمام، باشلار - جماليّات الصورة (بيروت، دار التنوير، ط1، 2010). وحول سيرة باشلار، راجع: جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة (بيروت، دار الطليعة، ط2، 1997)، ص143-144.
[18]  أهمّ أعمال بوله: دراسات في الزمن الإنسانيّ (4 أجزاء، 1949-1968)، تحوّلات الدائرة (1961)، الفضاء البروستيّ (1963)، الوعي النقديّ (1976). كلّ دراسة، في منهجه، هي بحثٌ عن سرّ أو عن أصل، أي عن اللحظة السابقة على لحظة الكتابة. الكتابة معناها اكتشاف الذات المتأمّلة ممّا يُلزم الناقد اختراق وعي المؤلّف، واستبدال وعي بوعي آخر. على الناقد أن يقارب منتَج أيّ أديب كما لو أنّه يفكّر ويشعر ويتألّم ويتصرّف داخله هو نفسه، وأن يتماثل وعالمه. أصول قراءته الموضوعاتيّة تنبع من مقولة وعي الأديب بذاته من خلال وعيه بالزمان والمكان / الفضاء، استناداً إلى  كتابات باشلار حول الزمان، ومقاربته مفهوم اللحظة. وما النصّ الأدبيّ سوى التجسيد الفنّيّ لهذا الوعي أو كوجيتو الكاتب. «السؤال من أنا؟ يمتزج بسؤال متى أنا؟ ما هي اللحظة التي تمكّنتُ معها من اكتشاف نفسي عند عتبة زمان أصبح زماناً وجوديّاً؟ سؤال يماثله آخر: أين أنا؟ ما هو الفضاء الذي أكتشف فيه نفسي؟» (الوعي النقديّ، ص313).
[19]  لروسّه: الشكل والدلالة (1962)، الداخل والخارج (1968)، أسطورة دون جوان (1978)، القارئ الحميم (1986)... يكاد يكون وحدَه من بين الموضوعاتيّين، مَن يولي الشكل (والبلاغة) عنايةً فائقة. يقول بأنّ الكاتب لا يكتب إلّا ليعبّر عن نفسه لا ليقول شيئاً ما. وهذا ما يؤكّد مدى الترابط بين الذات والموضوع.
[20]  لستاروبنسكي: مونتسكيو بقلمه (1953)، جان جاك روسّو: الشفافيّة والعائق (1957)، العين الحيّة (1961)، اكتشاف الحريّة (1964)، العَلاقة النقديّة (1970)، مونتاني في حالة الحركة (1982)... تنتظم قراءته ضمن موضوع حقل النظر، لأنّ النظرة تجسّد قوّة الرغبة. تناول المؤلّفين الذين لديهم مشروع كتابة سِيَرهم الذاتيّة. العمى الذي أصاب مونتسكيو لم يمنعه إملاء كتبه، كما لو أنّه كان يرى أفكاره. البشر يفهمون متى عرفوا النظر، وينتصرون لوضوح النهار ضدّ مخاوف الليل. لم يرَ ستاروبنسكي في مونتسكيو سوى خادم النور. وتركيزه في حقل النظر جعله الأكثر انفتاحاً، من بين الموضوعاتيّين، على التحليل النفسيّ (الفرويديّة). وقد ماثل بين تخصّصه الطبيّ ورؤاه النقديّة.
[21]  لريشار: الأدب والحسّ (1954)، الشعر والأعماق (1955)، عالم مالارمه التخيّليّ (1961)، إحدى عشْرة دراسة في الشعر الحديث (1964)، بروست والعالم المحسوس (1974)، قراءات مِجهريّة (جزآن، 1979-1984)... اهتمّ بالتنظير للموضوعاتيّة وبالتطبيق. تكلّم على إدراك العالم الحسيّ، وكان الخيال والحسّ فرسَيْن تقودان عربة النقد الريشاريّ. وفي منهجه، على القارئ (الناقد) أن يحدّد موضوعاتيّة النصّ، ويلاحقها عبر تنويعاتها وتشكيلاتها (تمزيق جسد أوزيريس)، ويحلّلها لكي يكشف عن القُربى السريّة بين الموضوعاتيّة الأصليّة وتحوّلاتها المختلفة (كجذع الشجرة وغصونها)، وهيكلها غير المرئيّ، وقوانينها الداخليّة، حيث تتكوكب الموضوعات وتتبادل الإشعاع وصولاً إلى العالم الفنيّ الحسّيّ الخياليّ (جمع أشلاء أوزيريس في وَحدة جديدة). ومن مبادئه النقديّة وإجراءاته العمليّة: الحلوليّة أو تعاطف القارئ مع المبدع، حريّة المدخل أو الحدْس بالموضوع، القراءة المجهريّة أو الوقوف عند التفاصيل مهما صغُرت، الاطّراديّة أو التَّكرار وتواتر الموضوع. مع ريشار تحوّل النقد الموضوعاتيّ إلى منهج متكامل. وقد خصّص عبد الكريم حسن دراسته (النقد الموضوعيّ - نظرية وتطبيق) للتجربة النقديّة الريشاريّة.
[22]  جان بول فيبير هو أوّل من استعمل المصطلح (الموضوع) في معنىً نقديٍّ خاصّ. من مؤلّفاته: علم نفس الفنّ (1958)، تكوين العمل الشعريّ (1960)، ميادين موضوعاتيّة (1963)، ستندال: البنى الموضوعاتيّة للأثر والقدر (1969) حيث أرجع أعمال ستندال الإبداعيّة كلَّها إلى منبعٍ واحد (أو موضوع واحد) هو «العضّة» التي تعود إلى حدث وقع له في طفولته، حين عضّ قريبته البالغة من العمر 25 سنة، وأحدث تشويهاً في خدّها لـمّا ألحّت عليه أن يقبّلها وهو طفلٌ صغير لم يتجاوز الثالثة. وقد روى ستندال هذه الحادثة في سيرته الذاتيّة حياة هنري برولار، الفصل الثالث. أمّا عنوان روايته الشهيرة الأحمر والأسود فتعديلٌ جُزئيّ لموضوع العضّة أي لخدّ الفتاة الأحمر قبل حدوث العضّة وللّون الأسود بعدها. ومثله بول فاليري الذي وقع طفلاً في حوض ماءٍ للبجع، وما انفكّ يلمّح في قصائده إلى هذا الحادث (المقبرة البحريّة- الاحتضار العذب...). تقوم طريقة ويبير على أربعة إجراءات تقنيّة يحدوها تأويل النصوص: 1- البحث في عالم الطفولة عن الذكريات المضيئة (البصمة) ثمّ مقارنتها بأعمال المؤلِّف؛ 2- البحث عن نصوص بسيطة (قصيرة) تحمل دلالات رمزيّة إلى موضوع ما؛ 3- الكشف عن الإلحاحات اللسانيّة والأسلوبيّة (التَّكرار) والسعي لإرجاعها إلى إحدى ذكريات الطفولة؛ 4- القيام بمسْح شامل لأعمال المؤلّف في محاولةٍ لإرجاعها كلِّها إلى موضوعٍ واحد.
[23]  نشر مارسيل بروست في العام 1954 كتاباً نقديّاً حمل عنوان ضدّ سانت بوف
 (Contre Sainte-Beuve)، أداره على أدبائه الأثيرين لديه (نرفال، بودلير، بلزاك، فلوبير)، وهاجم فيه الناقد الأدبيّ الشهير سانت بوف (1804-1869)، وناهض منهجه النقديّ الذي يدرس شخصيّات الكتّاب والشعراء درساً نفسيّاً عضويّاً، ويرى في آثارهم الأدبيّة انعكاسَ سِيَرهم كما الصورة في المرآة. ونادى بروست بتطبيق نقدٍ نصيّ أسلوبيّ يعزل العملَ الأدبيّ عن العوامل الخارجيّة. وإنّ عمله الإبداعيّ الكبير (بحثاً عن الزمن الضائع) يُعَدّ تحقيقاً لرؤياه النقديّة. يمكن قراءة  كتاب بروست ضدّ سانت بوف على الرابط التالي:
[24]  نبيل أيّوب، م. س.، ص297-299.
[25] Jean Starobinski, La relation critique (Paris, Gallimard, 1970), p. 274.
[26] Jean-PierreRichard, Littérature et Sensation (Paris, Seuil, 1957), p. 14.
[27]  أنسي الحاج، خواتم (قبرص ولندن، رياض الريّس للكتب والنشر، ط1، 1991)، ص118.
[28] Bergez, op. cit., p. 116.
[29]  اِقرأ مختصراً مفيداً للفلسفة الظواهريّة (أو الظاهراتيّة) أعدّه أنطوان خوري في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة (بيروت، معهد الإنماء العربيّ، ط1، 1988)، مج 2، القسم الثاني، ص839- 854. واقرأ أيضاً ما أعطت فلسفة الفينومنولوجيا النقدَ الموضوعاتيّ في كتاب عبد الكريم حسن، م. ن.، ص29- 35. ومن المفيد جدّاً قراءة ما كتبه باشلار حول فينومينولوجيا الخيال والحلم والصورة الأدبيّة في مقدّمتَي كتابَيْه:
La poétique de l’espace (France, PUF, 1957), p. 1-21 ; La poétique de la rêverie (France, PUF, 1960), p.  1-23.
[30]راجع مقدّمة ريشار، في كتابه المسمّى قراءات مِجْهريّة
Microlectures (Paris, Seuil, 1979), p. 7-11                   
[31] La psychanalyse du feu (Paris, Folio, 1990), p. 36.
[32]  اُنظر الحواشي: 7-8-22.
[33]  مقدّمة عالم مالارمه التخيّليّ، ترجمة سعيد علّوش في النقد الموضوعاتيّ (من موقعه).
[34] Bachelard, L’eau et les rêves (Paris, José Corti, 1942), p. 8, 25.
[35] Starobinski, op. cit., p. 22.
[36] Roland Barthes, Critique et vérité (Paris, Seuil, 1966), p. 52- 53.
وقد مارس بارت نفسُه النقدَ الموضوعاتيّ في كتابه ميشله بقلمه (1954)، وخصّص صفحات للموضوعاتيّة في كتابه س/ز (1970).
[37] Bachelard, La poétique de l’espace, p. 9-10.
[38] يعمد النقد الموضوعاتيّ إلى الإكثار من الشواهد ونسج الكلام النقديّ وصوتَ العمل الأدبيّ معاً؛ فالنصّ والتحليل عند جورج بوله وجان بيار ريشار لا يكادان ينفصلان، إذ يستعير الناقد كلماتٍ من النصّ يحتويها داخل خطابه الخاصّ. راجع : Georges Poulet, Etudes sur le temps humain (France, Plon et éd. du  Rocher, 1977), Tome 4 ; Jean-Pierre Richard, Onze études sur la poésie moderne (Paris, Seuil, 1964).                                           
وستاروبنسكي يتكلّم بلسان روسّو وستندال، ويختار من كلام الأوّل بعضَ عناوين فصوله. راجع كتابَيْه:
L’œil vivant (France, Gallimard, 1961), p. 191-240; Jean-Jacques Rousseau, la transparence et l’obstacle (France, Gallimard, 1971).
وباشلار، إذ يقرأ النصّ الأدبيّ، يترك صداه ينتشر في نفسه، فتأتي تعليقاته مفعمة بالإعجاب أو حالمة، كأنّه يحلم بأحلام شعرائه. اُنظر على سبيل المثال:
L’eau et les rêves, p, 108. 
وهو يعكف على ذاته موظِّفاً بعض ذكريات طفولته في سبيل استكمال أبحاثه النفسيّة. اُنظر:
La psychanalyse du feu, p. 25-27.
[39]  نبيل أيّوب، م. س.، ص303، 316.
[40]  كعناية جورج بوله بعنوان رواية بروست في البحث عن الزمن الضائع، وعناية جان بول فيبير بعنوان رواية ستندال الأحمر والأسود.
[41] Cf. Bergez, p. 86-98-100-102-119.
[42]  مقدّمة عالم مالارمه التخيّليّ، ترجمة سعيد علّوش في كتاب النقد الموضوعاتيّ (من موقعه).
[43]  راجع حوار ريشار مع فؤاد أبو منصور في النقد البنيويّ الحديث، ص192. وقد تصرّفنا في النقل. وللوقوف على مفاهيم النقد الموضوعاتيّ في منهج ريشار، راجع كتاب عبد الكريم حسن الآنف الذكر.
[44]  لتأصيل المنهج الموضوعاتيّ (التيميّ)، يُراجَع: سعيد علّوش، النقد الموضوعاتيّ (الرباط، دار بابل، 1989) وهو متوفّر على موقعه الإلكترونيّ
 حميد لحمداني، سِحْر الموضوع - عن النقد الموضوعاتيّ في الرواية والشعر (الدار البيضاء، منشورات دراسات سال، 1990)؛ عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعيّ - نظريّة وتطبيق (بيروت، مجد، ط1، 1990)؛ محمّد السعيد عبدلّي، البِنية الموضوعاتيّة (أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر، 2003)، الفصلان 1 و2، ص12-175. إضافةً إلى مؤلَّفات أساطين النقد الموضوعاتيّ الواردة في سياق هذا البحث باللغة الفرنسيّة، ومدوَّنة غاستون باشلار العربيّة على هذا الرابط:
http://gastonbachelard1.blogspot.com